مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-04-02

الاقتصـــاد الوطنــي والأزمــات العالميـــة...اســتقــرار فــي مواجهـــة التحديــات

رؤية واعية للقـيادة الرشيدة ترسخ وتدعم عناصر التنافسية واستدامة التنمية
 
 
في ظروف الأزمات العالمية، يؤكد اقتصاد دولة الامارات قوته ومتانة ركائزه واعتماد على رؤية استراتيجية واضحة، وقد كشفت الأزمة المستفحلة التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي إثر تفشي فيروس “كورونا” أن الاقتصاد الوطني يجني ثمار حسن التخطيط والرؤية الواعية للفرص والتحديات في القرن الحادي والعشرين 
 
 
إعداد: هيئة التحرير
كشفت الأزمة الناجمة عن تفشي فيروس «كورونا» عن تأثر الاقتصاد العالمي بقطاعاته كافة، حيث كشفت تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (اونكتاد) عن تراجع كبير في مراكز الانتاج بالعالم، وقال التقرير التقني للمنظمة إن انكماشا بنسبة 2% في إنتاج الصين له آثار مضاعفة تظهر على مجمل انسياب الاقتصاد العالمي، وهو ما تسبب حتى منتصف مارس 2020 في انخفاض يقدر بنحو 50 مليار دولار أمريكي» في التجارة بين الدول. وقالت رئيسة قسم التجارة الدولية والسلع التابعة للأونكتاد، باميلا كوك-هاميلتون، إن من بين الاقتصادات الأكثر تضررا مناطق مثل الاتحاد الأوروبي (15.5 مليار دولار) والولايات المتحدة (5.8 مليار دولار) واليابان (5.2 مليار دولار) وأضافت المسؤولة الاقتصادية الأممية أنه بالنسبة لاقتصادات «الدول النامية التي تعتمد على بيع المواد الخام» فإن الشعور بهذه الأضرار «مكثف جدا». بينما رأى بعض المحللين والباحثين أن كورونا قد تتسبب في تداعيات اقتصادية ستستهم في تشكيل توازنات القوى العالمية خلال القرن الحادي والعشرين من بوابة الاقتصاد، حيث تأثرت اقتصادات الدول بنسب متفاوتة، كما تأثر مئات الملايين من البشر بالتغيرات الاقتصادية الناجمة عن تفشي كورونا عالمياً. 
 
 
وفي خضم هذا الوقع العالمي الصعب، برز اقتصاد دولة الامارات، كأحد الاقتصادات القوية القادرة على الوقوف بوجه الأزمات بما يمتلك من تنوع وديناميكية وقدرة على امتصاص آثار الآزمات ومعالجة تداعياتها بفاعلية شديدة، حيث اثبتت الأزمات العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي في العقدين الأخيرين نجاح سياسة التنويع الاقتصادي التي انتهجتها الامارات.
 
 
أهمية استراتيجية التنويع الاقتصادي
ترتبط سياسات التنويع الاقتصادي ببدايات اتحاد دولة الامارات، وتعكس الوعي الاستراتيجي البالغ الذي كان يتمتع به القائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث انتبه مبكراً إلى ضرورة امتلاك الدولية الفتية ـ آنذاك ـ قاعدة اقتصادية متنوعة من الموارد ومصادر الدخل، وضرورة تحويل النفط ليس فقط إلى مصدر للدخل ولكن أيضاً لرافد لأنشطة اقتصادية أخرى تعزز مناعة وحصانة الاقتصاد وتحول دون تأثره بانخفاض أو تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، لذا يعد القائد المؤسس رائد سياسات تنويع الاقتصاد بما امتلك من وعي استراتيجي فطري انعكس في تأسيس جهاز أبوظبي للاستثمار عام 1975 لتوظيف الموارد النفطية التي تزايدت في تلك الفترة وحسن إدارتها لتحصين اقتصاد البلاد ضد أي ازمات مفاجئة، لذا فقد ظلت الامارات دائماً بمنأى عن أي تأثير سلبياً في الأوقات والظروف العالمية الصعبة.
 
 
وتهدف سياسة التنويع الاقتصادي إلى خفض المخاطر الناجمة عن الاعتماد على سلع تصديرية محدودة كمورد دخل للاقتصاد الوطنية وتنويع القاعدة الانتاجية والتصديرية بشكل أفق ورأسي ورفع القيمة المضافة للانتاج المحلي وفق خطط مدروسة ، وبالتالي فالمقصود باستراتيجيات التنويع الاقتصادي هو الحد من اعتمادية الاقتصادات الوطنية على عدد محدود من مصادر الدخل ولاسيما العائدات الريعية التي تعتمد على تصدير الموارد الطبيعية كالنفط والغاز، وتوسيع قاعدة اعتماد الاقتصاد الوطني على شريحة عريضة من السلع والخدمات، وفيما يلي استعراض لأهم الأهداف المتوخاة من انتهاج هذه الاستراتيجية بشكل عام: 
 
 
ضمان استدامة النمو الاقتصادي وثباته وتحصين الاقتصاد الوطني في مواجهة تقلبات أسعار الطاقة، وكذلك الأزمات المالية العالمية كما حدث في الأزمة المالية التي اجتاجت العالم عام 2008، وبالتالي توفير الموارد والسبل اللازمة لتحقيق اهداف التنمية المستدامة والرؤى التنموية الطموحة التي تضعها الدولة.
 
 
فتح المجال للانخراط في الاقتصاد العالمي عبر سياسات انفتاح مدروسة والتحرر من القيود والعراقيل وتمكين القطاع الخاص من أداء دوره في توسيع قاعدة النشاط الاقتصادي، وهنا يمكن الاشارة إلى أن القطاع الخاص بدولة الامارات قد أصبح يشارك بنحو 60% من إجمالي الاقتصاد الوطني، بما أسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للدولة، حيث أصبحت الامارات مركز الثقل الرئيسي لجذب الاستثمارات من دول العالم لتصبح مركزاً اقليمياً لجميع الشركات العالمية في مختلف القطاعات، واحتلت المرتبة الاولى عربياً واقليمياً في حجم تدفقات الاستثمارات الاجنبية للاقتصاد الوطني.
 
 
الاستفادة مما يتيحه الاقتصاد العالمي من فرص تسهم في توسع الاقتصادات الوطنية وتنوع موارد الدخل، شريطة وجود بنى تحتية متقدمة وبيئة عمل تشريعية واجرائية متطورة تسهم في تيسير الأعمال، وقد حققت الامارات في ذلك تقدماً تنافسياً عالمياً هائلاً من خلال الانتقال إلى اقتصاد المعرفة والاعتماد على استراتيجيات الابداع والابتكار والعمالة المدربة وايجاد بيئة صديقة للأعمال والاستثمارات، ما جعل دولة الامارات أقل دول مجلس التعاون تأثراً بتقلبات أسعار النفط والأزمات الاقتصادية والمالية العالمية بسبب تراجع الاعتماد على صادرات النفط ضمن مكونات الناتج المحلي الاجمالي، حيث تسهم الصادرات غير النفطية وأنشطة اعادة التصدير بأكثر من ثلثي الصادرات. 
 
 
نجاح خطط التنويع الاقتصادي
لقد أدركت دولة الامارات منذ العقد الأخير في القرن العشرين أهمية اعتماد سياسات تنويع اقتصادي تجنب الاقتصاد الوطني تقلبات أسعار النفط والأزمات المالية العالمية، وقد انعكس ذلك بوضوح في المؤشرات الرقمية التي تشير إلى أن مساهمة القطاع الخاص في تكوين رأس المال قد بلغ نحو %62 عام 2016، مقابل نحو فقط للقطاع الحكومي ونحو %25 للقطاع العام، كما تشير المؤشرات الاحصائية إلى أن مساهمة قطاع حيوي مثل قطاع العقارات وخدمات رجال الأعمال خلال الفترة من 2012ـ 2016 قد تجاوزت نسبة مساهمة قطاع النفط والغاز في تكوين رأس المال الثابت حيث بلغت مقابل 3ر، كما بلغت نسبة مساهمة الصناعات التحويلية وقطاع النقل والتخزين والاتصالات . كما نجحت الامارات في أن تستحوذ بمفردها على نحو %46 من اجمالي تدفقات الاستثمارات الاجنبية المباشرة في دول مجلس التعاون (احصاءات 2016) وأن تجذب أعداد كبيرة من الشركات من دول العالم المختلفة للعمل بدولة الامارات والاستفادة مما توفره بيئة الأعمال التنافسية فيها.
 
 
وتعكس تركيبة الاقتصاد الاماراتي مستوى فاعلية ونجاح خطط التنويع الاقتصادي، فرغم أن دولة الامارات من أكثر دول مجلس التعاون نمواً في الناتج المحلى الاجمالي بفعل التوسع الهائل في قطاع العقارات والخدمات المالية والسياحة والنقل وانشطة اعادة التصدير، فإن الاعتماد على تنويع القاعدة الاقتصادية قد وفر للاقتصاد استقراراً كبيراً بفعل تزايد الاعتماد على القطاعات السلعية والخدمية التي تتسم بأنها أقل عرضة للتقلبات في الاقتصاد العالمي وأكثر فاعلية في تجنيب الاقتصاد أثر الصدمات الخارجية الناجمة عن تقلب أسعار النفط في السوق العالمي. وهنا يمكن الاشارة إلى ارتفاع مساهمة الصادرات غير النفطية في الناتج المحلي الاجمالي من نحو 312 مليار درهم عام 2011 إلى 963 مليار درهم في عام 2016، حيث بلغت نسبة مساهمة القطاعات النفطية في الناتج المحلي الاجمالي عام 2016 نحو   بينما بلغ إجمالي مساهمة القطاعات السلعية والخدمية (عدا النفط الخام) نحو%84,7 في تحول يعكس نجاح سياسة التنويع الاقتصادي وخفض الاعتماد على صادرات النفط.
 
 
أسس الرؤية الاستراتيجية
تعتمد دولة الامارات في التخطيط للمستقبل على رؤية استراتيجية متكاملة وشاملة لا تستهدف قطاعاً تنموياً واحداً بل تنطلق من أهداف دقيقة واضحة للدولة ككل، فالتنافسية والوصول إلى الرقم (1) عالمياً هو الهدف الذي حددته القيادة الرشيدة، وهو هدف يجب أن تصب فيه مختلف الخطط والسياسات في جميع قطاعات التنمية بالدولة، حيث أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في حوار سابق مع مجلة «درع الوطن» أن «ماوصلنا إليه من مكانة يحتم علينا استمرار العمل على تطوير قدراتنا ورفع كفاءتنا وتنويع مواردنا ليس فقط للحفاظ على النجاحات التي بلغنا فيها مدى متقدماً ولكن للدخول إلى مرحلة تنموية جديدة حيث حرصنا على مدار رحلتنا التنموية على البدء دائماً من حيث انتهى الآخرون فتجربتنا راسخة متينة بعراقة تراثنا واصالة ثقافتنا لنصل إلى المستقبل قبل أن يأتي إلينا محملاً بظروف وأوضاع يفرضها علينا لتشكل لنا واقع حياتنا ومفرداتها، فنحن الاقدر على أن نرسم لأنفسنا مساراتنا في الحياة». 
 
 
وفي ضوء الوعي الاستراتيجي بالفرص والتحديات التي تعيشها الدولة والعالم من حولها، جاء النجاح في سياسة التنويع الاقتصادي والانتقال إلى استدامة هذا النجاح والتوسع فيه، وقد كان ذلك عنواناً للخلوة الوزارية التي دعا إليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عام 2015، وحضرها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث تمحورت النقاشات حول تنفيذ رؤية سموه التي أطلقها خلال القمة الحكومية التي عقدت بدبي في العام ذاته، والتي قال فيها «سنحتفل بتصدير أخر برميل نفط»، وهي العبارة الأهم التي تحولت إلى استراتيجية عمل للدولة من أجل تحقيق أهداف رؤية 2021، ورؤية الامارات 2071، ولتستعد الامارات للاحتفال فعلياً بتصدير آخر برميل نفط بموازاة تحقيق أهدافها التنافسية العالمية، اعتماداً على اقتصاد متنوع ومستدام.
 
 
ولاشك أن قمة النجاح تتمثل في الانتقال السلس للدولة من الاعتماد على النفط الذي كان أساساً لمرحلة البناء الاتحادي في عهد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ حيث كان المورد الوحيد القادر على تلبية احتياجات التنمية والبناء في ذلك الوقت، إلى مرحلة تستعد فيها للاحتفال بتصدير آخر برميل نفط في عام 2050 كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.  وقد انتقل التخطيط الاستراتيجي في الدولة بناء على هذه الرؤية من ترسيخ سياسة التنويع الاقتصادي إلى استدامتها من خلال التخطيط لخمسين عاماً مقبلة؛ حيث يُتوقَّع أن ينضب النفط، وذلك في إطار برنامج وطني شامل لاقتصاد متنوِّع ومستدام للأجيال القادمة، يضمن استمرار النمو.
 
 
التخطيط الاستباقي
رغم أن دولة الامارات تعمل على ترسيخ سياسات تنويع الاقتصاد منذ عقود طويلة مضت كما سبقت الاشارة، فإن السياسات الوطنية في هذا الشأن قد حصلت على دفعة قوية عام 2016 بتنظيم خلوة الامارات مابعد النفط، والتي دعا إليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وحضرها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والوزراء وكبار المسؤولين بالحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، وهدفت إلى مناقشة الافكار والمبادرات التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد الوطني وتحقيق التوازن بين قطاعاته بما يضمن استدامته للأجيال المقبلة، وانطلقت من تدارس اوضاع الاقتصاد الوطني وفرص تطوير القطاعات الحيوية غير النفطية وتعزيز كفاءتها، ووجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آلمكتوم في ختام الخلوة بإطلاق استراتيجية متكاملة لإمارات مابعد النفط اعتماداً على مخرجات الخلوة وما تضمنته من أفكار ومبادرات تضمن تحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني وتعزيز نموه المستدام وفقاً لأرقى المعايير العالمية. ويعتبر التفكير الأىستباقي احد أهم أسس التخطيط الاستراتيجي في دولة الامارات، حيث يلاحظ أن القيادة قد عملت منذ سنوات طويلة على تعزيز التحول الرقمي وتطوير الموارد البشرية المواطنة وتأهيل الشباب المواطن لمرحلة التنافسية العالمية والاعتماد عليهم في ريادة وقيادة الأعمال وتحقيق سياسات وخطط الاقتصاد الرقمي، حيث أن الشباب هم أسرع فئة يمكنها تبني أحدث تقنيات المعلومات والاتصالات. وقد احتلت دولة الإمارات الترتيب الأول عالمياً في عدد من المؤشرات العالمية مثل استخدام تكنولوجيا المعلومات، وكفاءة الحكومة، وتغطية شبكة الهاتف المتحرك بالنسبة لعدد السكان. كما أن معدل استخدم الهاتف الذكي في دولة الإمارات وصل إلى 0. ويعد تحسين وتعزيز دور ومهارات الشباب أحد السبل التي يمكن من خلالها للمواطنين المساهمة في عملية التحول الرقمي. وتجدر الاشارة إلى أن الاقتصاد الرقمي يسهم بنسبة %4,3 من الناتج المحلي الاجمالي لدولة الامارات وهناك توقعات بزيادات متسارعة لهذا المؤشر خلال السنوات القلائل المقبلة في ظل تسارع وتيرة التحول واستخدام نحو %40 من سكان الدولة خدمات الحكومة الرقمية أكثر من مرة أسبوعياً، كما تشهد التجارة الالكترونية توسعاً هائلا ً على حساب مؤشرات مبيعات تجارة التجزئة التقليدية.
 
 
اختبارات تاريخية
نجحت قاعدة التنويع الاقتصادي، باختلاف مراحلها وتطوراتها، في تجنيب الاقتصاد الوطني مختلف الأزمات العالمية التي أثرت على أسعار النفط خلال العقود والسنوات الماضية، حيث صمد الاقتصاد الوطني في مواجهة تداعيات الأزمة المالية التي عصفت بإقتصادات ماكان يعرف بالنمور الآسيوية في عام 1997، حين هبطت الأسعار إلى مادون العشرة دولارات، ثم الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث فقد برميل النفط أكثر من ثلثي قيمته السعرية السوقية، وانخفضت الاسعار إلى مادون الأربعين دولاراً. كما شهدت الأسعار تراجعات على مستويات مختلف للمنحني السعري بين عامي 2014 ـ2016،  ونجحت الامارات خلال تلك الفترة في الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة وتحقيق اهداف خططها التنموية، وها هي الامارات تثبت نجاعة رؤاها الاستراتيجية وفاعلية قاعدة التنويع الاقتصادي في مواجهة الآثار العالمية المترتبة على تفشي فيروس «كورونا» وتباطؤ أداء الاقتصادات العالمية وفي مقدمتها الاقتصاد الصيني بفعل تداعيات هذا الوباء العالمي.
 
 
دروس النموذج الاماراتي
تؤكد التقارير البحثية المتخصصة أن تجربة دولة الامارات في استدامة الاقتصاد تمثل نموذجاً يحتذى به اقليمياً وعالمياً، وتعتمد بشكل أساسي على تطور الفكر التنموي للقيادة الرشيدة، التي تحرص على الانفتاح على التجارب العالمية الناجحة في مجال التنمية، والاستفادة من الخبرات والدروس التي تتيحها في بناء نهضة تنموية شاملة ومستدامة في مختلف المجالات، وقد انعكس هذا الفكر في حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة «إن رهاننا الحقيقي في هذه الفترة، وعندنا خير، أن نستثمر كل إمكانياتنا في التعليم»، وفي المحاضرة العميقة لسموه في ختام فعاليات «مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل» في مارس 2017، دعا سموه أبناء الوطن من الطلاب إلى التسلح بالعلم والمعرفة، قائلاً»إننا نريد من أبنائنا وطلابنا أن يتعلموا أفضل التقنيات في العالم؛ ليس أمامنا خيار إلا الاعتماد على النوعية؛ وسلاحنا الحقيقي هو العلم، ونريد أن ننافس بكم دول العالم، فطموحنا أن ننافس دول العالم المتقدمة التي حققت نجاحات في التنمية البشرية والتعليم والاقتصاد مثل فنلندا، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة».
 
 
ويمكن استخلاص دروس وخلاصات عدة مهمة من الفكر التنموي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أولها، أن عملية التنمية شاملة ومستمرة، لا تقتصر على جانب من دون غيره، وإنما تسير بالتوازي في مختلف الجوانب، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وثانيها أن عملية التنمية عملية متواصلة لا تتوقف، ومهما حققت الدولة من إنجازات ونجاحات تنموية، فإنها تتطلع إلى إضافة لبنات جديدة تعزز البناء الوطني الشامخ في كل المجالات، وتدعم طموح الإمارات إلى المركز الأول في المجالات كافة، من أجل ديمومة النمو وتأمين مستقبل الأجيال القادمة وضمان حقها في الرفاه والازدهار. وثالث هذه الدروس أن مسيرة التقدم والتطور لم تعد حكراً على دول أو شعوب وأمم أو ثقافات بعينها، وإنما هي حق لجميع الدول والشعوب متى امتلكت الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، ومتى تسلحت بالعلم والمعرفة وآمنت بقدرات أبنائها، ووفرت لهم البيئة التي تطلق إبداعاتهم وابتكاراتهم، وهذا مايفسر اهتمام سموه المتزايد والعميق  بضرورة العمل على بناء أجيال المستقبل التي تمتلك الأدوات العلمية والمعرفية العصرية والتكنولوجيا الحديثة، كي تكون قادرة على مواكبة خطط الدولة التنموية وطموحاتها المستقبلية في مختلف القطاعات، انطلاقاً من أن أبناء الوطن المتسلحين بالعلم والمعرفة، وفقاً لفكر سموه التنموي، هم ثروة الوطن الحقيقية، التي لابد من الحفاظ عليها وتنميتها والاستثمار فيها، لأن هذا الاستثمار هو الطريق الأمثل للاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. ورابع هذه الدروس أن العلم والمعرفة هو حجر الأساس نحو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة والطريق الأمثل نحو رقي الشعوب ورفعتها، فالتعليم والبحث العلمي القائمان على الابتكار والإبداع يقودان إلى اقتصاد المعرفة، ولهذا قد اهتم  سموه اهتماماً كبيراً بالعمل على إيجاد بيئة تعليمية ومعرفية وبحثية غنية، وخاصة في مجال التكنولوجيا والعلوم والهندسة لمواكبة متطلبات التنمية في الحاضر والمستقبل، بل إن التعليم العصري المتطور، وفقاً لفكر سموه التنموي، هو الذي “سيجعل لحظة تصدير آخر برميل للنفط لحظة للاحتفال وليس للحزن”. وخامس هذه الدروس أن دولة الإمارات العربية المتحدة قادرة على تعزيز مكانتها على خارطة الدول المتقدمة، وتعزيز دورها في إثراء مسيرة التقدم العالمي، انطلاقاً من أن الإمارات تمتلك من الموارد والقدرات البشرية والاقتصادية، التي تؤهلها لكي تكون ضمن أفضل دول العالم، وقد أشار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى ذلك بوضوح في كلمته بمناسبة اليوم الوطني السادس والأربعين بقوله “إننا قادرون على أن نضع دولتنا على خريطة أفضل دول العالم في المجالات المختلفة خلال السنوات المقبلة منطلقين في هذا من تخطيط علمي سليم، واستشراف دقيق للمستقبل والعمل على امتلاك أدوات التقدم من خلال تسليح أبنائنا بالعلوم والمعارف العصرية الحديثة وتمكينهم ليكونوا قادة المستقبل في مختلف مواقع العمل الوطني، ومن خلال التطوير المستمر لأنظمة العمل الحكومي، ومن خلال انفتاحنا الهادف والبناء على التجارب التنموية المختلفة في العالم، والاستفادة منها في دعم اقتصادنا الوطني”.
 
 
أسس استدامة الاقتصاد
تنطلق الأجندة الوطنية لرؤية الامارات 2021 من ركائز عدة أبرزها تطوير بناء اقتصاد معرفي تنافسي مبني على الابتكار، وتهدف إلى أن تكون الامارات العاصمة الاقتصادية والسياحية والتجارية لأكثر من 2 مليار نسمة، وفي سبيل ذلك حددت الرؤية آليات دقيقة وواضحة للانتقال إلى اقتصاد قائم على المعرفة عبر تشجيع الابتكار، ووضعت 12 مؤشراً قياسياً للتعرف إلى مستويات التقدم في هذا الاتجاه منها نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي غير النفطي ونصيب الفرد من الدخل القومي الاجمالي ونسبة صافي تدفقات الاستثمار الاجنبي المباشر من الناتج المحلي الاجمالي ونسبة المواطنين العاملين من إجمالي القوى العاملة بالدولة، ونسبة مساهمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الاجمالي غير النفطي والمؤشر العالمي لريادة الأعمال والتنمية ومؤشر الابتكار العالمي، ونسبة «عاملي المعرفة» من إجمالي العاملين بالدولة وكذا نسبة الانفاق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الاجمالي.
 
 
وتتميز دولة الإمارات العربية المتحدة بامتلاك بيئة استثمارية واقتصادية وسياسية وأمنية مستقرة، قادرة على توفير مقومات مواصلة النمو الاقتصادي رغم حالات الركود التي يشهدها الاقتصاد العالمي خلال فترات زمنية مختلفة، وكذلك في حالات تراجع أسعار النفط، ويعود ذلك لتضافر عوامل عدة:
 
 
موقع استراتيجي حيوي:  تتمتع دولة الإمارات بموقع استراتيجي هام بين مراكز الأعمال الرئيسية في أوروبا، وآسيا، والمحيط الهادئ، وإفريقيا، وأمريكا الشمالية. كما تمتلك دولة الإمارات شبكة مواصلات برية وجوية ممتازة تساعدها على الاتصال مع مختلف دول العالم. ولذا يوجد آلاف من الشركات الصينية التي تستخدم دبي كمحور للتجارة في أفريقيا، كما يستخدمها رجال الأعمال الهنود للوصول إلى العالم، بينما يعتبرها التجار من أمريكا اللاتينية منصة حيوية للانطلاق إلى آسيا الجنوبية. كما تعتبر محوراً اقتصادياً لمجمل منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لرجال الأعمال من أمريكا الشمالية.
 
 
احتياطيات مالية قوية: تحتفظ دولة الإمارات باحتياطات مالية قوية وقطاع مصرفي قوي، يساعدها على توفير بيئة استثمارية آمنة، تكفي الحكومة للاستمرار في توفير التمويل اللازم لكافة مشاريعها، والوفاء بالتزاماتها المالية، والإنفاق في موازناتها العامة دون تعثرات مالية. ويشير تقرير نشرته صحيفة “خليج تايمز” إلى أن صندوق النقد الدولي قد توقع زيادة نمو إجمالي الصناديق الاحتياطية الرسمية لدولة الإمارات من 76.8 مليار دولار في 2015 ، ليصل إلى 118.4 مليار دولار عام 2020. كما سينمو فائض الحساب الجاري من 17.6 مليار دولار عام 2015 إلى 33.4 مليار دولار بحلول 2020. وتصنف شركة الخدمات المالية “ستاندرد أند بورز” العالمية، أبوظبي بفئة AA ، مشيرة إلى مقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها المالية على المدى الطويل وفي ذلك قوة وحصانة إضافية للاقتصاد الوطني لما لاقتصاد أبوظبي من مكانة اتحادية باعتبارها دعامة رئيسية للاقتصاد الوطني.
 
 
صناديق سيادية: وفقاً لتصنيفات مؤسسة الصناديق السيادية (SWFI) المتخصصة في دراسة استثمارات الحكومات، وإحصاءات أكبر الصناديق السيادية في العالم، يعتبر “جهاز أبوظبي للاستثمار” من أكبر الصناديق السيادية في منطقة الشرق الأوسط، وأكبر خامس صندوق في العالم بمبلغ يقدر بـ 792 مليار دولار أمريكي.
 
 
بيئة اقتصادية واعدة: وفقاً لتقرير الاستثمار العالمي الصادر عن “اونكتاد”، تتبوأ دولة الإمارات المركز الحادي عشر عالمياً كبيئة واعدة ومحفزة للاستثمار وذلك لأسباب عدة منها تمتع الدولة بقوانين اقتصادية مرنة، وسهولة في ممارسة الأعمال، واستقرار عملة الإمارات مقابل الدولار الأمريكي وسهولة تحويلها، وعدم فرض أي قيود على إعادة تصدير الأرباح، أو رأس المال، ووجود تشريعات ضريبية جاذبة للاستثمارات، فضلاً عما تضيفه المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية المتخصصة في الدولة من مزايا تنافسية بجانب الكلفة المنافسة للعمالة داخل الدولة.
انفاق حكومي مستمر: حيث يعد الإنفاق الحكومي الكبير على مشروعات البنية التحتية، التي تشمل شبكات الطرق، والأنفاق والسكك الحديدة ، والمباني الاتحادية في مختلف إمارات الدولة، أحد أهم العناصر المحفزة والداعمة لجاذبية الاقتصاد الوطني عالمياً.
 
 
استراتيجيات اقتصادية للتنويع الاقتصادي: تتبنى دولة الإمارات استراتيجيات اقتصادية مُحفزة على التنويع الاقتصادي، وحققت من خلالها نجاحاً تمثل في زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في الاقتصاد الوطني مثل قطاعات: الصناعات التحويلية، والطيران، والسياحة، والمصارف، والتجارة والعقارات، والخدمات، والطاقة البديلة. وقد بلغ إسهام الصناعات النفطية حالياً حوالي 30 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بـ 79 بالمئة عام 1980، وتسير حكومة دولة الإمارات في خطوات ثابتة لزيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في الاقتصاد الوطني لتصل إلى %80 في العام 2021.
 
 
مناطق حرة: تعد المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية المتخصصة العديدة في الدولة (حوالي 45 منطقة حرة يبلغ اسهامها نحو 33 بالمئة من التجارة غير النفطية لدولة الإمارات بحسب بعض التقديرات)  نقطة جذب مهمة وتوفر تنافسية عالية للاقتصاد الوطني بما تمتلك من حوافز ومزايا اقتصادية عدة مثل الإعفاء الضريبي للشركات ورسوم الاستيراد والتصدي، وتملك كامل للأجنبي دون الحاجة لكفيل مواطن، واستعادة 0 للأرباح. 
 
 
الاستثمار الأجنبي المباشر: وفقاً لتقرير الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2017 الصادر عن الأونكتاد، فقد استقطبت دولة الإمارات نحو 10.4 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال العام 2017 بمتوسط معدل نمو قدره %1.6 خلال الفترة 2012-2017.
 
 
المبادرات والسياسات والبرامج المتطورة: تمثل المبادرات والتخطيط الاقتصادي المبتكر أحد أهم عناصر جاذبية الامارات وتنافستيها عالمياً، حيث يشير تقرير ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي لعام 2019، والذي يقيس أداء 190 دولة في تسهيل ممارسة الأعمال للمستثمرين، إلى أن دولة الامارات قد احتلت المركز الأول عربياً والحادي عشر عالمياً، كما حصلت على مراتب متقدمة عالمياً في محاور فرعية مثل الأولى في محور سهولة توصيل الكهرباء، والثانية في محور سهولة دفع الضرائب والخامس عالمياً في محور سهولة استخراج تراخيص البناء والسابع عالمياً في محور سهولة تسجيل الممتلكات والتاسع عالمياً في محور انفاذ العقود. وقد اطلقت الدولة مبادرات عدة تدعم تفوقها وتنافستيها عالمياً مثل تعزيز ريادتها في مجال الاقتصاد الاسلامي، حيث نالت الدولة المرتبة الثانية عالمياً، بعد ماليزيا، كأفضل منظومة متكاملة للاقتصاد الاسلامي، حسب نتائج تقرير واقع الاقتصاد الاسلامي العالمي للعام 2018ـ 2019، وحلت الامارات في المرتبة الأولى عالمياً في 5 قطاعات في هذه التقرير. وهناك مبادرات نوعية مثل استراتيجية الامارات للتنمية الخضراء، وهي مبادرة وطنية طويلة المدى لبناء اقتصاد أخضر في الدولة تحت شعار “اقتصاد أخضر لتنمية مستدامة، وتهدف إلى أن تكون دولة الامارات رائدة عالمياً في هذا المجال، ومركزاً لتصدير وإعادة تصدير المنتجات والتقنيات الخضراء، وهي مبادرة كبيرة تشمل ست مسارات منها الطاقة الخضراء وهي عبارة عن مجموعة من البرامج والسياسات الهادفة إلى تعزيز انتاج واستخدام الطاقة المتجددة والتقنيات المتعلقة بها، بالاضافة إلى تشجيع استخدام الوقود النظيف لانتاج الطاقة والعمل على تعزيز كفاءة استهلاك الطاقة في القطاعين الحكومي والخاص وتطوير معاييرها، وهناك مسار يتعلق بتشجيع الاستثمار في مجالات الاقتصاد الأخضر وتسهيل عمليات انتاج واستيراد وتصدير واعادة تصدير المنتجات والتقنيات الخضراء، وهناك أيضاً مسار عمراني انمائي يتعلق بتطوير المدن الخضراء والتوسع فيها ورفع كفاءة المباني بيئياً وتشجيع استخدام وسائل النقل الصديقة للبيئة او مايسمى بالنقل المستدام، فضلاً عن برامج تنقية الهواء الداخلي للمدن وتوفير بيئة صحية للجميع، وهناك مسار رابع يتعامل مع آثار التغير المناخي والاحتباس الحراري عبر سياسات وبرامج متطورة  تهدف إلى خفض الانبعاثات الكربونية من المنشآت الصناعية والتجارية، ومسار خامس يتعلق بتطوير سياسات الحياة الخضراء عبر سياسات تهدف إلى تشجيع استخدام موارد الماء والكهرباء والموارد الطبيعية وتدوير المخلفات والتوعية والتعليم البيئي للسكان. كما نجحت دولة الامارات في تبني استراتيجيات تحفظ على الاستدامة البيئية وتضمن للاستثمارات أفضل فرص ممارسة الأنشطة من خلال توافر موارد الطاقة المستدامة، حيث تعد الامارات من الدول الرائدة في مجتال الطاقة المتجددة وتمتلك محطات طاقة شمسية من بين الأكبر عالمياً، كما تمتلك محطات انتاج الطاقة من النفايات ومدن بيئية رائدة عالمياً مثل «مصدر» ما يجعل الامارات محرك رئيسي للطاقة النظيفة اقليمياً وعالمياً من خلال مبادرات الاستدامة.
 
 
الاعتماد على الابتكار والابداع: يعد الاعتماد المتزايد على الابتكار في سياسات دولة الامارات أحد أهم عناصر جاذبيتها الاقتصادية والاستثمارية، حيث اتجهت الدولة للاعتماد على العلوم والتكنولوجيا واستشراف المستقبل والابداع والابتكار لتغيير معادلات الاقتصاد الوطني، وتعزيز الاعتماد على الموارد غير النفطية، وقد اطلقت خطة وطنية قائمة على نحو 100 مبادرة وطنية في القطاعات التعليمية والصحية والطاقة والنقل والفضاء والمياه بحجم استثمارات يصل إلى أكثر من 300 مليار درهم. كما اتجهت الدولة أيضاً للتحول نحو الاقتصاد الرقمي والاستفادة من قدرات الدولة وامكانياتها في عملية التحول الرقمي وما تنتجه من طفرات اقتصادية، حيث تعتبر الامارات من أكثر دول العالم تقدماً في مجال تقنية المعلومات وتبني التقنيات الحديثة وتسخيرها لخدمة الاقتصاد وهي أيضاً من أكثر الدول استخداماً للهواتف المحمولة وانتشار الانترنت، ما ينعكس بالتبعية على تعزيز فرص الاستثمار الاجنبي المباشر، ما فتح المجال لإطلاق استراتيجية الامارات للثورة الصناعية الرابعة  في عام 2017، والاستفادة مما توفره من فرص عظيمة للاقتصادات المتطورة والأكثر اعتماداً وتحولاً باتجاه “الرقمنة”. وتهدف هذه الاستراتيجية الرائدة إلى تعزيز مكانة دولة الإمارات كمركز عالمي للثورة الصناعية الرابعة، والمساهمة في تحقيق اقتصاد وطني تنافسي قائم على المعرفة والابتكار والتطبيقات التكنولوجية المستقبلية التي تدمج التقنيات المادية والرقمية والحيوية.
 
 
سياسات تنويع مصادر الدخل وتحديات المستقبل
في ظل مايشهده العالم من فرص وتحديات استراتيجية هائلة، تبرز الأهمية الكبرى لسياسات تنويع مصادر الدخل في الاقتصادات وكذلك مرونة ودينامية هذه الاقتصادات من أجل توفير استجابات فاعلة وسريعة تتفادى من خلالها آثار الصدمات المالية الناجمة عن الأزمات الطارئة مثلما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومثلما يحدث حالياً في مواجهة تفشي فيروس «كورونا» عالمياً، فضلاً عن تحديات عالمية أخرى كبرى مثل الآثار الناجمة عن التغير المناخي،  والتي يتوقع كثير من الخبراء أن تتسبب في أزمة مالية عالمية بحسب فريق من الاقتصاديين من «بنك التسويات الدولية»، وهي مؤسسة مالية دولية مقرها الرئيسي في بازل، سويسرا، مملوكة من البنوك المركزية التي ترعى التعاون النقدي والمالي الدولي، والتي أصدرت تقريراً استخدم مصطلح «البجعة الخضراء» في وصف الصدمة التي قد يشهدها النظام المالي العالمي بسبب حدث مرتبط بالمناخ. ونشرت شبكة “بي بي سي” تصريحات عن لسان لويس بيرييرا دا سيلفا، نائب المدير العام لبنك التسويات الدولية وأحد المُشَاِركين في إعداد الدراسة، قال فيها إن “البجعة الخضراء (متعلقة بالتغير المناخي) هي أحداث تحمل في طياتها مؤشرات مقلقة للغاية من منظور مالي». وأشار في تصريحاته إلى أحداث فجائية مثل الكوارث والأعاصير التي تؤدي إلى خسائر مالية ضخمة بسبب خفض الانتاج وتدمير مراكزه بشكل مفاجىء، معتبراً أن الكوارث والأحداث المناخية الكبرى لها إمكانية التأثير سلبا على النمو الاقتصادي لأي دولة. ويحذر تقرير بنك التسويات الدولية من أن النماذج التنبؤية الحالية، ليست مصممة للتعامل مع التهديدات الناشئة عن التغير المناخي، ويدعو لتطوير أدوات جديدة لتقييم المخاطر ورسيم سيناريوهات للتبنؤ بمسارات الأزمات بشكل أفضل. ويرى خبراء بنك التسويات الدولية يحذرون أيضا من أنه في حالة اندلاع أزمة مالية مماثلة للأزمة، التي نشبت عام 2008، فإن البنوك المركزية ستعاني لإنقاذ الموقف. ويشيرون إلى أنه في تلك الأزمة قامت البنوك المركزية بدور بالغ الأهمية في احتواء الكارثة الاقتصادية من خلال تخفيض معدلات الفائدة لتستقر عند مستويات متدنية تاريخيا، لكن معدلات الفائدة المذكورة لا تزال متدنية بعد مرور أكثر من عقد، الأمر الذي يترك مجالا ضئيلا للمناورة بهدف تحفيز الاقتصاديات وتشجيع النمو الاقتصادي.
 
 
والمفارقة أن العالم كان يتدارس الآثار المحتملة والمفاجئة للتغيرات المناخية، حيث كان هذا الموضوع محور النقاشات والقضية الرئيسية التي يجري بحث آثارها المحتملة من أوروبا إلى استراليا ومن امريكا الجنوبية إلى الصين، وتصدرت النقاشات بشأن التأثيرات المالية والاقتصادية للتغير المناخي أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس العام الجاري، واختلف القادة والزعماء حول مستوى التهديد العالمي الناشيء عن التغير المناخي، ويبرز في ذلك رأي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يرفض هذا التوجه تماماً. ومع ذلك فقد صٌدم بالآثار الناجمة عن سيناريو مغاير تماماً، هو تفشي فيروس “كورونا”، حيث توقع الخبراء في بدايات الأزمة أن يتكبد الاقتصاد العالمي خسائر تقدر بنحو160 مليار دولار بسبب تفشي الفيروس، وهي الخسارة الأكبر التي يسببها وباء في العصر الحديث وتتجاوز بواقع اربعة اضعاف ماسببه فيروس “سارس” الذي اجتاح الصين عام 2003، حيث قدرت خسائر الفيروس وقتذاك بنحو 40 مليار دولار، ولكن مع تزايد رقعة تفشي فيروس “كورونا” عالمياً وانتقاله إلى أوروبا التي أصبحت مركز انتشار الوباء بدلاً من الصين ، اتجهت تقديرات الخبراء إلى رفع معدلات الخسائر المتوقعة، حيث حذرت وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” في بدايات مارس 2020 من أن فيروس كورونا المستجد قد يتسبب بخسارة تتجاوز أكثر من 200 مليار دولار لاقتصادات دول آسيا والمحيط الهادئ هذا العام، ما يخفض النمو إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من عقد في وقت تعمل الحكومات جاهدة لمكافحة الوباء.
 
 
وفي أسوأ الاحتمالات، قد تشهد الصين نموا بأقل من 3 % بينما قد تواجه اليابان وأستراليا وهونغ كونغ خطر الركود، بحسب تقرير الوكالة. وقالت الوكالة “ازدادت قتامة التوقعات لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ جرّاء تفشّي فيروس كورونا المستجد عالميا. من شأن ذلك أن يتسبب بصدمات في العرض والطلب المحليين في اليابان وكوريا. وسيعني ذلك تزايد ضعف الطلب الخارجي من الولايات المتحدة وأوروبا”.
 
 
وأشار التقرير إلى أن الاقتصادات تعاني من ضربة مضاعفة جراء تراجع الطلب في وقت يلزم المستهلكون منازلهم خشية العدوى بينما تراجعت الإمدادات جرّاء إغلاق المصانع. وتوقّع التقرير أن ينمو الاقتصاد الصيني، الذي كان يواجه صعوبات في الأساس حتى قبل أزمة الفيروس، بنسبة %4,8 هذا العام، وهي أسوأ نسبة خلال ثلاثة عقود. لكنه أضاف أنه في أسوأ الحالات، “على فرض وقوع إصابات محلية مع عودة الناس إلى العمل وإعادة فرض بعض القيود على النشاط”، فقد يتراجع النمو إلى %2,9 فقط. كما أفاد بنك التنمية الآسيوي الجمعة كذلك أنه يتوقّع أن تتعرّض الصين لتراجع بقيمة 103 مليار دولار أو 0,8 نقطة مئوية في إجمالي ناتجها الداخلي، بينما يمكن أن تبلغ الخسائر 22 مليار دولار أو 0,2 نقطة مئوية لغيرها من الاقتصادات النامية في المنطقة.
 
 
من جهتها، أعلنت الهيئة الدولية للنقل الجوي “آياتا”، ان الخسائر المتوقعة لقطاع الطيران العالمي 113 مليار دولار، بفعل القيود المفروضة على الحظر الجوي بسبب فيروس كورونا المستجد، كما أعلنت واشنطن بوست. وقدّرت “اياتا”، التي تضمّ 290 شركة طيران، خسائر في رقم أعمال شركات الطيران في قطاع نقل الركاب، ما بين 63 مليار دولار، إذا تمّ احتواء الفيروس، و113 مليارا في حال استمرّ تفشي الفيروس. والأرجح أن هذه التقديرات تتجه للتزايد باتساع رقعة تفشي الفيروس وعدم وجود أمصال وعلاجات حتى الآن.
 
 
ومجمل هذه المؤشرات السلبية التي ترسم صورة صعبة في الوقت الراهن للاقتصاد العالمي، تعكس القيمة النوعية الكبرى للاستقرار الذي يتمتع به اقتصاد دولة الامارات في مثل هذه الظروف العالمية الطارئة، وهذا لا يعني أن اقتصاد الدولة لم يتأثر بالأزمة، ولكن تبقى مستويات التأثر محدودة وتحت السيطرة وبعيدة عن تدهور الاقتصادات الأخرى اقليمياً وعالمياً. كما يعكس هذا الاستقرار أيضاً المنعة التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني وارتفاع وعمق الخبرات التي باتت تتمتع بها دولة الامارات في التعامل مع الظروف العالمية الطارئة والتحديات العابرة التي تواجه الاقتصاد العالمي، ومن أبرزها انخفاض أسعار النفط لأسباب مختلفة، وذلك عبر امتلاكها المرونة الكافية التي تمكنها من تطبيق سياسات تتيح لها تفادي معظم آثار هذه الصدمات والتكيف معها، فضلاً عن دور الادارة الرشيدة للعوائد النفطية في اوقات ارتفاع الأسعار وتحقيق أقصى مردود ممكن من هذه العوائد سواء من خلال الاسثتمار الجيد أو الصناديق السيادية التي تعتبر صمام أمان قوي في أوقات الأزمات (تحتل الدولة المرتبة الأولى خليجياً في حجم الأصول السيادية التي تبلغ 1.19 تريليون دولار (4.37 تريليونات درهم) تعادل .6 من إجمالي الأصول السيادية العالمية، ومن أبرزها جهاز أبوظبي للاستثمار ثالث أكبر صندوق سيادي في العالم والأكبر في منطقة الشرق الأوسط، بقيمة 697 مليار دولار (2.557 تريليون درهم)، ومؤسسة دبي للاستثمارات الحكومية بأصول 233.8 مليار دولار (858 مليار درهم)، وصندوق مبادلة للاستثمار بأصول 229 مليار دولار (840 مليار درهم)، وفقاً لأحدث أرقام نشرتها مؤسسة معهد صناديق الثروة السيادية العالمية (إس دبليو إف آي) المتخصصة في دراسة استثمارات الحكومات، وإحصاءات أكبر الصناديق السيادية في العالم).
 
 
الخلاصة
اثبت اقتصاد دولة الامارات وأدائه في أوقات الأزمات فاعلية ونجاح استراتيجية إدارة الموارد الوطنية على مدى عقود وسنوات مضت، حيث توفر هيمنة القطاعات غير النفطية على الاقتصاد الوطني بنسبة تتجاوز %70 مناعة وحصانة قوية تحول دون تأثر الدولة بالأزمات الحاصلة في القطاعات المالية والاقتصادية المختلفة في العالم، مثلما هو حاصل في المرحلة الراهنة بفعل تفشي فيروس «كورونا» عالميا، ورغم انفتاح اقتصاد الامارات وكونه احد أكثر الاقتصادات انفتاحاً على الاقتصاد العالمي، فإن سياسات تنويع الدخل قد نجحت في تفادي الأثر السىء للأزمة، ولاسيما على صعيد تراجع أسعار النفط، حيث بات الاقتصاد الوطني أكثر قدرة على التكيف مع مختلف الظروف والتحديات والأزمات، بما يمتلك من احتياطات مالية كبيرة وسياسات دينامية مرنة وركائز ومقومات متنوعة تتيح قدرة المناورة وقت الأزمات أمام صانعي القرار في الدولة. ولا يجب أن نفغل هنا دور الثقة الهائلة التي اكتسبها الاقتصاد الاماراتي ونجح في مراكمتها اقليمياً وعالمياً على مدى سنوات مضت، وهي الثقة التي تجعل منه ملاذاً آمناً للاستثمارات ورؤوس الأموال وقت الأزمات العالمية، حيث تتجه الاستثمارات إلى الأسواق التي تتمتع بالثقة في رشادة الادارة وكفاءة السياسات وقدرتها على التغلب على التحديات وآثار الأزمات بكفاءة بالغة. والخلاصة هنا أن المعجرة التنموية الاماراتية التي باتت نموذجاً عالمياً في مجالات عدة منها التنويع الاقتصادي، قد جعلت الامارات أكثر اقتراباً من تحقيق رؤية القيادة الرشيدة بشأن الاحتفال بآخر برميل نفط، علماً بان هذا لا يعني مطلقاً التقليل أو الحد من الدور الحيوي للنفط في الاقتصاد الوطني، باعتباره أحد مصادر الدخل المهمة، وانطلاقاً من ان ازدهار القطاع النفطي يؤثر ايجاباً في القطاعات الاقتصادية الأخرى، حيث شهد الناتج المحلي الاجمالي للدولة نمواً مطرداً، انطلاقاً من 6,5 مليار درهم في عام 1971 (عام تأسيس الاتحاد) ليصبح نحو 52ر1 تريليون درهم في عام 2018 أي بزيادة تقدر بـ233 ضعفاً نجح خلالها في تحويل الاسهام النفطي بالاقتصاد الوطني إلى أقل من 30% من حجم الاقتصاد الكلي، حيث بلغت حجم اسهام القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الاجمالي لعام 2018 نحو تريليون درهم مقابل 432 ملياراً للقطاع النفطي على مستوى الأسعار الثابتة.
 
 
واليوم، والامارات في عام الاستعداد للخمسين، يبدو اقتصادها الوطني قوي مستقر في مواجهة حالة عدم الاستقرار المالي العالمي جراء أزمة تفشي فيروس «كورونا»، وأكثر قدرة وجاهزية لتحقيق طفرات وقفزات نوعية جديدة تواكب تطلعات الشعب والقيادة الرشيدة في الوصول إلى الرقم (1) عالمياً، حيث تبدو قطاعات التنمية كافة اكثر استعداداً وجاهزية لمرحلة مابعد النفط حيث الاعتماد المتزايد على اقتصاد المعرفة القائم على الابداع والابتكار واستشراف المستقبل واستشكاف الفضاء ووضع خريطة اقتصادية جديدة تضاف لبقية موارد القوة الشاملة اليت تتمتع بها الدولة ـ لاسيما على صعيد القوة الناعمة ـ بما يضمن تحقق أهداف رؤية الامارات 2071.
 
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره