مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2012-04-01

العلاقــات الإيرانيــة ـ التركيــة..التقـاء المصالح وتقاطع الأهداف

يبدو أن النتائج التي ستسفر عنها تفاعلات الوضع الراهن في سوريا ستلعب الدور الأبرز في إعادة هيكلة شبكة التحالفات الإقليمية، فبعد أن كان الأمل يداعب الكثير من الخبراء والمراقبين في استقرار الأوضاع بالمنطقة عقب انتهاء مرحلة «الربيع العربي»، عادت أجواء الصراع لتلقي بظلالها على المنطقة التي لا تكاد تعرف إلى الهدوء والاستقرار طريقاً.
وأحد العوامل التي أسهمت في إثارة المخاوف من نشوب حرب جديدة، تتمثل في التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، وما ارتبط بذلك من تداعيات على صعيد الأزمة النووية الإيرانية وتفاعلاتها لاسيما حرب التهديدات المتبادلة التي تتصاعد تارة وتخبو تارة أخرى بين طهران وتل أبيب، ولكن أكثر ما يثير المخاوف بشأن التوتر الإقليمي يتمثل في الحديث الدائر عن احتمالات نشوب حرب أهلية في سوريا، بحيث يتطاير الشرر إلى خارج الحدود وتتداخل اعتبارات وعوامل مختلطة يصعب معها التنبؤ بمسارات الأحداث.
ولاشك أن فتح ملف العلاقات التركية ـ الإيرانية يستوجب مناقشة المشهد الإقليمي برمته، ليس فقط بحكم تأثير هاتين القوتين في توجيه دفة الأحداث، في ظل غياب قوى إقليمية تقليدية أخرى مثل مصر التي انشغلت بأوضاعها الداخلية، ولكن أيضاً لأنهما تمتلكان ارتباطاً مباشراً بقضايا وأزمات تطغي على المشهد الراهن في منطقة الشرق الأوسط، فالدولتان طرفان مؤثران في إدارة الأزمة السورية، ولاعبان أساسيان في رسم سيناريو الأحداث فيها، كما أن أحداهما وهي إيران طرف في مواجهة مفتوحة ضبابية الآفاق مع المجتمع الدولي، الذي يحاول جاهداً إقناع طهران بالتخلي عن طموحاتها النووية العسكرية.
في هذا الملف تحاول "درع الوطن" عبر العديد من المحاور، مناقشة أبعاد العلاقات التركية ـ الإيرانية، والمتغيرات التي طرأت على هذه العلاقات، والعوامل التي تتحكم فيها، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الصراع أو التحالف الخيار الأقرب إلى أرض الواقع في هذه العلاقات المعقدة.
 
إعداد:التحرير
 
الأزمة السورية: هل تعيد توجيه دفة العلاقات بين أنقرة وطهران؟
يرى كثير من الخبراء أن ما تشهده بعض دول المنطقة ضمن ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي قد يعيد فتح ملفات صراع وضغائن عرقية عقائدية في دول عدة، وتأتي الأزمة السورية في صدارة الأزمات المرشحة لفتح المجال إمام صراعات إقليمية ما لم يتم التوصل إلى حل توافقي سلمي يضمن رسو السفينة السورية إلى بر الأمان، بدلاً من الانزلاق إلى صراع مسلح بين القوات الموالية لنظام بشار الأسد والشعب السوري، فخلافاً للسمات الإقليمية لليبيا وتونس ومصر التي ساعدت في بقاء ثوراتهم داخل حدودهم، تقع سورية في خضم شبكة من التحالفات الإستراتيجية والمصالح السياسية والصراعات الدينية التي قد تنفجر بفعل تطور الوضع في سوريا، وقد أشار وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري إلى مخاوف بلاده في هذا الإطار حين قال في تصريح له "إن تغيير النظام في سوريا سيؤثر على المنطقة بأسرها، وذلك لما تتمتع به سوريا من أهمية جغرافية سياسية بالنسبة لكل من فلسطين ولبنان والعراق والأردن، وسائر دول المنطقة، فلكل دولة عربية مصالح ذاتية فيما يجري في سوريا". 
 
و على خلفية تفاوت، وربما تناقض، المصالح والأهداف والرؤى بين مختلف القوى الإقليمية والدولية حيال التعاطي مع ممارسات نظام بشار الأسد، جاء انقسام المواقف، إقليمياً ودولياً، سواء في الإطار التنظيمي الأكثر التصاقاً بالأزمة (جامعة الدول العربية)، أو في الإطار التنظيمي الدولي (الأمم المتحدة وهيئاتها وتحديداً مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة)، وتمثل كل من إيران وتركيا نموذجان للصراع السياسي الدائر بشأن سوريا.
 
السؤال المطروح هنا على الخلفية السابقة هو: إلى أي مدى كان المناخ السياسي الإقليمي متقبلاً للدورين التركي والإيراني؟ وفي الإجابة على هذا السؤال يمكن الإشارة إلى أن تركيا لم تستأنف إطلالتها على محيطها العربي والإسلامي عبر بوابة السياسة فقط، بل سبق ذلك تمهيد مكثف من بوابة الفن والثقافة والتعاون الاقتصادي والصناعي، ونجح هذا التمهيد التركي للأجواء في ضمان نسبة قبول رسمي وشعبي عالية لأي أدوار سياسية تركية فيما بعد، على عكس إيران التي باغتت المنطقة عقب قيام الثورة الإسلامية مباشرة بالحديث عن أفكار مثيرة للقلق مثل "تصدير الثورة" وغير ذلك من شعارات كانت كافية لبناء مواقف عدائية تجاهها، خصوصاً أن الأخيرة لم تكتف بإطلاق الشعارات وتبني لهجة استعلائية وعدائية حيال جوارها الإقليمي العربي، بل دخلت في صراع عسكري امتد لسنوات مع العراق، كما تدخلت بشكل مباشر وغير مباشر في شؤون دول عربية عدة، ولعبت أدواراً اعتبرتها العواصم العربية تدخلات خارجية غير مرغوبة في الأمن القومي العربي.
 
ورغم أن كل من تركيا وإيران تسعيان للبحث عن مصالحهما في المحيط الإقليمي، إلا أن طبيعة الأدوار التي لعبتاها اختلفت اختلافاً جذرياً من حيث الآليات المتبعة، وأيضاً من حيث اختيار أهداف هذه الأدوار، حيث يمكن القول أن تركيا قد دخلت على خط الأزمات العربية العديدة من بوابة تكامل الأدوار والتوافق وإطفاء الحرائق ونزع فتيل الصراعات، مستندة في ذلك إلى موروث مشترك يعود إلى حقبة الخلافة التي جمعتها مع معظم دول المنطقة طيلة نحو خمسة قرون، بينما اختارت إيران الدخول عبر بوابة المواجهة والمزايدة على الأدوار وانتزاع أوراق ضغط توظفها لمصلحتها في الصراع مع الغرب، حيث كان الحرص الإيراني على امتلاك أكبر عدد من أوراق الضغط الإقليمية لاستخدامها عند اللزوم على أي مائدة مفاوضات تعقد مع الغرب، أو ضمن أي صفقات سياسية أو صيغ مقايضة مع الغرب، بخلاف تركيا التي اختارت أن تكون جزءاً من الحلول، وليس المشكلات في المنطقة.
 
ثمة فوارق أخرى في الأدوار وطبيعة العلاقات مع العالم العربي أيضاً بين تركيا وإيران، حيث لعبت أنقرة ورقة القوة الناعمة التي استخدمتها جيداً في مد قنوات التواصل مع الملايين من المحيط إلى الخليج، وآثرت أن يكون لنفوذها بوابات شرعية مؤسسية، بينما اختارت طهران الدخول عبر بوابة الصراع ولعب ورقة الطائفية البغيضة التي تحظي بحساسية استثنائية في منطقة طالما عانت من الصراعات الدينية والإيديولوجية ودفعت ثمنها غالياً في حقب تاريخية ماضية، تركيا أيضاً دخلت كقيمة مضافة للقوى الإسلامية السنية في العالم العربي، في حين سعت طهران دوماً إلى الطعن في أهلية جيرانها وسيادتهم ناهيك عن محاولات تغيير المعادلات الإقليمية السائدة وفرض الذات، وممارسة الهيمنة عبر توظيف الحركات الراديكالية التي حرصت طهران دوماً على توظيفها لمصلحتها دون أن تقدم أي دعم أو إسناد حقيقي على الأرض لمصلحة القضايا التي تدافع عنها هذه الحركات، ولعل القضية الفلسطينية نموذج جيد يفسر الدور الإيراني في هذا الإطار، فرغم أولوية القضية في الخطاب السياسي الإيراني تجاه الخارج والداخل معاً، فإن طهران لم تقدم إسناداً ذا شأن للفلسطينيين في مختلف المراحل الصعبة التي مرت بها قضيتهم طيلة العقود السابقة.
 
من خلال استقراء الشواهد على الصعيد الإقليمي، يمكن التوصل إلى نتيجة مفادها أن هناك قبول لما بات يعرف بـ"النموذج السياسي التركي" في السياسة ليس فقط على الصعيد الإقليمي، ولكن أيضاً على الصعيد العالمي، بخلاف أجواء التخوف والتشكك، الشعبية والرسمية، حيال نموذج الدولة الدينية في إيران، خصوصاً عقب أحداث "الربيع العربي" التي تعاملت معها إيران بما أفقدها أي قدر كانت تحتفظ به من التعاطف الشعبي في بعض دول المنطقة، حيث دعمت بقوة ممارسات نظام بشار الأسد في سوريا ضد المدنيين من أبناء شعبه، كما تدخلت بشكل واضح في الشؤون الداخلية في دول أخرى مثل اليمن ومملكة البحرين، كما قوبل خطابها السياسي حيال مصر ما بعد مبارك بقدر واضح من الرفض الشعبي المصري بعد أن كان التوجه العام في الفترة التي أعقبت تنحي مبارك مباشرة يميل إلى فتح قنوات اتصال مع طهران؛ ولو أضفنا لذلك كله الدور الذي لعبته إيران، ولا تزال، في العراق، يمكن تفسير الهواجس التي تخيم على المزاج السياسي العربي حيال الدور الإيراني.
 
ويرى العديد من الخبراء أن الحديث المتواتر عن المصالح الاقتصادية والتعاون المشترك بين طهران وأنقرة لا يحول دون بروز عوامل التنافس والصراع الدائرة على أشدها بين الجانبين، وربما كانت الأزمة السورية هي الكاشفة بوضوح لهذا الصراع، إذ أن سوريا، بما لها من مكانة إقليمية، أصبحت نقطة تقاطع بارزة للمصالح الإيرانية ـ التركية، خصوصاً أن الحالة العراقية كنقطة تجاذب بين الدولتين أيضاً لم تكن تنطوي على الدرجة ذاتها من الوضوح كنقطة صراع، كون العراق يمتلك قدراً متساوياً من عوامل الالتقاء والصراع بين أنقرة وطهران بخلاف سوريا التي لا يمكن الجمع بين مصالح الطرفين فيها، علاوة على أن معظم السجال بين تركيا وإيران يتم عن طريق الوكلاء وليس بشكل مباشر، ففي العراق أدى دعم أنقرة للقائمة العراقية السنيّة إلى خلاف مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المقرب من إيران، والذي اتهم أنقرة  بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق. إلى ذلك يرى شون كين مسؤول سابق بالأمم المتحدة في العراق، ومؤلف تقرير عام 2011 حول المنافسة التركية-الإيرانية في العراق الصادر عن معهد السلام في الولايات المتحدة: "وجود عراق قوي كان على مر التاريخ، بالنسبة لتركيا، حصناً ضد النزعة الانفصالية الكردية ونزعة المغامرة الإيرانية. أما إيران فتنظر إلى كل هذا بشكل مختلف جداً، فوجود عراق قوي  هو المنافس، وتاريخياً كان التهديد الأمني الصعب."
 
ومع كل ذلك تبقى الحالة السورية واقعاً مختلفاً في العلاقات التركية ـ الإيرانية، حيث أسهم تباين المصالح حيال سوريا في بروز نقاط الخلاف واندفاع الخطاب السياسي الإيراني حيال تركيا إلى مستويات لافتة وغير مسبوقة بلغت حد التهديد باستهداف منشآت الدرع الصاروخي التابعة لحلف شمال الأطلسي في تركيا رداً على أي عمل عسكري ضد إيران، وذلك على الرغم من مواقف أنقرة الرافضة لأي توجه غربي بضرب إيران!.
 
وتشير بعض الدراسات الغربية إلى أن حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا يقوم بتقييم سياسته تجاه إيران، وربما ينأى بنفسه عن الدعم الصريح الذي قدمه سابقاً للنظام الإيراني، وترشح بعض هذه الدراسات التنافس التركي ـ الإيراني على قيادة الشرق الأوسط للاحتدام خلال السنوات المقبلة، وذلك لا ينفي أن تركيا، حتى الآن، تتبنى على الصعيد الرسمي على الأقل، خطاباً سياسياً قائماً على التواصل مع إيران، وأحدث الشواهد على ذلك أن أنقرة ترحب باستضافة أي محادثات بين طهران والقوى الدولية الكبرى حول البرنامج النووي الإيراني.
 
على الخلفية السابقة قد يثور تساؤل مفاده: إذا كانت تركيا تعيش مخاض حقبة صراع نفوذ إقليمي مع إيران فلماذا تناوئ فكرة ضرب إيران وترفض استخدام منشآتها العسكرية في تنفيذ هذا السيناريو، بل وتساعد بقوة في البحث عن مخرج سلمي للأزمة النووية الإيرانية؟ الجواب على هكذا تساؤل يمكن فهمه في سياق معادلات الصراع الإقليمي أيضاً، فتركيا لا تريد للقوة العسكرية الإسرائيلية مزيداً من التمدد والنفوذ الاستراتيجي الذي قد تكتسبه تلقائياً فور نجاح أي ضربة عسكرية إسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية، خصوصاً في ظل التوتر السائد حالياً بين إسرائيل وتركيا، كما أن ضرب إيران لا يضمن القضاء على الطموحات النووية الإيرانية، بل ربما تخرج طهران من هذا السيناريو أكثر تطرفاً وتمرداً على قواعد اللعبة الدولية، فضلاً عن استرداد طهران لبعض التعاطف الذي كان سائداً في سنوات سابقة في الشارع العربي على خلفية وقوفها كلامياً في وجه الاعتداءات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية، ناهيك عن أن تركيا تحاول ضمان البقاء ضمن دائرة أي حوار غربي ـ إيراني حتى تضمن مصالحها الإستراتيجية في الإقليم في حال توصل الجانبان إلى "صفقة سياسية" لمعالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني، ما يفسر نسبياً طروحاتها المستمرة بشأن استضافة المحادثات النووية بين إيران ومجموعة "6+1".
 
ولعل متابعة الخطاب السياسي التركي بشأن الأزمة السورية يلقي الضوء على ما يثيره الموقف الإيراني الداعم لنظام بشار الأسد من قلق وغضب لدى الساسة الأتراك، ففي اجتماع لحزب العدالة والتنمية عقد يوم الخامس من فبراير الماضي، وجه بولنت ارينك، نائب رئيس الوزراء التركي، نقداً لاذعاً للسياسة الإيرانية الداعمة للرئيس السوري بشار الأسد رغم عمليات القمع التي تقوم بها الحكومة السورية ضد المعارضة، حيث قال: "أخاطب جمهورية إيران الإسلامية: وأنا لا أعرف حقاً إذا كنت تستحق أن تسمى الإسلامية". وبطبيعة الحال فإن هذه اللهجة التركية تمثل تحولاً كبيراً في المواقف مقارنة بعام 2009، عندما بادر الرئيس التركي عبدالله غول ليكون من بين أوائل قادة العالم الذي هنأوا الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لفوزه في الانتخابات المتنازع عليها، أو في عام 2010، عندما وضعت أنقرة علاقاتها مع واشنطن على المحك من خلال التصويت ضد فرض عقوبات اقترحها الجانب الأمريكي ضد إيران في مجلس الأمن للأمم المتحدة.
 
توتر العلاقات بين إيران وتركيا بسبب سوريا لم يقتصر على الخطاب السياسي الرسمي، بل الملاحظ أيضاً أن التغطية الإخبارية التركية للعلاقات مع إيران أصبحت أكثر حدة، إذ بدأت الصحافة التركية على نحو متزايد تنشر مقالات تلقي بظلال من الشكوك حول نوايا إيران في المنطقة وفي تركيا ذاتها، مع ورود أو تسريب بعض التقارير والأعمدة الحديثة التي تُلمح إلى أن الحرس الثوري الإيراني كان يخطط لشن هجمات داخل تركيا، وأن إيران تقوم بتهريب الأسلحة عبر البلاد إلى سوريا، إلى ذلك، يعتقد هيو بوب، مدير مشروع تركيا لـ "مجموعة معالجة الأزمات الدولية" في بروكسل، أن موقف أنقرة الذي بات أكثر انتقاداً لإيران يشير إلى تعالي صوت مجموعة "الصقور" في أنقرة، الذين يعتقدون أن إيران تتجاوز حدودها في سوريا والعراق.
 
ويبقى السؤال: هل تدفع الأزمة السورية العلاقات بين تركيا وإيران إلى دائرة المواجهة المباشرة؟ هنا يمكن القول بأن نقاط التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران والتي بلغت ذروتها في الأزمة السورية لم ترتق بعد إلى حد دفع الجانبين إلى صدام مباشر، في هذا الصدد، يقول سولي أوزيل، المحلل السياسي التركي وأستاذ العلاقات الدولية في اسطنبول: "لا أعتقد أن لدى تركيا أي نية لمحاربة إيران، بل إنها في الواقع، ترغب في تجنب هذا بأي ثمن"، الأمر المرجح، وفقاً لأوزيل، هو أن تعود تركيا وإيران إلى نوع متطور من المناورات الدبلوماسية التي ميّزت العلاقات بين هاتين القوتين الإقليميتين المتنافستين على مدى قرون مضت.
 
محركات السياسة الخارجية التركية 
شهدت تركيا في العقدين الماضيين تحولات كبيرة في السياسة الخارجية، وتحديداً فيما يتعلق برؤيتها للعلاقات مع دول العالمين العربي والإسلامي، وكان الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 بمثابة النقطة الكاشفة لهذه التحولات في السياسة التركية، حيث رفض البرلمان التركي بقوة مقترحاً أمريكياً بأن تكون تركيا جسراً برياً وجوياً إلى شمالي العراق، ثم شهد الدور التركي أيضاً صعوداً لافتاً بعد الدور الذي لعبته أنقرة كوسيط تفاوضي سواء بين سوريا وإسرائيل، أو بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن المحطة الأبرز في تصاعد الدور التركي على الصعيد الإقليمي يكمن في "النموذج السياسي التركي" الذي خرج من دائرة التساؤلات حول صلاحيته كمحدد للعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، إلى دائرة أوسع وأرحب بعد أن بات ينظر إليه إقليمياً وغربياً باعتباره النموذج الأنجح القادر على تقديم الحلول للتساؤلات المتعلقة بمقدرة المجتمعات الإسلامية على احتضان الأفكار الديمقراطية، خصوصاً في مرحلة "الربيع العربي" وصعود القوى الإسلامية التي سيطرت على الساحة السياسية في الدول العربية التي أطاحت أنظمة حكمها، حيث باتت التجربة الديمقراطية التركية بمنزلة "نموذج" تتطلع إليه شعوب دول "الربيع العربي"، وبالدرجة ذاتها تحاول الدول الغربية استنساخه إقليمياً بعد أن رأت فيه خياراً معقولاً يقف في وجه صعود أي تيارات تنتمي إلى الإسلام الراديكالي في الدول العربية.
 
ومن المعروف أن تركيا، التي يمثل المسلمون غالبية سكانها، قد طورت نموذجاً ديمقراطياً يسيطر عليه الآن حزب سياسي ذا خلفية إسلامية هو حزب العدالة والتنمية (كنيته التركية AKP)، الذي نجح في شق طريق للتعايش مع القوات المسلحة التركية، التي طالما لعبت الدور الأبرز في الحياة السياسية التركية باعتبارها الحامية للنموذج العلماني، حيث فتحت تركيا لنفسها آفاقاً جديدة في عام 2002 عندما اقترعت لمصلحة حزب العدالة والتنمية الذي سعى إلى إيجاد صيغة توافقية بين إرث "الكمالية" وبين المكونات الأكثر تقليدية وإسلامية في الثقافة التركية.
 
مصالح ذاتية
رغم أن تركيا ارتبطت طيلة سنوات الحرب الباردة بالتحالف الوثيق مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، فقد باتت في السنوات الأخيرة تتبنى سياسة قائمة على توظيف وضعها الجيوسياسي في البحث عن مصالحها الذاتية بغض النظر عن مساحات التوافق والتنافر بينها وبين مصالح حلفائها الأطلسيين، ما يفسر بروز بعض التباينات بين أنقرة والتحركات الأمريكية في المنطقة، بعد أن عادت أنقرة للنظر إلى محيطها العربي والإسلامي، الذي كان محوراً مركزياً بالنسبة للإمبراطورية العثمانية السابقة، والذي لم يكن يحظى باهتمام يذكر حتى السنوات الأولى من تسعينات القرن العشرين، ويكفي القول بأن حدود تركيا مع سوريا لم يعترف بها رسمياً في أنقرة سوى في عام 2004 بعد توترات كادت تقود البلدين إلى حرب حدودية.
 
ويشير التاريخ إلى أن علاقات تركيا مع إيران كانت جيدة خلال سنوات ما قبل الثورة الإسلامية 1979، فرغم عوامل التنافس الجيواستراتيجية التي كانت ولا تزال قائمة، فإن هناك معطيات فرضت نفسها على علاقات الجانبين وقتذاك، حيث كانت الدولتان حليفتان للغرب، تمتلكان مخاوف مشتركة تجاه ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي السابق، وشاركت الدولتان في العديد من الأحلاف والروابط الإقليمية وظل الوضع هكذا حتى قيام الثورة الإيرانية، حيث ظلت تركيا تقف موقفاً محايداً خلال الحرب العراقية الإيرانية، ورفضت الحظر التجاري الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على إيران بعد أزمة الرهائن، كما رفضت أيضاً دعم الجهود الأمريكية لإنقاذ الرهائن الأمريكيين في طـهران عام 1980، وكـان ذلك كلـه أحد تجليات مـا يعـرف بـ "سياسة الحياد الكمالية"، التي ضمنت لتركيا استمرار مصالحها الاقتصادية مع جميع الأطراف، حيث اعتمدت كل من إيران والعراق اقتصادياً بشكل كبير على تركيا طيلة سنوات الحرب، إلى حد تضاعف حجم التجارة التركية مع العراق نحو سبعة أضعاف.
 
وعلى النقيض من ذلك تماماً كانت مرحلة تورجت أوزال في السياسة التركية مغايراً لمبدأ الحياد التركي خلال الحرب العراقية الإيرانية، حيث تحول الموقف التركي في حرب الخليج الثانية 1991 إلى الانضمام للتحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة في الحرب ضد عراق صدام حسين، ولكن النتائج لم تأت على هوى أنقرة، التي دفعت فاتورة اقتصادية وسياسية باهظة للانضمام إلى هذا التحالف، حيث تكلف اقتصادها نحو 2ر1 مليار دولار سنوياً جراء إغلاق أنابيب النفط العراقي التي تمر بأراضيها وتراجع التبادل التجاري مع العراق، علاوة على تدفق اللاجئين الأكراد العراقيين إلى خارج العراق، ما تسبب لاحقاً في إنشاء منطقة كردية محمية في شمال العراق، وكان إنشاء هذه المنطقة بداية تأسيس منطقة كردية مستقلة بحكم الأمر الواقع تحت الحماية الغربية، وكان ذلك تطوراً سياسياً أثار أحد أهم مخاوف تركيا وهو قيام دولة كردية مستقلة.
 
ولاية الفقيه
لفهم التمايز بين الحالتين الإيرانية والتركية، يمكن الإشارة إلى الأسس الدينية المتجذرة في النظام الديني الإيراني القائم على نظرية "ولاية الفقيه" ذات التجليات في كل الممارسات السياسية الإيرانية، لكن واقع الحياة السياسية التركية يشير إلى أن الإسلام التركي يبدو مختلفاً تماماً عن الحالة الإيرانية، فقد تفاعلت الحركات والأحزاب الإسلامية التركية طيلة نحو أربعة عقود لتنتج بالأخير حزب العدالة والتنمية الذي يتولى الحكم حالياً، والذي يتبنى نموذجاً متحرراً من النموذج الإسلامي التقليدي الذي كان يتبناه السياسي الإسلامي التركي نجم الدين أربكان، الذي قاد أربعة أحزاب إسلامية متتالية خلال الفترة من 1970 ـ 1997، وانتهت كل منها بالحظر السياسي، وبالتالي يعد حزب العدالة والتنمية أكثر الأحزاب اعتدالاً ضمن سلسلة متلاحقة من الأحزاب الإسلامية في تركيا، وقد اختط هذا الحزب لنفسه طريقاً يقدم نفسه من خلاله باعتباره حزباً ديمقراطياً محافظاً متحاشياً استخدام مصطلح إسلامي في وصف نفسه، ويقر الحزب بأن الدين بالأساس أمر شخصي ويؤكد أن الدين يمكن أن يندمج في المجالات العامة والسياسية دون تقويض نظام الدولة العلمانية، وبالتالي يبدو النموذج التركي مغايراً تماماً للنموذج الإيراني المتشدد، ومن أجل فهم أفضل للسياسة التركية تثور تساؤلات حول اتجاه هذه السياسة، وهل باتت تولي وجهها شطر عمقها العربي والإسلامي متراجعة عن طموحاتها الأوروبية؟ وفي فهم هذا التوجه الذي يبدو مزدوجاً بين الطموح التركي بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من جهة والتوجه نحو العالم الإسلامي من جهة ثانية، يمكن الإشارة إلى أن الرئيس التركي الحالي عبد الله جول يرى أن الدور التركي القيادي في الشرق الأوسط ينبغي أن يعزز فرص بلاده في نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، علاوة على أن تركيا تكتسب ميزة إضافية باعتبارها جسراً طبيعياً بين الحضارات، في وقت يتزايد فيه الجدل حول صراع محتمل بين الحضارات بحيث تستطيع أن تجمع بين الشرق والغرب، وأن تسهم في احتواء الراديكالية الإسلامية وتقديم نموذج معتدل من الإسلام السياسي، اللافت أن الطرح التركي في هذا الإطار يتناقض تماماً مع الأفكار الإيرانية المعادية للغرب، والتي يعتبرها كثير من المفكرين والخبراء وقوداً يغذي أفكار صراع الحضارات، حيث يؤسس الخطاب السياسي الإيراني للتوجهات القائمة على معاداة الآخر، ويكرس الهواجس الخاصة باستهداف الإسلام، ويتبني أجندة قائمة على المواجهة المسلحة، وهي الأجندة التي تتلاقى في أهدافها وفلسفتها مع أفكار التنظيمات الإسلامية المتطرفة، بما يجعل إيران دوماً مثار شكوك ليس فقط لدى الغرب، ولكن أيضاً في محيطها الإقليمي.
 
كيسنجر السياسة التركية
لابد من الإشارة في إطار الحديث عن محركات السياسة الخارجية التركية إلى فلسفة مهندس هذه السياسة في حزب العدالة والتنمية التركي، أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية الذي يصفه بعض المراقبين بأنه "كيسنجر السياسة التركية" وصاحب نظرية سياسية يعرفها البعض بأنها "العثمانية الجديدة" وهي نظرية تقع في صلب السجال الداخلي التركي بين الحداثة والتقليد، أو الأصالة والتغريب، أو "الإسلام والعلمانية"، وهي المعركة التي تخوضها تركيا على أكثر من صعيد منذ ما قبل تأسيس الجمهورية وإلغاء الخلافة سنة 1924، ويرى أوغلو من قراءته للتاريخ العثماني على مدى أكثر من أربعة قرون، ولتاريخ الجمهورية الكمالية خلال العقود الثمانية الماضية من القرن العشرين، أن تركيا تصرفت بأقل من مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها في سياساتها الإقليمية والعالمية منذ تأسست الجمهورية، ووجد أحمد داود -هو وغيره من تيار العثمانية الجديدة- أن السبب في تراجع تركيا خلال الحقبة الماضية يعود إلى سياسة "القطيعة" التي سعت لفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، والتي عمقت أيضاً الانقسام بين "العلمانية"، و"الإسلامية"، وغلبت الأمن على الحرية، وأحدثت أزمة "هوية" في أوساط النخب التركية، والحل هو في تبني "عثمانية جديدة"، والعثمانية الجديدة لا تعني بعث السياسات التوسعية للدولة العثمانية، ولا العودة للماضي الغابر، وإنما قوامها ثلاثة مرتكزات، أولها: أن تتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، وتعتز بماضيها "العثماني" متعدد الثقافات والأعراق، وتوسع الحريات في الداخل، وتحفظ الأمن في الخارج، وثانيها: استشعار العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية، والثالث: الاستمرار في الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات متوازنة مع الشرق الإسلامي، وباختصار فإن "العثمانية الجديدة" تعني الاعتماد على القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية.. إنها تعني بحسب أوغلو: "علمانية أقل تشدداً في الداخل، ودبلوماسية نشطة في الخارج، وخاصة في المجال الحيوي لتركيا"، ومن اللافت أن أوغلو يؤمن بأن بناء دور تركي متماسك في العالم العربي تعوقه مشاكل عدة منها فقدان بعض الأنظمة العربية للشرعية بما يملي على تركيا، برأيه، أن تعمل بصبر على تشجيع الإصلاح والتغيير، ومن هنا يمكن فهم الخطاب السياسي التركي الحاد حيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والضغط عليه من أجل التنحي، ثم تكرار الدور ذاته مع القذافي وبشار الأسد، كترجمة مباشرة لفلسفة السياسة الخارجية التركية الراهنة.
 
و لا يحبذ داوود أوغلو الدور المرن الذي كانت تركيا تلعبه إبان الحرب الباردة، ويفضل ألا تدخل تركيا في مشاكل مع الدول المجاورة، ومنها إيران بالطبع، ويتضح أساس مفهوم داوود أوغلو لعدم الدخول في مشاكل مع الدول المجاورة في كتابه "العمق الإستراتيجي" الصادر عام 2001، فقد تزايدت معدلات التجارة السنوية مع روسيا إلى 40 مليار دولار، وتحسنت العلاقات مع سورية بشكل غير مسبوق، ووقعت تركيا اتفاقا للتجارة الحرة مع الأردن، بل إنها تأمل في مضاعفة التجارة ثلاث مرات مع إيران خلال السنوات الخمس القادمة، ولهذا يشعر الغرب بالتوتر من التحركات التركية، لاسيما وأنها تطبق فكرة التكافل الاقتصادي - التي قام عليها الإتحاد الأوروبي - كأساس للاستقرار والسلام الإقليمي، وحسب ما يقول داوود أوغلو، فإن السياسة الخارجية التركية "تقوم على تحليل واقعي وعقلاني للصورة الإستراتيجية". ويرى خبراء أن سياسة داوود أوغلو مع إيران صحيحة نوعاً ما، إذ أن العزلة تريح المتشددين.
 
 وقد تخلت تركيا عن سياستها القائمة على تجنب أي مشاكل مع جيرانها، أو ما يعرف بـ "صفر مشكلات" لمصلحة تبني موقف داعم للمعارضة السورية، ومع فرار أكثر من خمسة آلاف لاجئ سوري عبر الحدود هرباً من حملة  الرئيس السوري بشار الأسد أدركت تركيا الوضع المحرج الذي وجدت نفسها فيه  بمحاولتها تأييد الديمقراطية وفي ذات الوقت الحفاظ على العلاقات مع نظام بشار الأسد الذي يشن حملة دامية ضد شعبه، وانهارت سياسة التقارب مع سوريا بالكامل، وحثت تركيا الأسد على تنفيذ إصلاحات، وضمت صوتها للإدانة الدولية المتصاعدة ضد دمشق.
 
 صراع الأدوار في العلاقات الإيرانية ـ التركية 
ترتبط تركيا وإيران بمزيج من المصالح المشتركة التي تتمثل في التجارة والطاقة والقضية الكردية التي يتقاسمان المخاوف بشأنها، وكان التنافس على العديد من الملفات سمة أساسية لعلاقات الجانبين، وقد ازداد هذا التنافس مع ظهور تركيا بقوة على مسرح الأحداث الإقليمية في السنوات الأخيرة، وكان ظهورها مرتبطاً بالقيام بدور الوساطة بين سوريا وإسرائيل، حيث فرضت أنقرة نفسها لاعباً محورياً في واحد من أكثر ملفات الشرق الأوسط تعقيداً وارتباكاً، بمعنى أن تركيا اختارت العودة إلى المنطقة عبر منافسة القوى التقليدية في ملفات تعتبرها الأخيرة ضمن نفوذها، ولكن الملاحظ أن الدور التركي في هذا الإطار احتفظ بقدر من التمايز عن الدور الإيراني، حيث آثرت أنقرة بدهاء دبلوماسي تفادي الاصطدام بالدور المصري التقليدي في الملف الفلسطيني، وأرجأت الدخول إلى هذا الملف إلى مراحل زمنية لاحقة ما لبثت أن حدثت في مراحل تالية، ولكنها تحققت عقب تمهيد الأجواء إقليمياً لدور تركي جديد، ما لبث أن حظي بترحيب شعبي وصل إلى حد الإعجاب بالساسة الأتراك وتصريحاتهم التي ألهبت مشاعر جماهير عربية تتوق شوقاً فيما يبدو إلى بطل تلتف حوله، ووجدت ضالتها في رموز السياسية التركية وخاصة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان.
 
الدور التركي الجديد في المنطقة لم يأت بشكل عفوي، كما لم يكن مجرد رد فعل عابر على رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إلى المنظومة الأوروبية، وإلا لكان هذا الدور قد شهد تراجعاً وانسحاباً تلقائياً بمجرد انطفاء جذوة الحماس للرد على التعنت الأوروبي تجاه أنقرة، وتشير أدبيات السياسة التركية إلى أن هذا الدور جاء وفق توجه مخطط وممنهج يستهدف تعظيم الدور التركي إقليمياً عبر إعادة هيكلة توجهات السياسة الخارجية التركية وتأطيرها ضمن ما يعرف إعلامياً أو اصطلاحاً بـ "العثمانية الجديدة".
 
إيران من جانبها تلعب ورقة القضية الفلسطينية منذ قيام الثورة عام 1979، واحتفظت بعلاقات وثيقة مع بعض التنظيمات الفلسطينية، عبر دعم الأخيرة بالأموال، ما رسخ لسنوات دوراً بارزاً لطهران في إدارة العلاقات سواء بين التنظيمات الفلسطينية وبعضها البعض، أو بين هذه التنظيمات ودول المنطقة، وزاحمت إيران على هذا المسار مصر التي تحاول الاحتفاظ بتأثيرها في الملف الفلسطيني، وظلت إيران لسنوات مضت تقود ما يعرف بمحور الممانعة الذي ضم إلى جانبها كل من سوريا وحركة حماس وحزب الله اللبناني الشيعي، في مواجهة ما كان يعرف أيضاً بمحور الاعتدال الذي ضم مصر والأردن ودول مجلس التعاون. 
 
نقطة الالتقاء الأبرز في التمدد الاستراتيجي للدورين الإيراني والتركي تحققت إذاً في الملف الفلسطيني، الذي يحظى بمكانة استثنائية في صراع الأدوار والمكانة داخل منطقة الشرق الأوسط بحكم ما للقضية الفلسطينية من ارتباطات دينية وعاطفية تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل اتجاهات الرأي العام العربي والإسلامي.
 
تهديدات
لا يكاد يمر أسبوع واحد دون أن تصدر تهديدات عن أحد المسؤولين الإيرانيين لتركيا، فعلى سبيل المثال، حذر اللواء يحيي رحيم صفوي أنقرة مؤخراً قائلاً "ينبغي على تركيا إعادة النظر بشكل جذري في سياستها تجاه سوريا والدرع الصاروخي الذي قد يبنيه حلف شمال الأطلسي وتعزيز العلمانية الإسلامية في العالم العربي، وإلا ستواجه صعوبات من جانب شعبها والدول المجاورة لها". وذلك التهديد لا يثير الدهشة، إذ تعود العداوة بين تركيا وإيران إلى قرون مضت في حقبة السلاطين العثمانيين، وهدأت لفترة وجيزة في القرن العشرين عندما حولت تركيا اهتمامها إلى الشؤون الداخلية، مما خلف فراغاً في منطقة الشرق الأوسط، ورغم ذلك تمكنت تركيا من إحياء مكانتها في المنطقة عن طريق الطفرة الاقتصادية التي شهدتها وبروزها كقوة إقليمية تحت قيادة حزب العدالة والتنمية. ثم جاء الربيع العربي، ووضعت الثورة السورية أنقرة وطهران على جانبين متناقضين من المسرح الإقليمي والسياسي، فنظراً لقناعاتها السياسية دعمت تركيا الثورة في سورية وساندت المتظاهرين، في حين واصل النظام الإيراني دعمه لنظام الأسد ومساندة حملته الوحشية ضد المدنيين ما دفع البعض للقول بوجود  حرب بالوكالة بين أنقرة وطهران، لن يفوز فيها سوى طرف واحد، ومن ثم أصبح كل شيء مسموحاً به في الصراع بين أنقرة وطهران على الأرض السورية، فمن جانبها تدعم تركيا وتستضيف وتسلح المعارضة السورية، بينما توجهت إيران مجدداً إلى دعم حزب العمال الكردستاني - الذي شن عشرات الهجمات منذ صيف عام 2011. وأدت المنافسة حول سورية إلى تعزيز الانقسامات في العراق، حيث كانت تركيا وإيران تدعمان معسكرات المعارضة، فقد شن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حملة على الفصائل العراقية التي تدعمها أنقرة، وأصدر مذكرة اعتقال بحق نائب الرئيس وزعيم مجتمع السنة بالعراق طارق الهاشمي، الذي فر إلى إقليم كردستان في العراق، كما عدل الأكراد أيضاً توجهاتهم، فقد شكلوا تحالفاً مع تركيا لموازنة النفوذ العراقي داخل العراق، ويرى بعض المراقبين أن تطور المنافسة بين إيران وتركيا يؤدي إلى صراع يرتبط بأن تغدو إيران أكثر عدوانية. إذ يرى بعض المحللين أن قوة القدس الإيرانية - وحدة العمليات الخاصة التابعة للحرس الثوري -  قد تكون على اتصال مع حزب العمال الكردستاني لاستهداف كل من تركيا والأكراد العراقيين.
 
ويرى مراقبون أن قرار تركيا العام الماضي الموافقة على نصب رادارات الدرع الصاروخي على أراضيها يمثل الخطوة التركية الأكثر عداء لطهران في العقود الأخيرة، ووصفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية هذه الخطوة بأنها الاتفاقية العسكرية الأكثر أهمية بين تركيا والولايات المتحدة وتعيد العلاقات بين الجانبين إلى ما قبل عام 2003 حينما أغضبت تركيا حليفتها واشنطن برفضها السماح بعبور فرقة مدرعة الأراضي التركية للمشاركة في غزو العراق.  
 
ورغم الحرص التركي على عدم تسليط الضوء على هذا الملف، فإن قائد القوات الأمريكية في أوروبا الليفتنانت جنرال مارك هيرتلنغ أكد في مقابلة مع الأسوشيتد برس جرت مؤخراً أن قوات أمريكية تقوم الآن بالإشراف على موقع جديد لنظام الرادار الدفاعي في تركيا سيساعد في الدفاع عن أوروبا ضد أي هجوم إيراني محتمل بصواريخ باليستية.
 
الخليج في حسابات التنافس التركي ـ الإيراني
تراوحت العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي بين إيران ودول مجلس التعاون بين المد والجزر، وارتبطت في ذلك بتوجهات القيادة في إيران إلى حد كبير، فعلى عكس قنوات الحوار التي فتحت بين الجانبين إبان فترة حكم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، اتسمت سنوات حكم الرئيس أحمد نجاد بالتوتر والشكوك، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي برز فيها التدخل  الإيراني المباشر مثار قلق لدى دول مجلس التعاون، خصوصاً فيما يتعلق بالدور الإيراني في مملكة البحرين واليمن وإلى حد ما في العراق، ولو أضفنا إلى ذلك توظيف إيران للورقة الطائفية وتوظيفها في تحقيق أهدافها بما يخل بالأمن والاستقرار في كثير من دول المنطقة، فضلاً عن المخاوف الخليجية من الآثار البيئية والإستراتيجية المتوقعة في حال امتلاك إيران برنامجاً نووياً ذا أبعاد عسكرية، يمكن تفسير حالة القلق المزمنة التي تسيطر على العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، ويختلف الأمر تماماً فيما يتصل بالعلاقات التركية مع دول مجلس التعاون، حيث يشترك الجانبان في العديد من الأهداف ويكادا يمتلكان أجندة مشتركة حيال قضايا المنطقة وملفاتها، علاوة على أنهما ينظران بريبة إلى طموحات إيران النووية، ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن المصالح الاقتصادية تلعب الدور الأبرز في ترشيح العلاقات التركية مع دول مجلس التعاون للدخول في مراحل أكثر قوة ومتانة، حيث تعكس الشواهد تنامياً هائلاً في حجم الاستثمارات والمشروعات المشتركة بين الطرفين في الآونة الأخيرة.
 
وفي ضوء فهم التحركات الأخيرة لدول مجلس التعاون حيال دول "الربيع العربي" حيث لعبت هذه الدول دوراً مؤثر في إدارة الأزمة اليمنية بهدوء وحنكة دبلوماسية وفرت البدائل والحلول والدعم السياسي القوي للخروج باليمن من مأزق كاد يدفع به إلى حرب أهلية طاحنة، وأيضاً في ليبيا حيث أسهمت قوات حلف الأطلسي التي قدمت الدعم للثوار الليبيين للقضاء على قوات القذافي التي كانت تقصف المدن والمدنيين الليبيين في سيناريو أساء كثيراً لصورة العرب والمسلمين في مختلف أرجاء العالم، وهو سيناريو تكرر أيضاً على يد قوات بشار الأسد في سوريا، التي استنسخت سيناريو الذبح والقتال الذي مارسه القذافي ضد شعبه، كما تقف دول مجلس التعاون في مقدمة الجهد الدولي الذي يستهدف حماية الشعب السوري من المذابح اليومية التي تنفذها قوات النظام، ومجمل هذه الأهداف والسياسات الداعمة لحقوق الشعوب العربية والرامية إلى حماية هذه الشعوب ومقدراتها وتماسك أراضيها هي ذات الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الدبلوماسية التركية من واقع فهم محركات السياسة التركية كما يرسمها وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو كما سبق الشرح، وبالتالي فإن هناك من الشواهد ما يؤكد تقارب المسافات والمصالح بين تركيا ودول مجلس التعاون، وأن العلاقات بين الطرفين مرشحة للدخول إلى مرحلة الشراكة الإستراتيجية خلال الفترة المقبلة، خصوصاً وأن هناك من القضايا والملفات ما يملي ضرورة التنسيق بين الجانبين، وفي مقدمة هذه القضايا يأتي استقرار العراق ووحدة أراضيه وتجاوز أزماته السياسية الراهنة، وهناك أيضاً معالجة الأزمة النووية الإيرانية، علاوة على تسوية القضية الفلسطينية، وضمان عبور دول "الربيع العربي" المرحلة الانتقالية التي تمر بها، ناهيك عن ملفات أخرى لا تقل أهمية للجانبين مثل أفغانستان، التي تعد تركيا أيضاً أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا الملف الصعب.
 
وإذا كان استقراء الشواهد يشير إلى أن دول الربيع العربي في الشمال الإفريقي (تونس وليبيا ومصر) تمتلك حظوظاً أكبر في الاستقرار خلال المدى المنظور مقارنة بدول تعاني أزمات مشابهة مثل سوريا، كما يشير أيضاً إلى أن هناك قوس أزمات جديد يتشكل ببطء من لبنان إلى إيران، مروراً بسوريا والعراق؛ فإلى جانب نقاط الضعف اللبنانية، الكائنة منذ وقت بعيد، أضيف بالفعل العامل المجهول بخصوص الوضع في سوريا، وكذا استمرار الأزمات السياسية العراقية، وأخيراً الأزمة المتصاعدة بين طهران والمجتمع الدولي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهي أزمة يمكن أن تنزلق إلى دائرة الخطر فيما لو نفذت إسرائيل تهديداتها بشأن استهداف المنشآت النووية الإيرانية عسكرياً، ولو نظرنا إلى مجمل هذه المشاهد المرتبكة في ضوء موقف الإدارة الأمريكية، التي تبدو حذرة في تحركاتها الخارجية بسبب الحملة الانتخابية وحتى تنصيب الرئيس الأمريكي المقبل في يناير 2013،  يبدو التنسيق بين دول مجلس التعاون وتركيا مسألة حيوية خلال المدى المنظور لضمان السيطرة على بؤر التوتر وتفادي أي مهددات للأمن والاستقرار الإقليمي.
 
والمؤكد أن الأزمة السورية ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض، فالمشهد السوري يخفي ورائه معالم أحد أكثر صراعات القوة تعقيداً وتقلباً وأهمية في تاريخ الشرق الأوسط ، حيث يجمع الخبراء على أن أحد أخطر جوانب الأزمة هي المواجهة الطائفية، حيث يعتقد أن هذه الأزمة قد عجلت بمجيء اختبار قوة حاسم بين السنة والشيعة، وبين تركيا وإيران، كما أثارت أزمة وجودية بالنسبة للفلسطينيين والأكراد والحكومة الشيعية في العراق، وفي هذا الإطار تقف تركيا منذ بدايات الأزمة داعمة بقوة للاحتجاجات المناهضة للنظام السوري رافضة ممارسات هذا النظام وعمليات القتل الممنهجة التي تقوم بها قواته في مختلف المدن السورية، على خلاف موقف إيران التي تدعم نظام الأسد بقوة، وقد أرسلت أسلحة ومستشارين إلى سوريا وحاولت أن تضغط على المالكي ليفتح ممراً عبر العراق لنقل المزيد من الدعم المادي، ولكن تكمن المشكلة بالنسبة لكل من دول مجلس التعاون وتركيا  في أن رحيل الأسد قد لا يأتي قريباً، وفي حال امتد الصراع واندلعت حرب أهلية سورية وأخذت في الاتساع والانتشار فقد تسفر عن عواقب خارج نطاق سيطرة مجلس الأمن ما يؤكد أهمية التنسيق الخليجي ـ التركي من أجل تجاوز إشكاليات هذه المرحلة الصعبة في تاريخ المنطقة.
 
تركيا وتسويق "النموذج"
كان لافتاً للمراقبين استقبال الرئيس التركي عبد الله جول  أثناء زيارته للقاهرة في مارس 2011  أكثر من 20 شاباً وشابة من شباب الثورة المصرية، وأعلن الجانب التركي وقتذاك أن  جول يقدم لجميع إطراف التحول السياسي المشورة الرصينة بدءاً من القادة العسكريين الذين يشرفون على انتقال مصر إلى ديمقراطية دستورية وحتى الرؤساء المحتملين وقيادات الحركات السياسية الرئيسية كلها فضلاً عن المثقفين والكتاب، وقال جول وهو أول رئيس دولة يزور مصر عقب تنحي الرئيس السابق  حسني مبارك في 11 فبراير 2011، متحدثاً للصحفيين في طريق عودته إلى اسطنبول أن المصريين الذين التقى بهم عبروا عن إعجابهم بما حققه حزب العدالة والتنمية التركي، وقال جول إنهم قالوا له "تركيا نموذج لنا، أنتم مسلمون وديمقراطيون وعلمانيون واقتصادكم تقدمي وبالتالي هذا نموذج لنا"، ونقلت وكالات الإنباء العالمية عن  مساعد لجول قوله أن طنطاوي اختتم الاجتماع الذي امتد لثلاث ساعات مع الرئيس التركي قائلاً أن التجربة التركية هي الأقرب لنا، وهي مثال نستطيع الاستفادة منه فعلاً، وحين اجتمع جول مع قيادات وشبان ينتمون لتيارات إسلامية  قيل انه لاحظ انخراطهم في التيار السياسي السائد تاركين وراءهم العقيدة، ولدى سؤاله إن كانت الحرية قد تشجع القوى المتشددة أجاب جول "أنا قلت لا تقلقوا بهذا الشأن، الديمقراطية تعيد تشكيل كل الحركات المتشددة، أنا مقتنع بهذا فعلاً".
 
عوامل تراجع إيرانية 
هناك العديد من العوامل التي تصب في سلة تراجع الدور الإيراني إقليمياً لمصلحة النفوذ التركي، بعض هذه العوامل داخلي والآخر خارجي، ففي داخل إيران فقد النظام السياسي الثقة لدى شريحة كبيرة من مواطنيه بسبب فضائح الفساد والإخفاق في رفع مستوى حياة المواطنين رغم ارتفاع سعر النفط، ما جعل البسطاء بمعزل عن حصد ثمار العوائد النفطية، في بلد يحتل موقعاً متقدماً على خارطة الإنتاج النفطي العالمي. 
 
واتجهت أصابع الاتهام بالفساد في الآونة الأخيرة إلى شخصيات مقربة من دوائر الرئيس نجاد، وتتحدث هذه الاتهامات عن إجمالي مبلغ 2.6 مليار دولار تم اللعب به والاستيلاء عليه من قبل أشخاص قام بعضهم بدعم حملة أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية عام 2009،  من ناحية أخرى توجد خلافات بين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والمرشد الأعلى للنظام علي خامنئي، على سبيل المثال كان أحمدي نجاد قد عيّن حيدر مصلحي كوزير للمخابرات، ولكنه أراد فيما بعد إقالته من هذا المنصب إلا أن خامنئي استخدم حق الفيتو بصفته القائد الأعلى للثورة ومنع هذه الإقالة، كانت النتيجة أن أحمدي نجاد اضطر إلى ابتلاع الهزيمة والتخلي عن خططه بوضع صهره رحيم مشائي في هذا المنصب، كما يشير محللون إلى أن الثنائي  نجاد ـ مشائي قد تحول إلى تحدٍ للنظام الاسلامي الإيراني لأنهما يعتمدان في سياستهما على القومية الفارسية أكثر من اعتمادهما على الدين، ومن ناحية أخرى يملك هذا الثنائي تفسيراً للشيعية يجعل من "ولاية الفقيه" أي منصب الزعيم الروحي للثورة بلا أحقية وبدون ضرورة، خاصة وأن مشائي يعتبر نفسه الأحق بقيادة العلماء.  
 
خارجياً تبدو إيران سائرة على طريق فقدان الدولة العربية الوحيدة الحليفة لها، في ظل تزايد احتمالات سقوط نظام الأسد، إضافة إلى أنها تتعرض لضغوط دولية قوية بسبب طموحاتها النووية وشكوك المجتمع الدولي في نواياها التي تستهدف "عسكرة" خططها النووية القائمة،  ويضاف إلى ذلك فقدان إيران دور "المُلهم" الذي كانت تطمح إليه عقب اندلاع إحداث "الربيع العربي" لمصلحة تركيا، وما يرتبط بذلك أيضاً من فقدان علاقات التحالف مع حركات مقاومة عربية كانت تضيف بعضاً من الرصيد الشعبي في السلة الإيرانية مثل حركة حماس الفلسطينية، وصعود تيارات إسلامية مناوئة للنفوذ الإيراني إقليمياً، خصوصاً التيار السلفي في مصر الذي يرفض قطعياً استئناف العلاقات بين القاهرة وطهران بسبب ما يعتبره سعياً إيرانياً لنشر المذهب الشيعي في الدول العربية والإسلامية، كما أن حركة "الإخوان المسلمين" التي احتلت موقع الصدارة في المشهد الانتخابي في دول "الربيع العربي" لا تبدي اندفاعاً في فتح قنوات الاتصال مع طهران، وتتحفظ في علاقاتها مع إيران لمصلحة ميل ملحوظ نحو التواصل مع الدوائر الغربية، علاوة على أن "إخوان سوريا" يلعبون دوراً بارزاً في مواجهة ممارسات نظام بشار الأسد، ما يجعل من الصعوبة بمكان على أي تيار أخواني آخر في أي من دول المنطقة الحديث عن بناء علاقات مع إيران، بدليل أن حركة حماس التي كانت تنظر إلى طهران باعتبارها حاضنة سياسية لها لم تعد تنظر بذات الدرجة من الأهمية إلى هذه العلاقات، وباتت تعيد النظر في إعادة هيكلة علاقاتها الإقليمية.
 
ويعتقد خبراء أن التعاطي الإيراني مع الربيع العربي يقف وراء القلق الذي انتاب التيارات السياسية العربية الجديدة حيال إيران، حيث بادرت إيران على لسان مرشدها الأعلى غير مرة إلى تفسير الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بنظامي مبارك وابن علي باعتبارها امتداداً للثورة الإسلامية الإيرانية 1979، ما أثار الفزع في كل من القاهرة وتونس خشية ربط التحولات الحاصلة في الدولتين بإيران، ما ينطوي عليه هذا الربط من إشكاليات داخلية على المستويين العقائدي والسياسي، ناهيك عن موقف المجتمع الدولي الذي ينظر إلى نظام الحكم الإيراني بارتياب.
والمؤكد أن موقف النظام الإيراني الداعم لممارسات بشار الأسد ضد الشعب السوري، قد وضع المسمار الأخير في نعش التعاطف العربي الإقليمي مع سياسات النظام الإيراني، الذي كان ينظر إليه قبل نحو عامين باعتباره رمزاً للمقاومة والصمود في مواجهة الضغوط الأمريكية، ولكن تمسك إيران بحليفها السوري ودعمه عسكرياً ولوجستياً للقضاء على احتجاجات شعبه قد وجهت ضربة قاصمة لأي محاولات للترويج للنظام الإيراني لدى الشعوب السنية العربية.
 
المتغير الأمريكي
يلعب الموقف الأمريكي حيال كل من إيران وتركيا دوراً أساسياً في بناء معادلة جديدة للقوة بمنطقة الشرق الأوسط في ظل احتمالات انكفاء قوى تقليدية مثل مصر وسوريا، وانشغالهما بالداخل خلال المدى المنظور على أقل التقديرات، وفي هذا الإطار يمكن القول بأن المتغير الأمريكي سيرجح كفة تركيا في لعبة التنافس الإقليمي مع إيران، لأسباب واعتبارات عدة في مقدمتها أن  مكان تركيا عضو حلف الأطلسي وموقعها الجغرافي الاستراتيجي على مضيق البوسفور الحيوي، فضلاً عن علاقاتها مع إسرائيل بغض النظر عن التوترات القائمة حالياً، ورغبة الجانب الأمريكي في نشر النموذج الإسلامي التركي، باعتباره الضامن الأساسي للجم أي توجهات دينية متطرفة لأنظمة الحكم الجديدة في دول الربيع العربي، أضف إلى القواسم والاهتمامات المشتركة التي تجمع بين أنقرة وواشنطن بدءاً من العراق والملف النووي الإيراني، مروراً بالقضية الفلسطينية، وأفغانستان وغير ذلك.
 
آفاق مستقبلية
تؤكد الشواهد كافة أن العلاقات بين تركيا وإيران قد باتت على المحك، وبات من الصعب على الجانبين تجاوز الخلاف الحاد حول المصالح، خصوصاً في ما يتعلق بتطورات الأزمة في سوريا، حيث بات الجانبان بالفعل على طرفي نقيض، في الوقت الذي ظهر فيه قرار تركيا باستضافة الدرع الصاروخي لحلف شمال الناتو على أنه نقطة خلاف مركزية أخرى بصعب القفز عليها تحليلياً؛ ومع ذلك يبقى من الصعب القطع بأن هذه التقاطعات في المصالح ستقود حتماً إلى مواجهة أو تدهور حاد في العلاقات التركية ـ الإيرانية، بل إن فهم هذه العلاقات المعقدة من واقع هذه المقاربة قد يؤدي إلى سوء فهم ويفرز استنتاجات غير واقعية بالمرة، وبدلاً من ذلك يمكن القول بأن مسار الملفات الخلافية بين أنقرة وطهران، هو الموجه لدفة هذه العلاقات، فشبكة العلاقات بين الجانبين واسعة ومعقدة ولا تقتصر على سوريا، بل وفيها من المصالح بقدر ما فيها من عوامل التنافس والصراع، إذ من الصعب أن تضحي طهران بعلاقاتها مع أنقرة، لاسيما في الآونة الراهنة حيث يلعب موقف تركيا الرافض لضرب إيران على خلفية طموحاتها النووية دوراً يصعب التقليل منه ضمن حسابات المجتمع الدولي، علاوة على أن الصراعات الطائفية بين تركيا السنية وإيران الشيعية يمكن تأجيلها لمصلحة اعتبارات أخرى تحظى بأولوية في الوقت الراهن بالنسبة لكلا البلدين، ومع ذلك فإن ذلك كله لا يعني أن تركيا ستكون سعيدة وهي ترى إيران في طريقها لامتلاك السلاح النووي، فالمسؤولون الأتراك أعلنوا عن موقفهم في هذا الخصوص بوضوح، وهو أن امتلاك إيران لقنبلة نووية يشكل تهديداً على أمن بلادهم وعلى أمن المنطقة بالكامل، ولكن تركيا تتعاطي مع الملف النووي الإيراني وفق رؤية قائمة على استبعاد المتغير العسكري، وتتلاقى في الوقت ذاته مع رؤية المجتمع الدولي الرامية إلى إقناع إيران بالكشف عن حقيقة نواياها النووية .
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-02-26 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره