مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2017-11-13

الهجرة والهاجس الأمني

لعبت الهجرة أدوارا حضارية كبرى على مرّ العصور؛ من حيث إسهامها في تلاقح الثقافات وتبادل المعارف والعلوم وانتشار الأديان.. وبفعل الظاهرة؛ تمكنت أوروبا من تجاوز آثار الدّمار الذي أصابها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعدما ساهم المهاجرون القادمون من القارة الإفريقية وغيرها المناطق في إعادة بناء ما تراكم من أزمات وكوارث طالت مختلف المجالات في هذه القارة.. 
 
 
ورغم التحولات الكبرى التي أفرزتها نهاية الحرب الباردة وتجاوز الصراعات الإديولوجية؛ وما رافق ذلك من تحرير للتجارة الدولية وحدّ من نسبة التعريفات الجمركية بما يعنيه ذلك من فتح الحدود أمام عبور البضائع والخدمات.. فقد تمّ استثناء الأشخاص من هذه الدينامية..
 
 
وبعد أن كان عدد الأسوار الحدودية عبر العالم لا يتجاوز الخمسة في منتصف القرن الماضي (فترة الحرب الباردة)، أصبحت تتجاوز اليوم (زمن العولمة) أكثر من ستين جدارا بكلفة تقنية ومالية ضخمة..
ففي هذه المرحلة التي تنامت فيها المعضلات الاجتماعية وتصاعدت حدّة العنف السياسي بسبب الصراع على السلطة وما رافق تفاقم الكوارث الإنسانية في عدد من الدول الإفريقية؛ وتصاعد حدّة الهجرة وطلبات اللجوء نحو دول الضفة الشمالية للبحر المتوسط، قامت هذه الأخيرة باعتماد تدابير وإجراءات غير مسبوقة للحدّ من الظاهرة، مما حوّل عددا من دول الضفة الجنوبية للمتوسط كالمغرب.. من مجرّد بلدان عبور إلى محطات استقبال للمهاجرين الحالمين بالوصول إلى العمق الأوربي..
 
 
وأمام هذه السياسات الصارمة؛ برزت الهجرة السرية في إطار فردي وضمن شبكات منظمة؛ كسبيل لتجاوز الحدود؛ رغم المخاطر والإكراهات التي تحيط بها..
وتشير التقارير  والمعطيات الإحصائية إلى أن حدّة الهجرة بكل أشكالها؛ شهدت ارتفاعا مطردا في وتيرتها خلال العقدين الأخيرين، مع تفاقم المشكلات الاجتماعية وتردّي الأوضاع السياسية والأمنية في عدد من البلدان بما فيها أقطار «الحراك العربي» كسوريا وتونس وليبيا.. مما خلّف كوارث إنسانية تعكسها الظروف المهينة وغير الإنسانية تتخذها رحلة المعاناة التي يقطعها المهاجرون عبر طريق طويل محفوف بالمخاطر؛ تتعرض معه العديد من النساء للاغتصاب؛ ويلقى البعض حتفه جوعا وعطشا؛ زيادة على مظاهر التعسّف والنصب التي يرتكبها الوسطاء في حقهم.
 
 
وتؤكد التقارير الصادرة عن الهيئات الحقوقية والمنظمات المختصة أن الارتفاع الحاصل في حجم الهجرة السّرية في منطقة المتوسط؛ رافقته الكثير من الكوارث الإنسانية الناجمة عن غرق عدد من القوارب والبواخر التي غالبا ما تكون مهترئة.
 
ورغم المطالب التي أطلقتها الهيئات الحقوقية الدولية خلال السنوات الأخيرة والداعية إلى استحضار البعد الإنساني في التعاطي مع الظاهرة تبعا للتشريعات والمواثيق الدولية ذات الصلة؛ فإن تصاعد التيارات اليمينية الرافضة للمهاجرين باعتبارهم مسؤولين عن تفشّي مختلف الإشكالات المعضلات المالية والاجتماعية والأمنية التي تعيشها أوربا، واكتساحها (التيارات اليمينية) للمشهد السياسي في عدد من الدول الأوربية.. عمّق من حجم المعاناة والتضييقات التي تواجه المهاجرين؛ وحال دون إقرار قوانين واتفاقات تدعم تخفيف القيود عن الهجرة؛ وتوفير شروط استقرار واندماج المهاجرين بصورة تحميهم وتحفظ كرامتهم وإنسانيتهم.
 
فغالبية الدول الأوربية ما زالت تتعاطى مع الظاهرة من منظور أمني صرف؛ ويظلّ هاجسها الأكبر هو منع وصول المهاجرين وطالبي اللجوء؛ وتعزيز المراقبة على الحدود؛ في غياب رؤية استراتيجية واضحة المعالم في هذا الصدد، بعدما نجحت الحكومات المتعاقبة في العقود الأخيرة إلى حدّ كبير في التهويل من الظاهرة ومن انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية السلبية في أعقاب العمليات الإرهابية التي شهدتها بعض الدول الأوربية كإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا..
 
ولا تتردّد بعض دول الاتحاد الأوربي في تحميل دول الجنوب من المتوسط مسؤولية مواجهة تبعات الظاهرة لوحدها؛ معتبرة إياها مجرد «دركي» لمنع ولوج المهاجرين إلى ترابها، مع السعي لاختزال مقاربة الظاهرة في الجوانب والزجرية والردعية؛ دون الوقوف على مسبباتها الحقيقية والعوامل المختلفة التي تغذيها؛ متناسية أن الأمر يتطلب مقاربة شمولية تدعم التنمية والاستقرار بالبلدان المصدّرة للهجرة.
لا يمكن وقف الهجرة؛ فهي تجسيد لحرية التنقل التي تكفلها التشريعات الداخلية والمواثيق الدولية، لكن الحدّ من تداعياتها ومظاهرها السّرية التي تخلّف مآس كبرى؛ يتطلب بلورة تعاون جدّي وبنّاء في إطار  تعاون شمال – جنوب؛ يدعم تحقيق التنمية في المناطق المصدّرة للهجرة؛ مع الحرص على تدبير الأزمات التي غالبا ما ترغم الكثير من الأشخاص إلى مغادرة أوطانهم..
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره