مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2018-02-26

السياسات التوسعية للنظام الإيراني: الانعكاسات الاقتصادية والتنموية

لماذا انفجر بركان الغضب في وجه الملالي؟
لماذا تظاهر الإيرانيون وساد الغضب مدن إيران وشواعها طيلة أسابيع مضت، حتى تم اخماد بركان الغضب الشعبي عبر موجة اعتقالات وقتل وعنف واسعة ضد المحتجين، الذين رفعوا للمرة الأولى شعارات الموت في وجه مرشد الثورة وقادة نظامه، وكسروا حاجز الخوف الحديدي الذي يفرضه الحرس الثوري وميلشيات “الباسيج”. في هذا العدد تسلط “درع الوطن” الضوء على الحقائق والأسباب والتداعيات التي تقف وراء تلك الاحتجاجات التي فضحت الهوة التي تفصل بين النظام والشعب الإيراني.
 
كشفت حركة الاحتجاجات التي شهدتها إيران في الثامن والعشرين من ديسمبر 2017، واستمرت أكثر من أسبوعين وتم قمعها بالقوة والعنف، كشفت عن طبيعة المأزق الذي يواجهه النظام الإيراني، الذي طالما كان يتوهم أنه يحظى بالتأييد في الداخل وأن هناك حالة من الرضا العام على سياساته الخارجية، لكن بدا واضحاً أن ما يدعيه ليس سوى أوهام، فهناك حالة من التذمر والغضب والاحتجاج بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد والتي انعكست سلباً على الأوضاع المعيشية لأغلب فئات الشعب الإيراني. فلم يكن غضب المتظاهرين من تردي الأوضاع الاقتصادية، إلا نتيجة لسياسات التدخل والتوسع الإيرانية التي تجاوزت تكلفتها المالية عشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات الماضية.
 
وكان لافتاً أن شرارة الاحتجاجات انطلقت من مدينة مشهد، قلعة المحافظين، وذات المكانة الدينية لدى الشيعة، وثاني أكبر مدن إيران من حيث عدد السكان، بمطالب اقتصادية، لتبعث برسالة واضحة إلى النظام الإيراني، مفادها أن الشعب الإيراني لم يعد يتحمل إقحام بلاده في صراعات خارجية تعرقل مسيرة التنمية وتعوق تقدم الاقتصاد.
 
لقد تزايدت آمال الشعب الإيراني حينما تم توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة(5+1) في العام2015، والذي تم بموجبه إلغاء تجميد عشرات المليارات من الدولارات التي وصلت إلى خزائن النظام، وكان يفترض أن يتم استثمارها في تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني، لكن النظام استغلها في دعم الميليشيات والأذرع الطائفية المسلحة، والتورط في العديد من الصراعات الخارجية التي أهدرت كثيراً من موارد ومقدرات الاقتصاد الإيراني. لقد أثبتت حركة الاحتجاجات الأخيرة أن إيران التي تمتلك ثرواتٍ نفطية وغازية هائلة، لم تعجز فقط عن تحقيق التنمية والرفاه لشعبها، وإنما أيضاً أنها غير مكترثة بمطالب شعبها، ولن تتوان في استخدام القوة لإجهاض أي مظاهرات، بزعم أنها “نتاج مؤامرات لأعداء الخارج”. 
 
أولاً: مظاهر سياسات الهيمنة والتدخل الإيرانية
لم تتخلى إيران عن طموحاتها في أن تكون القوة الإقليمية ذات التأثير والنفوذ المهيمن على دول المنطقة بأسرها، وسعت إلى استثمار تطورات المنطقة المختلفة لتحقيق هذا الهدف، سواء “عبر وكلاء”، في زعزعة استقرار بعض البلدان، أو من خلال التوسع في نشر التشيع  للتغلغل في المجتمعات العربية. واتخذت سياسات التمدد والتوسع الإيرانية العديد من المظاهر، لعل أبرزها:
 
فكرة تصدير الثورة: منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وهاجس الهيمنة يسيطر على صانعي القرار، حيث حاولت إيران تقديم نفسها سياسيًا كمركز والعالم الإسلامي أشبه بالمحيط الذي يجب أن «ينهل» من ثورتها. وكان لدى الخميني قائد الثورة الإيرانية، إدراك متعاظم بأنه السلطان الأوحد، والزعيم الأول، وروح الله، والسيد المصلح، والمفوّض من الإمام الغائب، والمنقذ الذي يملك صفات المعصوم، والولي المعيّن من الله لتجديد الإسلام وإحياء الشريعة ومناصرة المستضعفين في العالم، والذي يجب أن يخضع لحاكميته مسلمو العالم. ولذلك فقد شعر بواجبه المتخيّل في قيادة الشعوب الإسلامية في الشرق والغرب، على اعتبار أن ثورته في إيران، لم تكن محلية، بل هي تتخطى الحدود الإيرانية، بحيث يجب أن تصل إلى كل بقاع الأرض.  وهذا ما تؤكده نظرية» أم القرى» لمحمد جواد لاريجاني المفكر الإيراني، والتي تنطلق من فكرة مفادها تحول ايران الى مركز الاسلام العالمي و تشكيل أمة اسلامية واحدة باستثارة الولاء الديني للشعوب لصهرها و توحيدها خارج اطار الولاء الوطني و جمعها تحت قيادة دولة»ام القرى ايران» ، بمعنى آخر، فإن نظرية ام القرى تعتمد على نظرية الخميني بتصدير الثورة ولكن ليس بدعم الجماعات و اسقاط الانظمة و تحويل مدينة قم الى مركز اسلامي ولكن بتحويل كل ايران الى مركز الاسلام العالمي مع اثارة النزعة الدينية للشعوب و تقديس حكومة الولي الفقي، وهذا إنما يؤكد أن مبدأ «تصدير الثورة» إلى كل بقاع الأرض، ليس أكثر من ستار ديني، يتيح للنظام التدخل في شئون دول المنطقة، وزعزعة أمنها واستقرارها عبر التحريض المذهبي وإشعال نار العصبيات والفتن الطائفية بين مكوّنات الشعب الواحد. 
محاولة “شرعنة” التدخل في دول المنطقة: حاولت إيران تبرير تدخلاتها في دول المنطقة باعتباره ضرورة للدفاع عن المستضعفين، وخاصة من الأقليات الشيعية، واستجابة لمطالبهم، فالمادة (152) من الدستور الإيراني تحمل عنوان “الدفاع عن حقوق جميع المسلمين”. والمادة (154) تحمل عنوان “دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة في العالم”. والمادة الثالثة الفقرة الخامسة تنص على: طرد الاستعمار ومكافحة الوجود الأجنبي. هذه المواد توضح الهوية الإسلامية لإيران، ومهمة الدفاع عن المسلمين باعتبار أن إيران هي بداية المشروع الإسلامي على حد قول الخميني. وهكذا فإن السياسة الخارجية الإيرانية تمتد لتشمل كافة المسلمين بهدف توحيدهم تحت راية ولاية الفقيه، وتعطي هذه المواد من الدستور الحق لإيران في التدخل في شؤون الدول الأخرى، وظلّت إيران، على مستوى الخطاب السياسي، تعلن عن نفسها باعتبارها حامية المستضعفين ضد قوى الاستكبار العالمي (الولايات المتحدة وإسرائيل وسياساتهما في المنطقة). وكان من أبرز مبادئ الثورة الإسلامية، على مستوى السياسة الخارجية، نُصرة الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها، ومن هذا المنطلق فإنها تفسر تدخلاتها في العديد من دول المنطقة. لكن خبرة السنوات الماضية أظهرت أن مبدأ “نصرة المستضعفين” الذي تمسكت به إيران في سياستها الخارجية، لم يكن سوى ذريعة لتدخلها العسكري والعقائدي السافر في شؤون الكثير من الدول المجاورة لها، التي باتت مقتنعة بأن النظام الإيراني هو نظام توسّعي ومعتدٍ ويشكل خطرًا وتهديدًا لأمنها. 
 
توظيف ما يسمى بـ”الربيع العربي” في الترويج لنموذجها الثوري: اعتبرت إيران الفوضى والاضطرابات التي عمت بعض الدول العربية عام 2011، بأنها امتداد للثورة الإيرانية، أو “صحوة إسلامية” في المنطقة، كما أطلق عليها المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي. ولكن هذا التفسير لم يكن مقبولاً لدى الشعوب العربية التي شهدت احتجاجات وتوترات داخلية. كما أن موقف إيران المتناقض من هذه الأحداث كشف انتهازينها، وأكد أن المصلحة هي التي تحركها. ومنذ هذه الأحداث، سعت إيران إلى التمدد طائفياً وسياسياً في المنطقة، وحاولت استغلال سقوط بعض الأنظمة العربية لاكتساب أرضية جديدة في الإقليم والترويج لما يسمي بـ”النموذج السياسي الإيراني”. 
 
وعلى ضوء ذلك، اندفعت إيران إلي الحديث عن ظهور شرق أوسط جديد في المنطقة علي أنقاض الأنظمة التي سقطت، واستدعت في هذه اللحظة مشروعها لإقامة شرق أوسط إسلامي الذي تبنته في مواجهة المشروعات التي طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية عقب احتلال العراق عام 2003، مثل مشروع “الشرق الأوسط الكبير” و”الشرق الأوسط الجديد”. ويعتمد المشروع الإيراني على محورين: الأول، أيديولوجي يتمثل في إيمان النظام الإيراني بحتمية قيام الحكومة العالمية للإسلام، وبضرورة اضطلاع إيران بدور قوي في التمهيد لذلك طبقا لما جاء في الدستور الإيراني. والثاني، استراتيجي يتصل بمحاولات إيران تكوين حزام أمني يكون بمثابة حائط صد لكل المحاولات التي يبذلها خصومها لاختراقها من الداخل أو إحكام محاصرتها عبر دول الجوار. 
 
التمادي في سياسة الهيمنة والتدخل في أعقاب التوقيع على الاتفاق النووي: فسرت إيران اتفاقها مع مجموعة(5+1) في يوليو 2015،  باعتباره ضوء أخضر لتنفيذ مخططاتها في الهيمنة والسيطرة، خاصة أنها تروج لنفسها باعتبارها القوة الرئيسية في المنطقة التي بمقدورها الإسهام في حل مشكلات المنطقة.  وواصلت إيران منذ توقيع هذا الاتفاق تدخلاتها في شئون العديد من دول المنطقة، لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث تمكنت عبر العديد من الأذرع والميليشيات الموالية لها من تعزيز تواجدها في العديد من دول المنطقة، خاصة في لبنان(حزب الله) والعراق(ميليشيات الحشد الشعبي) وسوريا(الفصائل الشيعية) واليمن(الانقلابيين الحوثيون).  
 
إن المتتبع لسلوك إيران خلال السنوات الماضية، يلاحظ بوضوح أنها أصبحت تتصرف بمنطق الدولة العظمى (الإمبراطورية)، وأن أمنها يصل إلى البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وأنها تسيطر على أربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، صنعاء، بغداد)، أو كما قال أحد مستشاري خامنئي، فإن إيران بدأت بناء إمبراطورية جديدة مركزها أو عاصمتها بغداد، الأمر الذي يؤكد أنها لم تنس بعد أن إمبراطوريتها القديمة انهارت على يد العرب قبل 1400 عام، ولعل هذا يفسر إصرارها على التمدد في دول الجوار، تأكيداً على أنها نموذج يمكن تكراره في دول أخرى، لا سيما أنها تنظر لنفسها باعتبارها الدولة الأكبـر في منطقة الخليج العربي، خاصة بعد خروج العراق مـن دائرة الفعل العربي نتيجـة للاحتلال الأمريكي له في عام 2003م ومساندتها له. فهي تحتل في الجانب الجغرافي مثلا، موقعاً استراتيجياً هاماً مطلاً على ضفة الخليج العربي وتشرف على مدخل مضيق هرمز، وتتمتع بقدرة اقتصادية عالية، وعدد سكانها أكبر من مجموع سكان دول الخليج العربي بما فيها العراق .
ولا شك في أن تنفيذ هذه السياسات التدخلية والتوسعية كلف الدولة الإيرانية أموالاً طائلة، تم تخصيصها للحرس الثوري وشراء الأسلحة من الخارج، وذلك كله على حساب برامج التنمية والمشروعات الاقتصادية التي كان يمكن أن تحدث فرقاً في الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني.
 
ثانياً: من يسيطر على الاقتصاد الإيراني ؟
إذا كانت حركة الاحتجاجات الأخيرة في إيران هي نتاج لسياسة خارجية وأفكار توسعية طائفية أهدرت موارد الدولة، وكبدتها عشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات الماضية، فإنها كذلك تمثل كذلك اعتراضاً على سيطرة المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري على القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الإيراني، وتوظيفها لصالح إحكام قبضتهما في الداخل.  لقد عمد نظام ولاية الفقيه من أجل تعزيز سيطرته في الداخل على إنشاء مؤسساتٍ اجتماعية واقتصادية تتوافق مع الأيديولوجيا الجديدة للنظام السياسي، والتي تقع فكرة ولاية الفقيه في صميمها، وثانيًا من خلال إعطاء دور مميز لرجال الدين وآيات الله في داخل البناء السياسي للدولة، وفي داخل تلك المؤسسات، لكي يتمكنوا من فرض رؤيتهم الدينية والفقهية على شكل هذه المؤسسات التي يتم من خلالها إدارة كل الشؤون في البلاد، وبالتالي إحكام قبضتهم على كل صغيرة وكبيرة في البلاد، وعلى كامل السلطة في إيران. وأغلب هذه المؤسسات تمّ إنشاؤها من خلال تأميم ومصادرة الأموال والشركات والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والعقارية والبنكية التي كانت تابعة للشاه وحاشيته والمقرّبين من نظامه.
 
ويعتبر الحرس الثوري أكبر مؤسسة اقتصادية في إيران، حيث يسيطر بشكل مطلق على قطاعي النفط والغاز، بالإضافة إلى قطاع الإنشاءات والنقل الجوي والنقل البحري، وهذه القطاعات الحيوية تمثل عصب الاقتصاد الإيراني، وبالتالي فإن الحصة التي تصل للشعب من موارد الدولة محدودة جدًّا، خاصة مع استمرار التدخلات الإيرانية في العديد من دول المنطقة. وحسب خبراء إيرانيين، فإن المشكلة لا تكمن فقط في سيطرة الحرس الثوري على مفاصل الاقتصاد الإيراني، وإنما الجانب الأخطر يتمثل في غياب الشفافية أو المحاسبة فيما يتعلق بجميع أنشطة الحرس الثوري الاقتصادية أو التجارية أو المالية أو الاستثمارية داخل إيران أو خارجها، باعتبار أن تلك الأعمال تندرج ضمن الأنشطة السرية التي ترقى في سريتها أو تزيد على سرية البرنامج النووي أو البرنامج الصاروخي.
 
ففي الوثائق الرسمية للدولة الإيرانية تغيب الأرقام الدقيقة والقاطعة التي تكشف حجم الإمبراطورية الاقتصادية للحرس الثوري وأبعادها وما تتضمنه من أنشطة شرعية وغير شرعية، ومدى العلاقة التي تربط تلك الأنشطة بالتنظيمات الإرهابية التابعة لطهران في الشرق الأوسط. ولهذا، فإن العديد من الدراسات تحمَل الحرس الثوري مسؤولية التراجع المتواصل في مستوى معيشة المواطن الإيراني، خاصة في ظل الفساد المستشري بين قادته، والإهدار المتواصل للمال العام في كل شيء.  
 
ولا يسيطر الحرس الثوري وحده على الاقتصاد الإيراني، بل إن هناك أيضا الجمعيات الخيرية التي يديرها رجال دين بشكل مباشر، وليس هناك من يعرف الحجم الكامل للأنشطة التجارية التي تقوم بها تلك المجموعات. ومن أبرز تلك المؤسسات: مؤسسة “المستضعفين”التي كانت تُعنى برعاية معوقي الحرب وأُسرهم بعد اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، والتي تتمتع بميزانية ضخمة. وقد أُسندت إليها بعد عام 1989 مهام خارجية وأمنية، وساهمت في نشر النفوذ الإيراني عن طريق مساعدة المستضعفين من الشيعة في الدول المختلفة، وأبرزها لبنان. ومؤسسة “الشهيد” التي كانت تتكفل بعوائل الشهداء الذين سقطوا في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، عن طريق دفع الرواتب الشهرية للأرامل، وتقديم الخدمات التعليمية والسكنية والرعاية الصحية لأبناء الشهداء.
 
ومؤسسة “إمداد الإمام” التي تُعنى بأعمال الإغاثة، وتقديم المساعدات المتنوعة للمحتاجين.  وهناك مؤسسة دينية أخرى تحت اسم “ستاد” والتي تم تأسيسها بعد وفاة آية الله الخميني عام 1989 ، وكانت أساسا عبارة عن مؤسسة لتنظيم شؤون العقارات التي كان يملكها المهاجرون وأنصار الشاه بهدف مساعدة الفقراء والمساكين. ومنذ ذلك الحين أصبحت “ستاد” من أكبر المؤسسات المؤثرة وهي تابعة مباشرة “ للزعيم الأعلى” في إيران.
 
واللافت أن هذه المؤسسات ذات الطابع الخيري والإنساني والاقتصادي، قد مدّت عملها وأنشطتها الدعائية إلى خارج إيران، حيث قامت بإنشاء بعض المدارس والمراكز الثقافية والطبية في بعض الدول الأفريقية والعربية. وهي خارجة عن رقابة الدولة، ولا تخضع لأي محاسبة قانونية أو إدارية، وهي تمتلك ميزانياتٍ ضخمة نتيجة الخُمس (أو سهم الإمام) والتبرعات المختلفة من رجال البازار (التجّار الإيرانيون) الداعم التقليدي لرجال الدين في إيران، وهي تخضع لمكتب الولي الفقيه القائد الذي يقوم بتوجيه الإنفاق فيها، بحسب ما يراه، وترتبط به ارتباطًا مباشرًا، تكوينًا وإدارة وتنفيذًا لتوجهاته وأجندته وأولوياته. وقد نجحت هذه المؤسسات التي تستفيد من موارد الدولة المالية والاقتصادية، في تثبيت قواعد الآيديولوجيا الجديدة، وفي توسيع قاعدة المستفيدين من النظام القائم، وفي الحصول على الولاء له من شرائح واسعة من الجماهير، ولا سيما الفقراء الذين كانوا وما زالوا، وقود الثورة، وفي نشر “التشيّع” خارج إيران.
 
إن سيطرة الحرس الثوري ورجال الدين الإيراني على مفاصل الاقتصاد ، وتوظيف مقدرات الدولة في دعم الميليشيات والأزرع التابعة لإيران في الخارج، تعتبر السبب الرئيسي وراء إهدار الكثير من أموال وثروات الشعب الإيراني الذي يعاني مختلف الأزمات، وخاصة الاجتماعية منها؛ كالفقر، وارتفاع نسبة البطالة، وانتشار الأمراض، وانعدام الرعاية الصحية الكافية.  
 
ثالثاً: أعباء ضخمة لسياسات التمدد والتدخل الإيرانية
لا شك في أن الاحتجاجات التي شهدتها إيران نهاية العام 2017 كانت تعبيراً عن تزايد مشاعر الغضب من سياسات إيران التوسعية في المنطقة، والتي أدت إلى إهدار مقدرات الدولة في صراعات عبثية، وكانت النتيجة لذلك تفاقم حدة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للعديد من فئات الشعب الإيراني، وهذا ما يمكن فهمه من الشعارات التي رفعتها هذه الاحتجاجات، فقد ردد المحتجون شعارات تندد بسياسات حكومة الرئيس حسن روحاني الاقتصادية، وتكاليف الإنفاق على التدخلات الخارجية، من بينها: “لا غزة ولا لبنان.. حياتي لإيران”، وارتفع سقف الشعارات بالمطالبة بعودة نظام الشاه الملكي، وبـ”الموت لروحاني” و”خامنئي”، والمساس بكينونة نظام ولاية الفقيه، حيث طالبت برحيل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي وصفته أنه يتصرف كإله في حين أن المواطنين يتسولون.
 
لقد انتقد المتظاهرون سياسات خامنئي التي أحدثت تغييرات في موازين النخب الاجتماعية لحساب المرجعيات الدينية- التي استحوذت على مفاصل الاقتصاد والسياسة، وأصبحت عوائلها تتمتع بغناء فاحش، في مقابل اتساع دائرة الفقر بين شعوب إيران، وهو ما أدى لى تزايد الإحباط والصراع المكبوت، ولذا لم تقتصر الاحتجاجات على الفقراء فقط، أو منطقة جغرافية محددة، بل شملت مختلف المناطق والعرقيات، وشاركت الطبقة الوسطى التي فقد بعضها مزاياها الاجتماعية، والأموال في مشاريع الإسكان وأسهم البنوك، والشركات التي أفلست.
 
لقد بات من الواضح أن سياسات التمدد والتوسع كلفت إيران عشرات المليارات من الدولارات، وهو ما يمكن توضيحه بالإشارة إلى النقاط التالية:
1 - زيادة ميزانية الدفاع خلال السنوات الماضية: رفعت حكومة الرئيس حسن روحاني ميزانية الدفاع منذ استلامها السلطة من ستة مليارات دولار 2013، في عهد سلفه محمود أحمدي نجاد إلى نحو ثمانية مليارات دولار عام 2014، ونال الحرس الثوري الذي يدير معارك إيران وتدخلاتها في دول المنطقة الحصة الأكبر، حيث حصل على 3.3 مليار دولار عام 2013، وزادت عام 2014 لتصل نحو 5 مليارات دولار، ونحو 6 مليارات دولار عام 2015. وزادت إيران ميزانيتها العسكرية 1.3 مليار دولار، خلال العام 2017-2018، لتصل إلى حوالي 11.6 مليار دولار، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، فيما ارتفعت النسبة المخصصة للدفاع 39%. 
 
وتشير العديد من التقارير إلى أن الحكومة الإيرانية تنوي زيادة ميزانية الدفاع للعام المقبل 2019-2018، وأنها ستخصص نحو 7.5 مليارات دولار ميزانية للحرس الثوري في الموازنة الجديدة، في حين تم تخصيص نحو 2.7 مليار دولار للقوات المسلحة النظامية، وما يقرب من مليار دولار لقوات التعبئة (الباسيج).  
 
زيادة موازنة الدفاع رغم الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها الشعب ، يؤكد أن إيران ماضية في سياسات التدخل والتوسع الخارجية، وأنها تعوّل على المواجهة العسكرية غير المباشرة، أو ما يسمى “الحرب بالوكالة”، حيث إنها ستحاول عدم الانخراط في صراعات مباشر، وستستعيض عن ذلك بدفع حلفائها من ميليشيات وأزرع إرهابية إلى الانخراط في هذه الصراعات، بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها، ما يعني أنها ستواصل دعم الميليشيات الإرهابية  كحزب الله في لبنان، وميليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق.
 
2 - تشير العديد من الدراسات إلى أن الحرس الثوري يحصل سنوياً على ما يقرب من عشرة مليار دولار أو أكثر من التجارة غير المشروعة، يخصص نسبة كبيرة من هذه الأموال لتمويل التنظيمات الإرهابية التي يستعملها في نشر الخراب والقتل والدمار لتحقيق المشروع التوسعي الإيراني، كما تذهب نسبة منها إلى تطوير البرنامج النووي الإيراني، وصناعة الصواريخ الباليستية ومختلف الأسلحة. كما أن تسليح الحرس الثوري تضاعف أربع مرات بعد رفع العقوبات في 2015م. وكشف معهد “الدفاع عن الديمقراطية” في العاصمة الأمريكية، واشنطن، في تقرير صدر في عام 2017 أن حكومة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، خصصت مبلغ 7.4 مليار دولار من موازنتها للحرس الثوري الذي ضاعف أنشطته لتطوير بالبرنامج الصاروخي والتجارب البالستية.  
 
ويجمع الخبراء على أن البرنامج التوسعي للحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كان مكلفا للغاية، وتضمن هدرا ضخما للموارد الإيرانية، ونظرا لأن هذا المشروع التوسعي عسكري في الأساس، وترويج الحرس الثوري أنه يمس مباشرة الأمن القومي الإيراني، فإن الجانب المالي الخاص بتمويله اتصف دائما بسرية مفرطة، فلا أحد يعلم قيمة المساندة المالية التي تقدم لقادة حزب الله، وميليشا الحوثيالإرهابية ليواصلوا الولاء لإيران، ولا أحد يعلم قيمة المبالغ المالية التي تنفقها إيران لتأمين نصر الله والحوثي، أو التي ترصد لضمان استمرار الحشد الشعبي في العراق كقوة عسكرية موازية للجيش العراقي، أو المليارات التي ضخت في شكل مساعدات مالية لنظام بشار الأسد. وأدت تلك السرية – حسب خبراء إيرانيين- إلى تفشي الفساد بشكل كبير للغاية بين قيادات الحرس الثوري، التي حققت ثروات ضخمة نتيجة عدم المحاسبة، وقبول مرشد إيران بهذا الوضع لضمان نجاح المشروع المذهبي، بينما تعجز الحكومة عن مواجهة قيادة الحرس الثوري والفساد المستشري في الداخل.
 
3 - الإنفاق المالي على دعم نظام بشار الأسد، وإنقاذه من الانهيار التام، حيث تتراوح تقديرات المساعدات السنوية التى تقدمها إيران إلى سوريا بين 6- 15 مليار دولار، وحسب تقديرات موقع “defenddemocracy”  فإن أكثر التزام خارجي مكلف لطهران هو دعم النظام السوري، والذي قد يصل إلى 15 مليار دولار في السنة الواحدة أو أكثر، لافتاً إلى أن إيران أنفقت خلال عام 2015 فقط، ما بين 15 إلى 20 مليار دولار في دعم الأسد. وربما يرجع هذا في جانب منه إلى أن إيران مولت عمليات تجنيد هي الأكثر في العقدين الأخيرة استهدفت تثبيت الوجود الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وعرفت عملية التجنيد استقطاب مجاميع كبيرة من أفغانستان وباكستان التي يتم تدريبها على العمليات القتالية ثم يتم إرسالها لمناطق النزاع العربية، وهو ما يؤكد أن الهدف بالنسبة للنظام في إيران قد انتقل من مرحلة النفوذ السياسي والعسكري في العالم العربي إلى إقامة دول وكيانات إيرانية خالصة من عروبتها وتكون امتداداً كاملاً للدولة الإيرانية.
 
4 - الدعم المالي لجماعات المقاومة: ينفق النظام الإيراني سنويًا على ميليشيات حزب الله في لبنان من مليار إلى ملياري دولار، خاصة بعد توسيع عملياته العسكرية في سوريا.ووفقاً لمصادر استخباراتية، فإن القيادة الإيرانية قد قررت خلال عام 2017  زيادة استثماراتها فى حزب الله وحده، لتصل إلى مليار دولار سنوياً، وزيادة التمويل السنوى لحماس والجهاد الإسلامى الفلسطينى إلى 100 مليون دولار. 
 
5 - الدعم المالي لميليشيا الحوثي الارهابية والحشد الشعبي: تدعم طهران المتمردين الحوثيين، وتقدم لهم الأسلحة والمساعدات المالية، ويُقال إن إيران تدفع 2000 دولار شهرياً لكل عراقى أو لبنانى يذهب للقتال من أجل الحوثيين فى اليمن، أما حجم الأموال الإيرانية التي أرسلت إلى الميليشيات الحوثية في اليمن فبلغت أكثر من 250 مليون دولار سنويا منذ عام 2010.
كما أنفقت إيران مبالغ طائلة على ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وحسب تقرير نشرته صحيفة”واشنطن بوست” الأمريكية مؤخراً، فإن حجم الإنفاق  يقدر بمليار دولار في السنة الواحدة منذ 2014. ومع انهيار تنظيم داعش، وما يسمى بدولة الخلافة، فقد يتراجع هذا الدعم خلال السنوات المقبلة.  
 
6 - زيادة الإنفاق المالي على تطوير برنامج الصواريخ البالستية في عام 2017م بنحو الضعفين، لتصل إلى 250 مليون دولار، وهذا لا يمكن فصله عن التهديدات الأمريكية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي هددت أكثر من مرة بإلغاء الاتفاق النووي، وطالبت بفرض مزيد من القيود على برنامج إيران للصواريخ. وأجرت إيران اختبارات على صواريخ بالستية منذ إبرام الاتفاق وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات جديدة على كيانات وأفراد على صلة بالبرنامج.
 
7 - الإنفاق المالى على بعض المشروعات الخارجية، لدعم الشيعة والأحزاب الموالية لها، وظهر ذلك بوضوح في شراء المساكن والعقارات والمزارع والجبال المحيطة بالمزارات والأضرحة والأماكن الاستراتيجية الهامة والمؤثرة في المدن والقرى والسواحل  في بعض الدول العربية.   فضلاً عن تأسيس شركات في العديد من الدول العربية ولو بأسماء أشخاص من أبناء تلك الدول الذين تم استقطابهم وتشييعهم وتقام فيها كل مظاهر التشييع. كما قامت إيران بتأسيس سلسلة من المؤسسات والدوائر لتكون أجنحة لوزارة الخارجية لمساعدتها على تحقيق استراتيجيتها الخاصة بنشر التشيع، ولعل أبرزها التوسع في إنشاء المستشاريات الثقافية  التي تقوم على نشر وتدريس الثقافة الفارسية وكسب المتعاطفين ونقلهم لإيران لإكمال التعليم باللغة الفارسية وتغذيتهم بمزيد من الثقافة والأفكار، ومن ثم تجنيدهم عبر تقديم المغريات المادية والمعنوية.
 
 ومن أهم المؤسسات الإيرانية التي تقوم بدور رئيسي في نشر التشيع، “المجمع العالمي لأهل البيت”، وهو تنظيم سياسي بواجهة دينية ويعمل هذا المجمع سنوياً على عقد مؤتمرات لوضع الخطط للشيعة في العالم ومراجعة ما تم إنجازه من الخطط في الأعوام السابقة. و”مجمع التقريب بين المذاهب”، والذي يقوم على عمل دعائي لذر الرماد في العيون بهدف إبعاد تهمة الطائفية عن النظام الإيراني، ودعم مشروع نشر التشيع في الدول العربية، وكسب أصحاب الحركات الصوفية وبعض الجماعات الإسلامية السياسية المعروفة تحت عنوان الوحدة الإسلامية، وأسس المجمع عام 1990م بأمر من علي خامنئي. 
 
و”منظمة التبليغ الإسلامي”، والتي تقوم بالإشراف على الحسينيّات والمراكز الدينية الشيعية في الخارج وتقديم الدعم والرعاية لها، ومدّ هذه المراكز بمبلّغين (قراء المراثي) يتم إرسالهم من إيران بعد أن يجري إعدادهم إعداداً جيداً للمهام المنوطة بهم، إضافة إلى ذلك تقوم المنظمة بطبع الكتب الدينية والثقافية وتوزيعها بالمجان وتعقد المؤتمرات؛ لنشر ثقافة التشيع وتمجيد النظام الإيراني ورموزه. إضافة إلى المدارس الإيرانية في الخارج، والتي تعمل على نشر الثقافة الإيرانية من خلال فتح باب القبول لغير الإيرانيين مجاناً، وكسب الطلبة الإيرانيين المقيمين في الخارج وتجنيدهم لصالح النظام ضد المعارضة، والقيام ببناء علاقات مع غير الإيرانيين وكسبهم لصالح إيران. والحوزات الدينية في الخارج: تقوم على نشر تعاليم وفقه العقيدة الشيعية وقبول الطلبة من غير الشيعة وإعطائهم المنح الدراسية في قم بعد إكمالهم مرحلة ما يعرف بالمقدمات في بلدانهم.
 
وإلى جانب هذه المراكز والمؤسسات هناك دوائر أخرى تعمل في إطار تحقيق المخطط الإيراني، وهذه الدوائر بعضها ثقافي، وسياسي، وخدمي، وهي : “مؤسسة جهاد البناء”، ولها أفرع في السودان وسوريا ولبنان، وتقوم بمد خطوط الكهرباء وأنابيب المياه وحفر الآبار وبناء المساكن والمدارس والطرق. و”لجنة الإمام الخميني الإغاثية”، وهي مؤسسة خدمية تقدم المعونات المالية والخدمات الصحية والاجتماعية، وتعدّ من المؤسسات الثورية.. لها فروع في العراق، سورية، السودان، ولبنان. و”مركز حوار الحضارات”: وهو تابع لمؤسسة رئاسة الجمهورية، ويقوم على الترويج للثقافة والحضارة الوطنية الإيرانية وتلميع صورة النظام الإيراني تحت يافطة الحوار بهدف كسب المؤيدين لإيران؛ من خلال بناء العلاقات مع المثقفين والمفكرين العلمانيين والليبراليين العرب ودعم المؤتمرات والتجمعات القومية والوطنية العربية.
 
وقد تم إنفاق مليارات الدولارات على هذه المؤسسات والجمعيات لنشر التشيع في الخارج، وتحسين صورة إيران باعتبارها نصير المستضعفين، حتى تخف حدة الانتقادات الموجهة لها من جانب دول المنطقة، والتغطية على أهدافها الحقيقية في تصدير الثورة. 
 
رابعا: تأثيرات سياسات التمدد والهيمنة في الاقتصاد الإيراني
رغم أن إيران تمتلك اقتصاداً يحتل المرتبة 29 عالمياً، ولديها احتياطيات نفطية 157 مليار برميل، وتنتج ما يزيد على 4 ملايين برميل نفط يومياً، وغاز طبيعي 34 تريليون متر مكعب، وهذا ما يؤهلها أن تكون ذات مكانة اقتصادية متميزة، لكنها تواجه أوضاعاً اقتصادية ومعيشية صعبة، عبرت عنها بوضوح حركة الاحتجاجات التي شهدتها العديد من المدن الإيرانية خلال الآونة الأخيرة، وهذا يؤكد بوضوح أن الوضع الاقتصادي والمعيشي كان المتضرر الأكبر من سياسات التمدد والتدخل الإيرانية، التي أهدرت مليارات الدولارات في دعم ميليشيات إرهابية، وحروب بالوكالة في العديد من الدول، ولهذا فإن كل البرامج الحكومية لمحاولة إنعاش الاقتصاد الإيراني باءت بالفشل، ولهذا كانت حركة المظاهرات التي عمت أغلب المدن الإيرانية، احتجاجاً على هذه الأوضاع.
 
وتشير العديد من التقارير الدولية إلى أن الوضع الاقتصادي في إيران يواجه مأزقاً غير مسبوق، وينذر بالمزيد من التداعيات السلبية، خاصة أن جميع مؤشراته تتسم بالسلبية والتراجع، ويمكن توضيح ذلك بالإشارة إلى ما يلي:
1 - تدني مؤشرات نمو الاقتصاد الإيراني: فبعد أن كان صندوق النقد الدوليّ يعلن تنبؤات إيجابية بشأن الاقتصاد الإيرانيّ ويشجع على نموّه، فإن تقرير الصندوق عن الاقتصاد الإيراني والذي صدر في عام 2017 كان سلبياً، حيث توقع نموّ سلبي في باقي القطاعات، وأشار الصندوق مع توقُّع نموّ فقط بنسبة 4.5% للاقتصاد الإيرانيّ ومع وضع معدَّل النموّ في قطاع النِّفْط بنسبة %7 في الاعتبار، إلى أن نموّ الاقتصاد في القطاعات غير النِّفْطية سلبي، مشيراً إلى أن انكماش الاقتصاد الإيرانيّ غير النفطي سيمرّ بعامه السادس، وهو ما يعني زيادة الفقر والبطالة على أثر تزايد توقُّف المصانع ووحدات العمل.
 
ولفت التقرير إلى أن ركود الاقتصاد الإيرانيّ مُعضِلة سببها القطبية الأحادية للتجارة، عبر إيجاد مؤسسات اقتصادية عبر الحرس الثوري، والحكومة عمليًّا ضخّت الاستثمارات بشكل أحادي فقادت غالبية المجتمع للخروج من عجلة الاقتصاد، وتكمن المشكلة في الحرس ليس فقط منافسًا للشعب في عجلة الاقتصاد، بل مانع أيضًا لأي سلعة من أي منتَج لمؤسسات القطاع الخاص، ما يجعل إدارته للاقتصاد أقرب إلى إدارة المافيا التي لا تسمح للشعب بالتنفس، وحولت الطبقة المتوسطة إلى طبقة فقيرة، وباعتراف الحكومة نفسها يوجد 11 مليون إيراني تحت خط الفقر، الفقير بالمعنى الذي يضطر فيه إلى الاستغناء عن بعض سلعه الأساسية، كالمسكن والغذاء والثقافة والتعليم والعلاج، وهي من المتطلبات الرئيسية التي اضطر الفقراء إلى تخفيضها حتى لا يقعوا فريسة للقروض.  
 
وقد شهدت معدلات النمو الاقتصادي في إيران تذبذباً شديداً، خلال السنوات الخمس الماضية ما بين نمو بمعدل %6.6 في بعض السنوات وانكماش بمعدل -%6.6 في سنوات أخرى، وكانت العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، المثير للجدل، هي السبب الرئيسي والأول لذلك التذبذب الشديد في معدلات النمو، الذي يأخذ صفة الاضطراب أكثر من التذبذب. ولكن برغم انتهاء فترة العقوبات، بتوقيع الاتفاق النووي، والبدء في تطبيقه مطلع عام 2016، فلم يخرج الاقتصاد الإيراني من حلقة التذبذب والاضطراب التي تبدو مغلقة عليه، ليشهد هذا على أن الاقتصاد الإيراني سيبقى في براثن الضعف في الأجل المنظور. ولا شك في أن استمرار الأداء الضعيف والهش للاقتصاد الإيراني، برغم رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، يؤكد بوضوح أن الاقتصاد الإيراني يعاني مشكلات هيكلية مزمنة بسبب سوء السياسات الاقتصادية، ما دفع الإيرانيين إلى التظاهر.
 
2 - مزيد من التقشف في ميزانية عام 2018 التي تقدمت بها حكومة الرئيس حسن روحاني إلى مجلس الشورى؛ والتي سيبدأ العمل بها في مارس المقبل تضمنت إجراءات تستهدف رفع أسعار بعض السلع الغذائية وبعض المشتقات النفطية، إضافة إلى زيادة الإنفاق على الحرس الثوري والقطاع العسكري، والمؤسسات الدينية. حيث تقول الحكومة إنها مضطرة إلى اتخاذ إجراءات تقشّف صعبة لمواجهة التضخّم ومشكلات العملة، ولمحاولة تحسين قدرة إيران على جذب الاستثمارات.
 
التقشف في ميزانية عام 2018 هو نتاج للعجز في موازنات الأعوام الماضية، والتي شهدت العديد من المشكلات بين عامي 2015-2010، الأمر الذي دفعها إلى التحول من الفائض إلى العجز، وبرغم أن هذا التحول كان انعكاساً مباشراً لتراجع أسعار النفط العالمية، وكان المفترض أن تشهد الموازنة العامة تحوّلاً إيجابياً بداية من عام 2016، مع ظهور آثار إلغاء العقوبات بعد دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، لكنها لم تشهد تحسناً يذكر، بل إن الموازنة الأخيرة التي أعلنتها الحكومة، للعام المالي الإيراني 2018، تشي بعكس ذلك، حيث تَضمّنت قرارات تؤثر مباشرة على معيشة المواطنين، كرفع سعر الوقود بنسبة %50، وإلغاء الدعم النقدي الذي يستفيد منه نحو 34 مليون إيرانيّ. وفي المقابل تمت زيادة مخصصات الحرس الثوري والمؤسَّسات التابعة للمرشد. ويعني ذلك أن معالجة مشكلة الموازنة يتم تحميلها على كاهل الشعب، وهذا يعود في جزء منه أيضاً إلى تصاعد التدخل العسكري الإيراني في الخارج.
 
3 - انتشار الفساد: تواجه إيران فساداً سياسياً ومالياً كبيراً، حيث يتهم المحافظون بعض أقارب الإصلاحيين، ومنهم أخو الرئيس روحاني، حسين فريدون روحاني، بممارسة الفساد وتكوين إمبراطوريات اقتصادية على حساب المواطنين.كما حولت المراجع الدينية عائدات إدارة مراقد أئمة الشيعة إلى مشاريع استثمارية، وخاصة في مدينة مشهد التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات. وتشير العديد من الدراسات إلى أن معظم الشركات الأجنبية ترصد ميزانية للرشوة لعدم عرقلة مصالحها. ويرجع محللون انتشار الفساد في إيران إلى أن نسبة كبيرة من اقتصاد إيران خاضعة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, لهيمنة الحرس الثوري الذي لن يسارع بالتنازل عما يمتلك من إحتكار هائل. وتظهر الإحصائيات الدولية  أن ايران تعد ضمن أعلى الدول في العالم فسادا. وتقع إيران في المرتبة 131 عالميا في مكافحة الفساد، من بين 176 دولة يرصدها مؤشر منظمة الشفافية العالمية للعام 2017.
 
4 - تنامي معدلات الفقر والبطالة في إيران: ينتشر الفقر بنسبة كبيرة في المدن والأرياف الإيرانية، وتشير البيانات الرسمية إلى أن 35 في المائة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، بينما تذهب تقديرات دولية أن تلك النسبة خادعة، إذ إن ما لا يقل عن 43 في المائة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تؤكد إحصائيات غير رسمية أن أكثر من نصف السكان يعانون الفقر المدقع. فعلى مدار الفترة 2010-2015 لم ينخفض معدل البطالة في إيران عن ، وارتفع هذا المعدل إلى مستوى يقترب من .
 
وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن هذا المعدل يبلغ %26.7، أي أكبر من ضعف التقديرات الرسمية تقريباً. كما أن إجمالي عدد العاطلين في البلاد يبلغ نحو 7.3 ملايين عاطل، وهو رصيد كبير لا يمكن للاقتصاد استيعابه. ولعل العامل الأكثر خطورة هنا يتمثل في أن البطالة تتركز بين الشباب من الجنسين، الذين يمثلون نحو 70 في المائة من عدد سكان إيران البالغ 80 مليون نسمة تقريبا، كما أن كل البرامج الحكومية لمحاولة إنعاش الاقتصاد الإيراني باءت بالفشل، فالاقتصاد يعاني الركود، والناتج المحلي الإجمالي يتوقع أن يتراجع، ومعدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي سلبي أو منخفض للغاية، وهذا بالطبع يجعل معدلات البطالة مرتفعة.
 
5 - انهيار مؤسسات الإقراض غير القانونية التي ظهرت وانتشرت في عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، وهذه الشركات انتشرت منذ 2005 وانهارت مع انفجار الفقاعة العقارية، وليس أدل على ذلك من انتشار العديد من المظاهرات ضد هذه المؤسسات في الأشهر القليلة الماضية.وأدت طفرة في قطاع البناء، الخارج عن السيطرة، الى تراكم الديون لدى البنوك وشركات الاقراض، يضاف الى ذلك ارتفاع التضخم والفوضى التي احدثتها العقوبات الدولية ما دفع كثيرا من المؤسسات الى التخلف عن سداد ديونها. وسعت حكومة روحاني، منذ وصوله الى السلطة عام 2013، الى تنظيم القطاع المالي، واغلقت العديد من مؤسسات الاقراض الكبرى في البلاد، لكنها لم تنجح في إيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة.
 
يواجه الاقتصاد الإيراني أزمة غير مسبوقة، ولا تلوح في الأفق أية مؤشرات إيجابية على تغير السياسات التي قادت إلى هذا الوضع، فميزانية عام 2018 تخصص جانباً كبيراً للدفاع والأجهزة الأمنية، فيما يواصل النظام دعم الميليشيات والأذرع المرتبطة به، لهذا من الطبيعي أن تأتي إيران في مراتب متدنية في مختلف المؤشرات التي تصدر عن جهات دولية، حيث تعتبر من بين أسوأ دول العالم في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2017، كونها تقع في الترتيب 124 من بين 190 دولة يرصدها المؤشر، وهو ما جعل الاستثمار الأجنبي في البلاد ضئيلا للغاية. كما تعادل ديون إيران 35 في المائة من الناتج المحلي للبلاد بنهاية العام 2017.
 
خاتمة
كانت حركة الاحتجاجات التي شهدتها العديد من المدن الإيرانية نهاية ديسمبر 2017، واستمرت عدة أيام، كاشفة لسياسات النظام التي تفتقر إلى الرشادة سواء في إدارة السياسة الخارجية أو إدارة موارد الدولة ومقدراتها، بحيث تنعكس بشكل إيجابي على الشعب الإيراني، فالشعارات التي رفعت خلال هذه الاحتجاجات لم تكن فقط نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتراجع مستوى المعيشة، إنما هي أيضاً اعتراض واضح على البرنامج التوسعي الإيراني، الذي أدى إلى عزلة إيران إقليميا ودولياً، في وقت كانت تتزايد فيه آمال الشعب الإيراني، وخاصة من أبناء الطبقة المتوسطة، نحو مزيد من الانفتاح على العالم الخارجي، وأن تشهد البلاد طفرة تنموية في أعقاب التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة(5+1) في العام 2015.
 
الحقيقة الأخرى التي كشفت عنها الأحداث الأخيرة في إيران هي عدم قدرة النظام الإيراني على تبني سياسات اقتصادية رشيدة، فالادعاءات التي تم الترويج لها خلال السنوات الماضية بأن الاقتصاد يعتمد على الذات، وأنه قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، ورفع مستوى معيشة شعبه، لم تعد تنطلي على فئات عريضة من الشعب الإيراني، فالاحتجاجات التي انتشرت في العديد من المدن الإيرانية أكدت بصورة قاطعة فشل النموذج التنموي الإيراني، كما أظهرت أن مقدرات وموارد الدولة صبت جميعها في خدمة المؤسسة العسكرية، وخاصة الحرس الثوري، لإنتاج أوهام قومية ومذهبية، ولم تنعكس إيجاباً على الشعب بأي شكل، بل وأسهمت في تآكل المستوى الاقتصادي المتدني ، فبعد دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ في يناير عام 2016، والذي قضى برفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن إيران، كانت التوقعات تشير كلها إلى أن النظام الإيراني سيكافأ شعبه على سنوات العقوبات الطويلة، وسيخصص موارد الدولة لمعالجة المشكلات الهيكلية، ولكن بدلاً من ذلك فإنه وجهها لدعم ميليشيات عسكرية في الخارج، ووظفها في صراعات وحروب بالوكالة في أكثر من منطقة، وكانت نتيجة ذلك استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي المعيشية، ولا تلوح في الأفق أية مؤشرات أو معطيات على أن إدارة النظام الإيراني ، السياسية والاقتصادية، ستتغير في المدى القريب، ما يعني معه استمرار المأزق الذي يواجهه الاقتصاد الإيراني، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسعى حالياً إلى إدخال تعديلات على الاتفاق النووي، وإضافة المزيد من القيود التي من شأنها معالجة الثغرات التي يتضمنها، وتحاول إقناع حلفائها الأوروبيين بالعمل معها في هذا الشأن، وقد عبر ترامب عن هذا المعنى  لدى قيامه في الثالث عشر من يناير 2018 بتمديد العمل بالاتفاق لمدة أربعة أشهر أخرى، حينما أعلن أنه سيمدد تعليق العقوبات النووية على إيران لكن فقط بوصفها “فرصة أخيرة” لن يكررها، قائلاً:”أدعو الدول الأوروبية الرئيسية للانضمام للولايات المتحدة في إصلاح عيوب جسيمة في الاتفاق لمواجهة الاعتداء الإيراني ولدعم الشعب الإيراني، وإذا فشلت الدول الأخرى في التحرك خلال تلك المدة سوف أنهي الاتفاق مع إيران”، وهو ما يعني احتمال عودة العقوبات الأمريكية مجدداً، وما تمثله من تحديات للاقتصاد الإيراني في المستقبل، خاصة أن النظام الإيراني يتمسك بهذا الاتفاق ويرفض إدخال أي تعديلات عليه.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره