مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2012-05-01

رأى العالم على دراجة نارية

بعض الأشياء تصنعنا.. فلا نعرف نشكرها أم نشكر الظروف، في السبعينيات.. كنا في أواخر الصفوف الابتدائية، زار مدرستنا في أبوظبي طوّاف أو رحالة جال العالم على دراجة نارية، منطلقاً من مسقط رأسه سوريا، كان قد أتى على الدراجة نفسها، يتأبط كتاباً ضخماً في حدود الألف صفحة فيه أخباره ومشاهداته ويومياته في بلدان العالم، لا أعرف، ولم أسأل يومها كيف توصل لمدرستنا الداخلية، عارضاً على أولاد صغار تجربة أسفاره في لقاء استمر ساعة ضمن برنامج لا منهجي تقوم به مكتبة المدرسة التي كانت صغيرة، وبجهود مدرسين عرفوا الوعي، وكان التدريس رسالة يحملونها كالشرف، لقد أنصتنا للرحالة السوري عدنان حسني تللو، مثلما لم ننصت لمدرسينا، خاصة وأنه كان يتكلم عن شعوب وأقوام وجغرافيا وتاريخ وحكايات جميلة لا تنتهي، لقد كنت معه في تلك الرحلة القصيرة التي أجملها في ساعة في تلك المدرسة الداخلية البعيدة في العالم، وحينما انتهى، كانت أسئلة معظمنا عن الدراجة وما يتعلق بها، وعزمها، وكم بدل لها من عجلات، قليل منا من تجرأ وسأل أشياء تخص الأمكنة، ربما لأن أحلامنا لم تسافر بعد، وبقيت أسيرة حكايات الجدات في المساء، وقصص مترجمة نقرأها عن سندريللا، وعلي بابا وحراميته الأربعين، وقصص من التاريخ العربي ممنهجة، تحض على القيم والأخلاق، غير أن تلك المحاضرة أو اللقاء بقي في رأسي مولداً أسئلة كثيرة لم أكن أستطيع أن أبوح بها، خوفاً من المعلمين الحضور، ورهبة من التجمع، وقلة حيلة تظل تؤجل أشيائي، حتى أستنطقها وحدي وبغزارة، وربما هذه التي جعلت مني كاتباً فيما بعد، أظل أخزّن الأمور، وأبيتها في الذاكرة حتى ألقيها مندفعة ومتراكمة على الورق، المهم بعد اللقاء كان حديث جانبي أستأثر به المعلمون أكثر من الطلبة، في أجواء ضيافة شبه عسكرية، عصائر معلبة وبسكويت وشاي بالحليب من "البندرة أو كانتين الجندي" الملحق بالمدرسة، وحينما أراد أن يودعنا، شعر بعض الطلبة أمثالي من الذين يشكل الفراق حزناً في الداخل لأمر نحبه، لكن العزاء كان الكتاب الذي أراد أن يبيعه للذين يريدون اقتناء واحتواء تجربته، والاطلاع عليها بعمق، كان عنوانه: "حول العالم على دراجة نارية" وكان سعره وقتها عشرين درهماً، وكان راتبي يساوي 295 درهماً، غير أن الوقت كان غير مناسب لمصاريف طالب يذهب جل ما يكسبه شهرياً، ويزيد من عطاءات الأب أو ما تخفيه الأم عن عين الأب أو ما تصرّه العمة لأبن أخيها البكر، حينما يغادر إلى أبوظبي بعد إجازة الجمعة في العين، إلى السينما، والتلذذ بالأكل الجديد المكتشف في أبوظبي التي بدأت تكبر، وفي أشياء بدأ العمر والبلوغ وطرّ الشارب يتطلبها، وبتشجيع طلبة أكبر منه في زوايا المدينة، لكنني في تلك اللحظة لم أرى أمامي إلا ذلك الكتاب وإقتنائه بأي شكل، وفتشت في دفاتري القديمة، وفي أماكن أدس فيها مبالغ أريد أن أنساها لوقت الحاجة، لم أصدق وأنا أرى الكتاب بين يدي وبتوقيع من الرحالة، وشعرت لحظتها بتفوق على كثير من الطلبة، وبعض المدرسين الذين يحسبون الفلس أكثر منا، كان الكتاب بمثابة جائزة تسلمتها، حتى أنني رأيت عيني مديرنا الأستاذ خليل خريسات تلمع فرحاً، وأمتدحني أمام الرحالة أستاذ التاريخ والجغرافيا، الأستاذ محمود الضميري بإعتباري أحفظ عواصم دول العالم، وعدد سكانها، وبعض الأنهار التي تجري فيها، مباشرة بدأت في قراءة الكتاب، وتعطلت عن اللعب أياماً، وتمنيت أن لا تطفأ الأنوار مبكراً بعد التفتيش الليلي، وربما حلمت بأحداث قرأتها فيه، وربما حلمت أن بعض زملائي في الصف حاولوا أن يسرقوا الكتاب مني أو يمزقوه أو شيئاً من هذا القبيل، فصحوت أصرخ، لقد قرأت الكتاب أكثر من مرة وكادت الذاكرة الطرية أن تحفظ معظم أجزائه، تنقل معي، وهو ما يزال في مكتبتي حتى اليوم مع تعليقاتي والهوامش التي كتبتها على أطراف أوراقه، وتوقيعي القديم، وأسمي الخماسي لكي لا يسرق مني.. اليوم حينما أتذكر ذلك اللقاء، وأتذكر المغامرة باتجاه أسفار بعيدة، ومجهولة من أجل المعرفة والمتعة، أشكر ذلك الطوّاف أو الرحّال أو الجوّال الذي زار العالم، وجاء لمدرستنا البعيدة بالصدفة ربما، وزرع في داخلي شيئاً ممتعاً هو حب السفر والطيران برّاً وبحراً وجواً.. الشيء الوحيد الذي لم أرغبه، ولم أحبه يوماً تلك الدراجة النارية ! .
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره