مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-04-01

إرث قابوس

مع بداية هذا العام فقدت سلطنة عُمان الشقيقة مؤسسُ دولتها الحديثة وباني نهضتها المجيدة، وفقدت منطقة الخليج العربي أحد مؤسسي مجلس التعاون الخليجي السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان الذي انتقل إلى جوار ربه، تاركاً خلفه دولة يُشار لها بالبنان، قوية من الداخل ومحترمة من الخارج. إنه إرث السلطان قابوس، الذي نجح في أن يخلق هذه المكانة المتميز للسلطنة. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. 
 
عُمان في عهد قابوس كانت مختلفة كل الاختلاف عما كانت عليه قبله. لقد جاء السلطان قابوس للحكم مُحملاً بحملٍ ثقيلٍ من المسئوليات في بلدٍ مزقته الخلافات والحروب القبلية والفكرية، واشتدت عليه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وعانى من عزلةٍ خارجية. كانت عُمان تُسمى سلطنة مسقط وعُمان، وهذا في حد ذاته مؤشر على ضعف البنية السياسة في تلك الفترة في ذلك البلد المترامي الأطراف. لم يكن الحال نتاج فقر الأرض وإنما بسبب سوء الإدارة بالدرجة الأساسية. لذلك كانت عُمان على موعد جديد مع السلطان قابوس. 
 
عندما جاء السلطان قابوس للحكم في عام 1970 أحدث نقلة نوعية كبيرة في البلاد، كان لها الفضل العظيم في بناء عُمان الجديدة. لقد غير السلطان قابوس مفهوم الإدارة والحكم في عُمان إلى فلسفة بناء الإنسان كمرتكز أساسي لبناء الدولة، واهتم بالداخل وتطوير المجتمع العماني ليكون قوياً وقادراً على مواجهة الأخطار التي من شأنها أن تهدد الأمن الداخلي للبلاد، لاسيما مع انتشار الأفكار المتطرفة التي ولدت نتيجة لسياسات التقشف التي أضرت به. لقد كان للسلطان سعيد بن تيمور - والد السلطان قابوس - دوراً كبيراً في المحافظة على وحدة التراب العماني، إلا أن سياسته في إدارة موارد البلاد لم تساعده على خلق أمن واستقرار ووحدة الصف في السلطنة. لذلك كان من المفترض على السلطان قابوس أن يُغير من نهج والده ويتبع نهجاً جديداً يستثمر فيه في الانسان العماني، من خلال توفير التعليم والصحة والخدمات الحياتية. ويالها من نقلة كبيرة شكلها هذا التوجه الجديد في عُمان، التي أصبحت بفضل هذه الفلسفة بلداً رائعاً ومجتمعاً أمنا. فالسلطنة بكل جزء منها أصبحت تدين للسلطان قابوس هذه النقلة النوعية، الأمر الذي جعلها تدين بالحب والولاء لهذا السلطان، لذلك بكى فراقهُ الصغير والكبير.  
 
إرث السلطان قابوس لم يتوقف عند الداخل بل شمل أيضاً الخارج، حيث سعى إلى تحسين صورة السلطنة في الخارج. لذلك اتبع ما سُمي بالاستقلالية في السياسة الخارجية العمانية، وهي السياسة التي حاول من خلالها الابتعاد عن التحالفات والاستقطاب الدولي الذي من شانه أن يحدث ضرر بمصلحة عُمان. نعم أدرك السلطان قابوس أهمية دول الخليج العربي، لذلك عمل على توطيد هذه العلاقة معها، ولكنه أيضاً سعى إلى تحسين العلاقة مع الخصوم، بهدف إبعاد أخطارها عن السلطنة. وكان له ما أراد. لذلك عمل على جعل السلطنة تلعب دور الوساطة مع دول مثيره للقلاقل في المنطقة مثل إيران. تغيرٌ كبيرٌ أحدثه السلطان قابوس في سياسة عمان الخارجية، فقبل قابوس كانت إيران أحد أهم خصوم السلطنة ودخلت معها في صراعات مباشرة وغير مباشرة، أما مع السلطان قابوس فإن نهج تصفير الخصوم كان هو شغله الشاغل، حيث لم يرد أن تكون عُمان طرفاً في نزاعات وخصومات دولية قد يكون لها بالغ الأثر على قدرتها في المحافظة على أمنها واستقرارها. فرغم شراكتها مع الولايات المتحد وبريطانيا إلا أن السلطنة ظلت متقاربة مع خصم الولايات المتحدة وبريطانيا الإيراني، ولعبت دوراً في مجال إذابة الخلافات في مرحلة من المراحل وتهدئة التوترات وصياغة مبادرات إيجابية بينهما. هذا النهج هو الذي نُسميه في علم السياسة باستراتيجية الحيطة، وهي استراتيجية تتبعها الدول في مواجهة دولة أو دول قوية أو صاعدة في القوة وتمثل تحدي لها. 
 
هذا الإرث الذي حافظ على عُمان مستقرةً في الداخل وقويةً في الخارج لا يُتوقع له أن يتغير بشكل جذري في عهد السلطان الجديد السلطان هيثم بن طارق البوسعيد. فما صنعه السلطان قابوس سهل على كل من يأتي بعده في السير على نهجه. نعم التحديات ما زالت قائمة، إلا أن حكمة السلطان الجديد ستستطيع تجاوز التحديات بفضل الإرث الذي خلفه السلطان قابوس رحمه الله، وبفضل حنكة وحكمة السلطان هيثم، وبفضل التفهم الخليجي للحالة العمانية والتحديات التي تواجه المنطقة بأسرها. 
 
برحيل السلطان قابوس رحل الآباء المؤسسون لمجلس التعاون الخليجي جميعهم، وجاء الجيل الجديد الذي كلنا أمل أن يعمل على تجاوز تحديات المرحلة، ويعيد صياغة مجلسنا الحبيب وفقاً للإرث الذي اعتمده الآباء المؤسسون. 
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره