مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-08-02

لغة‭ ‬الحقائق‭ !‬

لغوياً،‭ ‬الحقائق‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬الكذب‭ ‬والخيال‭ ‬،‭ ‬وهي‭ ‬الأشياء‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محسوسة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإنسان‭ ‬ببعض‭ ‬او‭ ‬كل‭ ‬حواسه‭ ‬حتى‭ ‬يتأكد‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬واقعاً‭ ‬لا‭ ‬كذب‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬خيال‭.‬‭ ‬ودخول‭ ‬عناصر‭ ‬التدليس‭ ‬و‭ ‬التزييف‭ ‬يلغي‭ ‬الحقيقة‭ ! ‬كمفهوم،‭ ‬مفهموم‭ ‬“‭ ‬الحقيقة”‭  ‬شغل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬ومنها‭ ‬الحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬التي‭ ‬سخرت‭ ‬كل‭ ‬أدواتها‭ ‬لمعنى‭ ‬“‭ ‬الحقيقة”‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬كان‭ ‬سؤالا‭ ‬يشغل‭ ‬بال‭ ‬الناس‭ ‬وخصوصا‭ ‬المفكرين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬إجابة‭ ‬مقنعة وأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الصواب‭ ... ‬ولطالما‭ ‬كانت‭ ‬مختلف‭ ‬الإجابات‭ ‬محل‭ ‬نقاش‭ ‬مجتمعي‭ ‬بين‭ ‬افراد‭ ‬الشعب‭.‬
 
كما‭ ‬أنشغلت‭ ‬أيضا‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بمفهوم‭ ‬“‭ ‬الحقيقة”‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬مفكريها‭ ‬ان‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬للإمساك‭ ‬بطرفها‭ ‬هو‭ ‬“‭ ‬الشك”‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حيره‭ ‬من‭ ‬أمره‭ ‬ويدفعه‭ ‬الى‭ ‬البحث‭ ‬والتساؤل‭ ‬والتوقف‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬وتحليلها‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬عقلي‭ ‬ومنطقي‭ ‬كطريقة‭ ‬للوصول‭ ‬الى‭ ‬“‭ ‬الحقيقة”‭.‬
 
وللحقيقة‭ ‬أنواع‭ ‬وأشكال‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭ ‬حقائق‭ ‬تفرضها‭ ‬العلوم‭ ‬الرياضية‭ ‬والحسابية‭ ‬،‭ ‬فلطالما‭ ‬أرتبطت‭ ‬الأرقام‭ ‬بالحقائق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬عدة‭ ‬أهداف‭ ‬كتعزيز‭ ‬الطرح‭ ‬والنقاشات‭ ‬المختلفة‭ ‬،‭ ‬مواجهة‭ ‬الشائعات‭ ‬ودحض‭ ‬الافتراءات،رفع‭ ‬المصداقية‭ ‬لدى‭ ‬الأطراف‭ ‬المتلقية‭ ‬للمعلومات‭! ‬وان‭ ‬غيابها‭ ‬يعني‭ ‬العكس‭ ‬تماما،‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬الطرح‭ ‬ضعيفا‭ ‬ًسطحياً‭ ‬وغير‭ ‬قابل‭ ‬للتصديق‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الأرقام‭ !‬
 
وهناك‭ ‬حقائق‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬الأخلاق‭ ‬وهي‭ ‬حقائق‭ ‬تفرضها‭ ‬الطبيعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬النقية‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬قابل‭ ‬للنقاش‭ ‬،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الفطرة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬ان‭  ‬الاخلاق‭ ‬أمر‭ ‬ثابت‭ ‬،‭ ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬الفلاسفة‭ ‬يرون‭ ‬ان‭ ‬الأخلاق‭ ‬أمر‭ ‬متغير‭ ‬اذا‭ ‬ما‭ ‬وضعنا‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬ظروف‭ ‬المجتمع‭ ‬والمتغيرات‭ ‬المؤثرة‭ ‬على‭ ‬الأخلاق‭ ! ‬وهو‭ ‬أقرب‭ ‬للمنطق،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قارنا‭ ‬“‭ ‬الأخلاق”‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬الانترنت‭ ‬وشبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ونوع‭ ‬المحتوى‭ ‬المتداول‭ ‬عبرها‭ !‬
 
في‭ ‬مجال‭ ‬الاعلام،‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬“‭ ‬أرقام”‭ ‬واحصائيات‭ ‬تعزز‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬تداولها‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الاعلام‭ ‬المختلفة‭ ‬و‭ ‬تعطي‭ ‬مدلولات‭ ‬محددة‭ ‬للمتلقي‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الرسائل‭ ‬الاتصالية‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬سواء‭ ‬بالسلب‭ ‬أو‭ ‬الايجاب‭..‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يتفاوت‭ ‬من‭ ‬متلقي‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ -‬خصوصا‭- ‬اذا‭ ‬أخذنا‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬عوامل‭ ‬مختلفة‭ ‬منها‭ ‬الخصائص‭ ‬الديمغرافية‭ ‬وعناصر‭ ‬التنئشة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬الظروف‭ ‬المحيطة‭ ‬بالمتلقي‭ ‬أثناء‭ ‬تلقي‭ ‬الخبر‭ ‬وحالته‭ ‬النفسية‭ ‬ومدى‭ ‬ارتباط‭ ‬الخبر‭ ‬به‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ !‬
 
مؤخراً،‭ ‬أعتمدت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الربحية‭ ‬على‭ ‬الأرقام‭ ‬والاحصائيات‭ ‬يمكن‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومن‭ ‬البرامج‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬ربطها‭ ‬بتلك‭ ‬الشبكات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اتخاذ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬لصالح‭ ‬مخرجات‭ ‬وأهداف‭ ‬المؤسسات،‭ ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭ ..‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬تعتبر‭ ‬هذه‭ ‬الأرقام‭ ‬والإحصائيات‭ ‬حقائق‭ ‬يمكن‭ ‬الوثوق‭ ‬بها‭ ‬؟‭  ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬حصول‭ ‬على‭ ‬خبر‭ ‬على‭ ‬مشاهدة‭ ‬5ملايين‭ ‬شخص‭ ‬،‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬يعني‭ ‬ان‭ ‬ال‭ ‬5‭ ‬ملايين‭ ‬شخص‭ ‬قرأوا‭ ‬الخبر‭ ! ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬الخبر‭ ‬يظهر‭ ‬بشكل‭ ‬تلقائي‭ ‬مع‭ ‬روابط‭ ‬وهمية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية‭ ‬بدون‭ ‬اختيار‭ ‬الزائر‭ ‬وبشكل‭ ‬إجباري‭ ! ‬وبالتالي،‭ ‬على‭ ‬الرقم‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الرقم‭ ‬صحيح‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬ولا‭ ‬يعكس‭ ‬الحقيقة‭ !!‬
 
خلاصة‭ ‬القول،‭ ‬الأرقام‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬لغة‭ ‬للحقائق‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬البرمجيات‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تعطي‭ ‬نسب‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬الواقع‭ ‬،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬،‭ ‬دور‭ ‬المرسل‭ ‬وأخلاقياته‭ ‬،‭ ‬دور‭ ‬المتلقي‭ ‬واطلاعه‭ ‬وثقافته‭...‬وجميعها‭ ‬تحديات‭ ‬‮«‬حقيقية‮»‬‭ ‬وضعها‭ ‬أمامنا‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يهدد‭ ‬‮«‬‭ ‬الحقائق‮»‬‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها‭ !‬
 
السطر‭ ‬الأخير‭ ...‬
لا‭ ‬ينتهي‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المملوء‭ ‬بالمرايا‭ - ‬غازي‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬القصيبي‭.‬
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره