مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2018-10-02

المحكمة الجنائية الدولية وأمريكا

في أواخر القرن العشرين كانت فكرة إحداث المحكمة الجنائية الدولية قد اختمرت وأضحت أكثر نضجا من ذي قبل، مع نهاية صراعات الحرب الباردة التي حالت دون الالتفات إلى عدد من الإشكالات والمخاطر المهددة للسلم والأمن الدوليين، ومع تزايد حدّة النزاعات الداخلية التي أفرزت جرائم حرب خطيرة تورطت فيها بعض النظم السياسية والعسكرية، بما خلف عددا كبيرا من الضحايا في البوسنة والهرسك والصومال وجنوب السودان وسيراليون ورواندا.. 
 
كانت هناك رغبة أكيدة لإحداث محكمة دائمة، لتجاوز الإشكالات التي رافقت تطور العدالة الجنائية الدولية، سواء على مستوى تكريس عدالة الأقوى والتي برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مع محاكمة جرائم النازية والفاشية في مقابل غضّ الطرف عن جرائم أخرى متصلة باستخدام السلاح النووي الأمريكي في ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتين.. أو على مستوى إرساء عدالة انتقائية مع توجّه مجلس الأمن إلى إحداث محاكم جنائية مؤقتة لمتابعة مجرمي حرب في بعض النزاعات، كما هو الأمر بالبوسنة والهرسك ورواندا.. دون الالتفات إلى جرائم خطيرة ارتكبت في مناطق أخرى، كما هو الحال بالأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق..
 
منذ انطلاق النقاشات والمفاوضات الأولى القاضية بإحداث المحكمة، عبّرت الولايات المتحدة الأمريكية عن تحفظاتها بشأن عدد من النقاط الداعمة لاستقلالية هذه الهيئة، بما يوحي بأنها ترفض إرساء عدالة جنائية صارمة ومستقلة قادرة على متابعة ومواكبة مختلف الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بغضّ النظر عن جنسيات مرتكبيها..
 
أبدت الولايات المتحدة معارضة شديدة على إحداث المحكمة منذ بداية الأشغال التحضيرية في هذا الشأن، وكانت ضمن سبعة دول فقط صوتت ضد اعتماد نظام روما، بعدما رفضت معظم الدول منح مجلس الأمن صلاحيات كبرى للإشراف على الحالات التي ستبثّ فيها المحكمة. ومع ذلك؛ وقعت على نظام المحكمة في عهد الرئيس السابق «بيل كلينتون» بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2000، قبل أن تتراجع عن ذلك؛ في عهد الرئيس «جورج بوش» الابن في السادس من شهر مايو/ أيار لسنة 2002، لتتوالى حملاتها المكثّفة بعد ذلك لإضعاف هذه المؤسسة الدولية، كسبيل لضمان إفلات مواطنيها من ولايتها القضائية بالرغم من ارتكابهم لجرائم تدخل ضمن اختصاصات المحكمة..
 
وضمن استغلال منحرف للمادة 98 من نظام روما، وفي سبيل حماية موظفيها وجنودها المتهمين بارتكاب جرائم تندرج ضمن ولاية المحكمة من الملاحقة القضائية، قامت أمريكا بإبرام مجموعة من الاتفاقيات الثنائية والجماعية مع عدد الدول، تقضي بامتناع هذه الأخيرة عن تسليم أو نقل المواطنين الأمريكيين المتهمين بارتكاب الجرائم المشار إليها إلى المحكمة، إذا طلبت منها ذلك.
 
وفي سبيل الدفع بأكبر عدد من الدول إلى الانخراط في هذه الاتفاقيات التي تتيح لها تنفيذ سياستها الخارجية بأبعادها العسكرية والسياسية دون صعوبات، نهجت الولايات المتحدة أسلوبي الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، كما هدّدت بالتوقف عن المساهمة في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام.. وفي عام 2003 أعلنت عن إيقاف المعونات العسكرية التي تقدمها إلى 35 دولة منخرطة في النظام الأساسي للمحكمة والتي رفضت التوقيع على هذه الاتفاقيات، قبل أن تقدم على قطع مساعداتها الاقتصادية عن هذه الدول بعد رفض هذه الأخيرة الامتثال لمطالبها في هذا الصدد..
 
عاد التوتر من جديد بين المحكمة وأمريكا في أعقاب التصريحات الأخيرة ل”جون بولتون” مستشار الأمن القومي الأمريكي، بفرض عقوبات على قضاة المحكمة في حال إجراء تحقيقات بصدد العمليات العسكرية الأمريكية داخل أفغانستان، معتبرا الأمر مسّا بالسيادة الأمريكية وتهديدا لأمنها القومي.. كما عبّر عن رفضه للجهود الفلسطينية الساعية لفتح تحقيقات بصدد الانتهاكات الإسرائيلية المرتكبة بالأراضي المحتلة من قبل المحكمة.. فيما ردت هذه الأخيرة أنها ستواصل مهامها المرتبطة بمواجهة الجرائم الخطيرة باستقلالية وتجرّد ودون تأثير أو تدخّل من أية جهة، انسجاما مع مقتضيات نظامها الأساسي ومبادئ القانون الدولي..
 
إن سعي الولايات المتحدة لتقويض مهام المحكمة، هو مؤشر يبرز تخوّفاتها الجدّية المتزايدة من ولايتها إزاء عدد من الجرائم والخروقات التي ترتكبها قواتها المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، أو متابعة الجرائم المنتظمة والانتهاكات الخطيرة التي تقترفها إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.. وبخاصة وأن أكثر من مائة وعشرين دولة صادقت على النظام الأساسي للمحكمة. 
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره