مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-06-01

تأثيرات أزمة أوكرانيا في استراتيجيات حلـف شمال الأطلسي

تساؤلات كثيرة يطرحها الخبراء والمحللين حول تأثيرات الأزمة الراهنة في شبه جزيرة القرم على توجهات حلف شمال الأطلسي، وعلاقته بروسيا خلال المديين القريب والبعيد، وهل تدفع الأزمة الحلف إلى إعادة صياغة استراتيجيته الراهنة؟ مثل هذه التساؤلات تندرج ضمن مجالات اهتمام دوائر صنع القرار على المستوى الدفاعي في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، نظراً إلى ارتباط الحلف بصيغة شراكة مع دول المجلس من خلال مبادرة إسطنبول، فضلاً عن الدور العالمي للحلف وارتباطه بالكثير من ملفات الأمن والاستقرار العالمي.
 
إعداد: التحرير
 
وفي ملف هذا العدد تحاول مجلة "درع الوطن" تسليط الضوء على أبرز ركائز العلاقات بين حلف الأطلسي وروسيا، ومستقبل هذه العلاقات في ضوء تفاعلات الأزمة الراهنة في أوكرانيا وتطوراتها للتعرف على مسارات هذه العلاقات وسيناريوهاتها على المديين القريب والبعيد.
 
منذ أن اندلعت الأزمة في أوكرانيا لم يبلور حلف شمال الأطلسي استراتيجية واضحة للتصدي للنفوذ الروسي في الجمهوريات السوفيتية السابقة ما عدا الاعتماد على استراتيجية العقوبات والعزلة للضغط على الجانب الروسي. ويرى خبراء أن هذا الطريق ربما يكون طويلاً، وبينما يشعر البعض بالقلق من أن يؤدي فرض مزيد من العزلة على روسيا إلى تأجيج المشاعر القومية بين الروس وتوافر حافز إضافي لتبني نهج شعبوي وأكثر عدوانية تجاه الغرب.
 
ومع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الذي ينظر إليه إلى حد كبير باعتباره أمراً واقعاً لا رجعة فيه، يتوقع كثيرون الآن مزيداً من المواجهات في السنوات القادمة، وفي كلمة ألقاها في 18 مارس الماضي في أعقاب التدخل في القرم، شدد الرئيس الروسي بوتين على أنه سيكون مستعداً لاستخدام القوة لحماية مصالح الأقليات التي تتحدث الروسية، إذ نتج عن تفكك الاتحاد السوفيتي السابق نحو 25 مليون روسي يعيشون خارج حدود روسيا الاتحادية، وباتوا ضمن رعايا دول أخرى مثل أوكرانيا وكازاخستان وآسيا الوسطى وجيوب انفصالية في جورجيا ومولدوفا، فضلاً عن عشرات الملايين الآخرين مصنفين في جوازات سفرهم السوفيتية القديمة كأوكرانيين أو من روسيا البيضاء أو قوميات أخرى، لكنهم يتحدثون الروسية كلغة أولى.
 
وبرغم عدم وضوح بدائل الدول الأعضاء في حلف الأطلسي في حال قررت روسيا تمديد نفوذها في محيطها الجغرافي، فإن هناك ما يشبه الخط الأحمر الوهمي الذي يمكن تصوره في حال قررت موسكو مهاجمة دول البلطيق الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وهي خطوة سوف تستدعي البند الخاص بالدفاع الذاتي، وقد تقود إلى حرب أوسع نطاقاً مع الحلف، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
 
ويشير بعض الخبراء إلى أن أقوى رسالة يمكن للدول الغربية أن توجهها لموسكو هي أن كل خطوة تتخذها روسيا لتعزيز وضعها في مناطق تستطيع السيطرة عليها ستدفع دولاً أخرى للتحرك أكثر صوب الغرب؛ وهذا يعني زيادة الدعم الاقتصادي، وربما تبني خطوات أخرى مثل منح عضوية الاتحاد الأوروبي لدول أوروبية كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، أو توقيع اتفاقيات جديدة في مجال الطاقة واتفاقيات اقتصادية مع دول آسيا الوسطى. وفرضت الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات على عدد من الشخصيات الروسية بعد ضم القرم، لكن هذه العقوبات صيغت بحيث لا تكون لها تداعيات اقتصادية واسعة.
 
إجراءات غامضة
وهددت واشنطن وبروكسل باتخاذ إجراءات أشد إذا دخلت القوات الروسية مناطق أخرى في أوكرانيا. وأدى هذا التهديد إلى تزايد هروب رأس المال من روسيا الأمر الذي أضر باقتصادها وإن كان بشكل غير مباشر. ويقول مسؤولون إن من بين الإجراءات المطروحة استهداف المستثمرين الروس بشكل أكبر، واستهداف ثروة بوتين الشخصية، وإلغاء صفقة تصدير فرنسية لحاملتي طائرات هليكوبتر. لكن هذه التحركات قد تؤدي إلى خسارة وظائف في الدول الأوروبية، ومن المحتمل أن تقوض أداء الأسواق المالية في هذه الدول، ومن ثم تصبح مستبعدة نوعاً ما.
وفي واشنطن يواجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعوات لتسليح أوكرانيا وزيادة برامج التدريب وغيرها من الروابط العسكرية. لكن لا توجد رغبة حقيقية في التدخل المباشر، وخاصة في دخول مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا النووية. وفي الأول من إبريل الماضي، أعلن حلف الأطلسي ما سمّاه "إجراءات ملموسة" لتعزيز قدرات أوكرانيا للدفاع عن نفسها. لكن في واقع الأمر اقتصر ذلك على إجراءات غامضة "لبناء القدرات"، وتوسيع حجم مكتب الاتصال التابع لحلف الأطلسي في كييف.
 
صراع طويل الأمد
من المعروف أن حلف الأطلسي قد واصل تمدده بضم دول سوفيتية سابقة طيلة العقدين الماضيين، حيث ضم كلاً من المجر، وبولندا، وجمهورية تشيكيا إلى الحلف في عام 1997، وفي عام 2004 انضمت إلى الأطلسي جمهوريات البلطيق السوفيتية سابقاً (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا)، ثم تبعتها في 2008 كرواتيا وألبانيا. ثم أصبحت الجمهوريات السوفييتية السابقة (أوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا، وكازاخستان، وأرمينيا، وأذربيجان)، دولاً مرشحة لعضوية الأطلسي، في حين أن جميع جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً (قرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وأوزبكستان) تقدم دعماً لوجستياً لحلف الأطلسي في إطار الحرب الأمريكية في أفغانستان.
في 4 مارس الماضي، أعلن أمين عام حلف الأطلسي أندرس فوغ راسموسن أن الحلف أوقف تعاونه المدني والعسكري مع روسيا، وسوف ينشر تعزيزات عسكرية تشمل دوريات جوية فوق بحر البلطيق، وتحليق طائرات المراقبة (أواكس) "للإنذار المبكر" في أجواء بولندا ورومانيا.
 
ويأتي هذا الحشد العسكري في أعقاب نشر قوات أمريكية مدعومة بطائرات "إف-16" في بولندا، وطائرات "إف-15" في ليتوانيا، وسفن حربية في البحرين الأسود والمتوسط.
وكان حلف الأطلسي (الناتو) قد وقع منذ عامين اتفاقاً مع ثلاث دول من آسيا الوسطى هي كازاخستان، أوزبكستان وقرغيزستان بشأن استخدام أراضيها لنقل معداته العسكرية من أفغانستان. ويعطي الاتفاق الناتو إمكانية سحب معداته من أفغانستان، وإعادتها إلى أوروبا براً عبر روسيا. ومن المقرر أن يغادر الناتو أفغانستان حتى نهاية عام 2014، ويجب نقل عشرات الآلاف من معداته وأسلحته من هذا البلد. وتعتبر مسألة خطوط العبور بمنزلة التحدي اللوجستي الأساسي، الذي تواجهه الدول المشاركة في القوات الدولية في أفغانستان وعلى رأسها الولايات المتحدة، إذ إنها أرسلت إلى هذا البلد كميات ضخمة من العتاد العسكري. وتتم عملية الانسحاب على مراحل وفق الجدول الزمني الذي وضعه الحلف الأطلسي. 
 
واكتسب هذا الاتفاق أهمية خاصة بعد الحظر التي فرضته باكستان لستة أشهر على حركة عبور القوافل البرية التابعة لحلف شمال الأطلسي عبر أراضيها، بسبب استمرار الهجمات التي تقوم بها طائرات من دون طيار على المناطق القبلية الباكستانية. وهذا الأمر يمثل أحد جوانب الأزمة الراهنة بين روسيا والغرب. وقد وضعت أزمة شبه جزيرة القرم وتداعياتها روسيا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في حالة صراع يتوقع لها أن تكون طويلة الأمد، وستؤثر سلباً في العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، التي كان يعتقد حتى وقت قريب أنها متينة سياسياً واقتصادياً، برغم ما اعتراها من مظاهر صراع جيوسياسي. وتؤكد الشواهد أن ضم روسيا شبه جزيرة القرم، من دون التورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع أوكرانيا، ألحق ضربة جيوسياسية-استراتيجية مؤلمة بدول حلف "الناتو".
 
وقد ترى روسيا ترى أن تدخلها في أوكرانيا لا يختلف عن الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، وغزو بنما وجرينادا، ويشجعها على ذلك أنه لا يوجد تهديد عسكري أمريكي حقيقي لإجبار بوتين على التراجع، فلم يعد بوتين يخشى قرارات مجلس الأمن لقرار الفيتو، وطرد روسيا من مجموعة الثماني لن يفقد بوتين الكثير. ومن ناحية العقوبات الاقتصادية، فالاتحاد الأوروبي يعتمد كثيراً على روسيا في إمدادات الغاز، ما يدعم موقف بوتين، كما أن انعدام الحماس الأوروبي تجاه عودة الحرب الباردة، وهو ما يعرفه بوتين، كل ذلك يمكنه من التوصل إلى حلول تلبي أهدافه أو بعضها.
 
عقوبات أطلسية على خلفية أزمة أوكرانيا
جمّدَ الاتحاد الأوروبي أصولاً تعود لمسؤولين أوكرانيين مرتبطين بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وفرضت الولايات المتحدة الأمريكية قيوداً على سفر بعض المسؤولين والشخصيات الروسية والأوكرانية، ووقع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قراراً بتجميد أصول تعود لأشخاص، وصفهم القرار بأنهم مسؤولون عن عدم الاستقرار في أوكرانيا. وأوقفت الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة المحادثات مع روسيا بشأن التحضير لقمة "مجموعة الثمانية"، التي كان مقرراً انعقادها هذا العام في مدينة سوتشي الروسية. في المقابل، توقفت روسيا عن منح أوكرانيا الغاز الطبيعي بأسعار مخفضة، ولوحت بالتوقف عن إمداد الاتحاد الأوروبي بالغاز، ولوحت بالتوقف عن استخدام الدولار في تسوية تعاملاتها الخارجية. فوق هذا وذلك، لوح كل من الطرفين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب، وروسيا من جانب آخر، بفرض قيود جديدة على حركة السلع والخدمات والسائحين والمستثمرين ورؤوس الأموال الخاصة بالطرف الآخر، الأمر الذي إن تم فإنه يمثل قمة العزلة الاقتصادية لروسيا من جهة، ويضر بمصالح اقتصادَي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، من جهة أخرى. 
 
فدول الاتحاد الأوروبي هي الشريك التجاري الأول لروسيا، سواء تعلق الأمر بالصادرات أو الواردات الروسية، فهي تستحوذ على نحو 50% من إجمالي تجارتها الخارجية، بما قيمته نحو 123 مليار دولار سنوياً، وكذلك فالسوق الأوروبية والسوق الأمريكية هما الوجهتان الأولى للصادرات الروسية من الغاز الطبيعي والنفط. وعلى الجانب الآخر، فإن أبرز صادرات روسيا إلى أوروبا هي الغاز، الذي تعتمد عليه المنازل والمصانع في القارة، حيث إن ربع الاستهلاك الأوروبي من هذا المورد تلبيه روسيا، وهو ما يقلل الخيارات الأوروبية في حال قررت دول الاتحاد عزل روسيا تجارياً، ولاسيما أنه بجانب أهمية الغاز الروسي للأسواق الأوروبية، فإن روسيا أيضاً هي ثالث شريك تجاري لدول الاتحاد، بعد الولايات المتحدة والصين، إذ تستحوذ على 7% من صادراته و12% من وارداته. وفيما يتعلق بالولايات المتحدة فوضعاً بالأفضل كثيراً، إذ تقدر تجارتها مع روسيا بالأربعين مليار دولار سنوياً، منها نحو 27 مليار دولار، هي صادرات نفط ومشتقات نفط وأسمدة روسية تستهلكها الأسواق الأمريكية، وهي مواد يُستبعَد أن تستغني عنها الأسواق الأمريكية أو تجد لها بديلاً بسرعة، كما أن التلويح الروسي بالتوقف عن استخدام الدولار الأمريكي في تسوية تعاملاته عامل مؤثر، فالاقتصاد الأمريكي سيكون هو أول المتأثرين بأي تراجع يصيب الدولار جراء ذلك.
 
لن تقتصر آثار هذه التطورات على ذلك، بل إنها ستلحق بالاقتصاد العالمي كله، من خلال قنوات عدة، على رأسها التجارة العالمية، التي من المؤكد ستشهد تباطؤاً يزيد من ضعفها في الأصل، ويتوقع أن تتعرض أسواق المال العالمية لانخفاضات كبيرة وسريعة تضر بمصالح المستثمرين، ولن تكون أسواق الغاز الطبيعي والنفط بمعزل عن ذلك، فالأوضاع غير المستقرة ستؤثر سلبياً في توقعات المتعاملين فيها ومن ثم تحركاتهم، وقد تصل الأمور في حال نشوب حرب بين روسيا من ناحية وأوكرانيا وداعميها من ناحية أخرى، إلى حد انقطاع الإمدادات الروسية عن الأسواق العالمية للغاز والنفط، فيما يهدد ذلك بحدوث أزمة طاقة عالمية في الأجل القصير، وإن انخفضت حدتها بمرور الوقت مع التنامي التدريجي لإنتاج وتصدير النفط والغاز في مناطق أخرى في العالم. 
 
استراتيجية بوتين في أزمة أوكرانيا
وفي مقالة مشترك في صحيفة "واشنطن بوست" لـ"مولي ماكي"، و"غريغوري مانياتس"، اللذين عملا مستشارين للسياسة الخارجية والاتصالات الاستراتيجية لرئيس جمهورية جورجيا ميخائيل سكاشفيلي في أثناء وبعد حرب 2008 بين روسيا وجورجيا، تمت الإشارة إلى أن بوتين قد سبق أن قام بغزو جورجيا عام 2008، وحينذاك استغرق أشهراً في نشر قواته وآلياته العسكرية، حيث قام بإعادة بناء طرق السكك الحديدية والطرق السريعة، لنقل دباباته والآلاف من قواته، في الوقت الذي قامت فيه طائراته بالتحليق فوق الأراضي الجورجية؛ بهدف التهديد وإثارة الرعب، واستخدم بالتوازي مع ذلك وسائل الإعلام الرسمية لتحوير الوقائع حول من بدأ تلك الحرب، لكن الآن، وكما يقول الكاتبان، فإن بوتين لم يعد ملتزماً بقيود حرب الدولة القومية، بعد أن أثرت المواجهات الكثيرة مع الانفصاليين والمسلحين والإرهابيين والمشردين التي مر بها خلال السنوات السابقة في تفكيره، وهو ما انعكس على خطواته حينما نوى التدخل في شبه جزيرة القرم، فقد شن حرباً مفاجئة - سريعة وخفية- من المرجح أن تكون صيغة للحروب المستقبلية، حيث كان هناك عدد من السمات غير التقليدية في تحركاته، وهي:
 
أولاً: استخدام قوات خفية لا انتماء لها، ترتدي البزات العسكرية المموهة التي تخلو من شارات تدل على الدولة التي تنتمي إليها، كما أن الجنود لم تُعرف هويتهم أو القيادة التي ينتمون إليها، ولديهم القدرة على مواجهة أعمال العنف وخوض حرب الشوارع، ويبدون وكأنهم غير مقيدين بالقوانين أو الأنظمة والمواثيق التي تحكم الحروب، هذه الأنظمة والقوانين التي هي من أكثر ما يرفضه بوتين في النظام الدولي الآن. ويقول الكاتبان إن هؤلاء الجنود هم إرهابيو بوتين، المقنعون الذين يخضعون لقيادة وأوامر خفية، ويعملون من أجل تحقيق أهداف محددة، وعدم معرفة تبعية هؤلاء الجنود أربك الأسرة الدولية وأضعف ردها، حيث لا وضوح للقيادة أو الجنرال الذي يتبعونه، والذي يمكن التفاوض معه بشأن الهدنة أو الاستسلام، وكانت هذه القوات غير النظامية بمنزلة التهديد النفسي بالنسبة إلى السكان المحليين في أوكرانيا، الذين لا يعرفون أماكن وجود هذا الجيش الخفي.
 
ثانياً: استخدام وسائل الإعلام الرسمية لتحوير المعلومات وتبرير الغزو الروسي لمنطقة القرم، وقد أسهمت الخطط السيبرانية في خدمة هدف بوتين لقطع الاتصالات بين المشرعين ومراكز الحكم، واستمرار تدفق تيار التضليل باللغة الروسية الذي أنذر بقرب الحرب الجديدة على "الفاشيين"، وقد لفق بوتين نسخة من الواقع لبث الحكاية التي يحتاجها لزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، حيث قرر أن هناك حاجة للتقسيم العرقي بحسب اللغة من أجل تحقيق أهدافه، ومن ثم التخلي عن أجزاء من هذا التقسيم. وفي هذا الصدد نشرت وكالة "إيتار تاس" الروسية الأسبوع الماضي، قصة تناقلتها وسائل الإعلام، ومنها مجلة "فوربس" حول طلب 650 ألف أوكراني مؤخراً اللجوء السياسي في روسيا، وهذا الأمر يشبه ما سبق أن ادعت به موسكو عام 2008 من أن ألفين من المدنيين قد قتلوا في أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، ومن ثم قامت روسيا بإرسال قواتها التي لا تزال موجودة في تلك المنطقة، وعقب ذلك عثر مراقبو الحقوق الإنسانية على 44 جثة لمدنيين فقط، لكن وكالات الأنباء الغربية قامت بتغطية الأنباء الملفقة التي نشرها بوتين على أنها تستحق النقاش، ويرى الكاتبان أن هذا التشويه للحقائق والتهويل قد أدى إلى إبطاء الردود على أفعاله، وإضعاف عزيمة أولئك الذين كانوا يرغبون في التصدي له.
 
ثالثاً: استخدام بوتين لأسواق المال كوسيلة في إثارة الجدل، فقد أدرك بوتين تأثير قوته المالية عقب التقرير الذي نُشِر عام 2012، والذي أوضح أن بوتين أحد أكبر الشخصيات ثراء في العالم، كما سمحت له الثروة المالية الروسية بعقد "شراكات" قائمة على المصالح المالية المتبادلة، يعتمد عليها بوتين في مناوراته السياسية، خصوصاً في ظل درايته بالتكتيك المالي. وكما حدث عقب النزاع بين روسيا وإستونيا عندما تعطلت حواسيب الأسواق المالية الإستونية في عام 2007، جراء هجمات سيبرانية مدمرة مصدرها الأجهزة والجهات الروسية، التي كانت تستهدف شل البنى الاقتصادية والسياسية والمالية لإستونيا. فخلال الأسبوع الماضي وعقب الانخفاض في الأسواق المالية الروسية، بنسبة تزيد على 10% وسط مخاوف الحرب، جراء أحداث القرم، عقد بوتين مؤتمراً صحفياً من أجل طمأنة المستثمرين، ما مكنه من استرداد ما خسره خلال الأسبوع.
 
وخلص الكاتبان إلى القول بأن التخطيط الذي اتبعه بوتين في الأحداث الأخيرة خلق الفوضى التي مكنته من السيطرة على الوضع الراهن، وسمحت له بالتأثير في السياسيات الأوكرانية، وجاء تحركه نحو القرم باعتبارها قليلة المخاطر لاختبار حربه الجديدة، وثقته بعدم قيام الغرب المنهك بردّ مادي على غزوه شبه الجزيرة، معتمداً، ولفترة طويلة، على المطرقة الثقيلة على الطريقة السوفيتية، لكن أفعاله الأخيرة تدل على أن القوة العسكرية التقليدية والاستخباراتية لم تعد الوسائل التي يعول على استخدامها في القتال، وفي الوقت الذي يتركز فيه تفكير الغرب على أفضل السبل للرد على بوتين، الذي يفكر بالمراحل القادمة، وهو مشغول بتحديد أي من البروتوكولات الدولية تتطابق مع أفعاله وكيفية استخدام خططه في أماكن أخرى.
 
الوضع الاستراتيجي الراهن للناتو
يشهد حلف شمال الأطلسي منذ بدايات القرن الحادي والعشرين حالة من التراجع الاستراتيجي في دوره، برغم توسيع عضويته من بعض دول أوروبا الشرقية، ولم تفلح المساعي التي بذلتها واشنطن، منذ تفككك الاتحاد السوفيتي، بتفعيل دور الحلف إلى المستوى الذي كان عليه قبل عام 1991. وأقر بذلك الرئيس باراك أوباما في قمة زعماء الحلف بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه في أغسطس 2009، حيث أكد أوباما أن قادة "الناتو" "فشلوا في حل كل المشكلات العالقة بين دوله، وبات الحلف بحاجة إلى أن يتغيّر، ويكتسب مزيداً من الحداثة، ليكون قادراً على مواجهة التحديات غير التقليدية". ويشار إلى أن التجاوب الأوروبي مع دعوات الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان أفضل نسبياً عن التجاوب مع إدارتي بيل كلينتون وبوش الابن، ويرجع ذلك إلى مضمون خطة "الاستراتيجية العسكرية الأمريكية للقرن الـ21" التي اعتمدتها إدارة أوباما، حيث اعترفت في هذه الخطة بأن "مفهوم الأمن المتداخل الذي تعتمده أوروبا في استراتيجيتها الدفاعية الموحدة" يتكامل مع دور الحلف، وهو ما كانت ترفضه الإدارات الأمريكية السابقة، التي كانت تتعامل مع أوروبا كتابع لها، وخاضعة لقيادتها في الاستراتيجية الدفاعية للحلف. غير أن الدول الأوروبية عملت على توظيف هذا التنازل الأمريكي في تكييف عمل قوات الحلف مع متطلبات التحول إلى قوات لحفظ السلام، وتثبيت ذلك في "العقيدة الاستراتيجية الجديدة للحلف"، التي تم اعتمادها عام 2010. وقد تعاملت روسيا الاتحادية حينها باعتبارها الرابح الأكبر من خلال قرار قادة الحلف تحسين العلاقات الدبلوماسية، وإحياء العمل معها في مختلف المجالات دون أي شروط مسبقة، واستئناف عمل مجلس روسيا "الناتو"، وتجاوز نتائج تدخلها العسكري في النزاع الجورجي-الأوسيتي الجنوبي، واجتياحها للأراضي الجورجية. 
 
كما أن تأجيل النظر في طلب أوكرانيا وجورجيا الانضمام إلى عضوية الحلف تم اعتباره انتصاراً لروسيا، التي أوصلت -بحسب وجهة نظر الكرملين- رسالة قوية لأوروبا والولايات المتحدة، بنجاحها في إيجاد واقع سياسي وعسكري في منطقة القوقاز، وآسيا الوسطى، أوقف التغلغل الأمريكي في الخاصرة الأمنية الروسية الرخوة، ومكن روسيا أن تنتقل بعد ذلك من الدفاع للهجوم في ردها على مشروع نشر "الدرع الصاروخية" الأمريكية وتمدد الحلف الأطلسي شرقاً، بقرار نشر صواريخ "إسكندر" الاستراتيجية في إقليم كالينغراد الروسي، الواقع ضمن أراضي الاتحاد الأوروبي. وأرست روسيا من خلال ذلك معادلة يتهدد فيها الأمن الأوروبي بشدة، ما دفع أوروبا إلى أخذ الاعتراضات الروسية بعين الاعتبار، وتفضيل لغة الحوار والتعاون مع موسكو الممسكة بملفات حساسة تفوق حينها في أهميتها بالنسبة إلى أوروبا الأزمةَ القوقازية، والدرع الصاروخية وتوسيع حلف الأطلسي، مثل الملف النووي الإيراني، وكونها مصدراً آمناً لإمدادات الطاقة التي تحتاج إليها القارة الأوروبية، ونفوذها في دول آسيا الوسطى، وأهمية تعاونها في محاربة القاعدة وطالبان،... إلخ.
 
وشكَّلت أزمة شبه جزيرة القرم فرصة استثنائية للولايات المتحدة الأمريكية كي تدفع وبقوة نحو إعادة الاعتبار لدور "الناتو" وتطويره، عبر تخطي الخلافات التي شابت علاقات دول الحلف في العقدين الأخيرين، ولاسيما بخصوص ضرورة تغيير أهداف الحلف ومهامه، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وحلف "وارسو". وثمة تقدير راجح بأن السلوك الروسي إزاء أزمة القرم سيحفز الولايات المتحدة، بدعم أوروبي، إلى التشدُّد، وأخذ زمام المبادرة من جديد، تحت وقع ضغوط متصاعدة من قبل أوساط نافذة في صنع القرار الأمريكي، تتهم إدارة أوباما بأنها تخلت عن شعارات قيادة العالم الحر.
 
علاقة الناتو بدول مجلس التعاون
من المعروف أن قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) قد وافقت في منتصف عام 2004 على مبادرة لتوسيع التعاون مع دول الخليج العربي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بإنشاء «مبادرة إسطنبول للتعاون». وذكر البيان الختامي للقمة «أن مبادرة إسطنبول للتعاون ستبدأ مع دول منظمة التعاون الخليجي لتحقيق المصالح المشتركة ولتعزيز الأمن والاستقرار». وذكر البيان أن المبادرة ستركز على خطط تعاون عملية يستطيع بها الناتو دعم شراكته مع دول الخليج «وبشكل ملحوظ في موضوعي الدفاع والأمن». كما يؤكد البيان الختامي أهمية تعزيز العلاقات بين الناتو وشركائه في البحر المتوسط في ظل التطورات الأمنية الأخيرة في المنطقة. وذكر أنه منذ تم الاتفاق عام 1994 على بدء حوار متوسطي مع الناتو «أسهم ذلك بشكل كبير في بناء الثقة والتعاون بين الطرفين»، وأضاف البيان: «في ضوء التطورات الأمنية الأخيرة، فإن هناك فرصة عظيمة لتعاون بناء بين الناتو ودول الحوار المتوسطي. وشدد على أن الهدف من علاقات التعاون بين المتوسط والناتو هو «تعزيز الأمن والاستقرار من خلال تعاون سياسي أقوى»، وتابع أن ذلك سيتضمن «تقوية الحوار السياسي القائم حاليا، وتطوير الإصلاح الدفاعي، والتعاون من أجل محاربة الإرهاب». وبعد كل هذه الأعوام من بدء الشراكة بين دول مجلس التعاون وحلف الأطلسي من خلال مبادرة إسطنبول، تبدو النتائج أقل كثيراً من التوقعات. وفي عام 2004، كان الافتراض المبدئي وراء طرح مبادرة إسطنبول التعاونية أن المجال السياسي للشراكة لن يعاني العقبات نفسها التي واجهها برنامج الحوار المتوسطي لحلف شمال الأطلسي. إذ كان من المفترض أن يستخدم الحوار المتوسطي عملية أوسلو للسلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لتعزيز التعاون على المستويين السياسي والأمني بين حلف شمال الأطلسي وجيرانه على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. ولكن في أعقاب انهيار المحادثات الدبلوماسية، أصبح تنفيذ البرنامج أمراً بالغ الصعوبة. 
 
للوهلة الأولى، بدت البيئة السياسية لمبادرة إسطنبول التعاونية أكثر ملاءمة بكثير لنهج التعاون. فلم تكن هناك قضية مثيرة للجدل بين الشركاء بقدر قضية الصراع العربي-الإسرائيلي. ولذلك فقد تم طرح مبادرة إسطنبول التعاونية باستخدام نمط عكسي. ففي حين كان برنامج الحوار المتوسطي منصباً على تذليل العقبات السياسية من خلال الحوار الدبلوماسي، كانت المبادرة تتبنى نهجاً شاملاً من خلال بناء علاقات عسكرية عملية متبادلة لإبراز التقارب السياسي. 
 
مع ذلك، واجه حلف شمال الأطلسي عقبات عديدة منذ البداية، منها عدم انضمام كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان إلى مبادرة إسطنبول، أما العقبة الثانية التي حالت دون مضي مبادرة إسطنبول التعاونية قدماً في فشلها في "إشراك أطراف عديدة" في مسارها، فقد أعربت دول مجلس التعاون التي انضمت إلى المبادرة، وهي الكويت، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين عن تفضيلها لإطار عمل ثنائي الأطراف، بدلاً من إطار متعدد الأطراف. ومع ذلك فهناك بعض الإنجازات التي تحققت على صعيد العلاقات الثنائية بين حلف شمال الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي، منها على سبيل المثال أن دول المجلس كانت بين الشركاء الأكثر فعالية في العمليات التي قادها حلف شمال الأطلسي في مناطق عدة من العالم.
 
الناتو بعد الأزمة المالية العالمية
في أكتوبر من عام 2012، خرج أول إعلان رسمي يشير إلى حدود تأثر حلف شمال الأطلسي بالأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، حيث طرح وزراء دفاع الحلف خلال اجتماعهم بالعاصمة البلجيكية بروكسل مصطلح "الدفاع الذكي" لمواجهة الأزمة المالية العالمية التي بدأت تؤثر وبشكل واضح في حلف الناتو. وفي هذا الإطار قال أندرس فوخ راسموسن، الأمين العام للحلف، عقب الاجتماع إن "الدفاع الذكي سيعطي للناتو الفرصة لمواجهة الأزمة المالية وضمان عدم تأثر الحلف بتلك الأزمة التي تعصف بالعالم"، وأوضح أن خطة "الدفاع الذكي" تتضمن صرف القليل من الأموال في مهام دفاعية، مشيراً إلى أن قيام الدول الأعضاء بالتنافس على صناعة الأنواع نفسها من الأسلحة لا تجعل الحلف في منأى عن الأزمة المالية. وقد طالب الأمين العام للحلف وزراء دفاع الدول الأعضاء بالحلف التقدم بمشاريع واضحة والتزامات دقيقة للمساهمة في بناء "الدفاع الذكي". من جهته، أكد وزير الدفاع الأمريكي وقتذاك أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة على صرف الأموال في الدفاع عن الغير، بل قد تلجأ في الفترات القليلة القادمة إلى تقليص ميزانيات الدفاع، ولن تعود قادرة على الإسهام في مزيد من العمليات العسكرية التي يقودها الناتو. 
 
وتعليقاً على هذا التطور، اعتبر الخبراء أن التحذير من تأثيرات الأزمة المالية في خطط حلف الناتو كان متوقعاً، خصوصا بعد ما طُرح من تساؤلات وعلامات استفهام عقب التدخل العسكري الذي قاده الحلف في ليبيا، حيث أشار الخبراء والمراقبون إلى أنه برغم الإمكانيات العسكرية والعملياتية التي تتمتع بها دول الحلف، فإن نجاح التدخل لم يكن ليحدث لولا المجهود الحربي الأمريكي الذي لعب الدور الأبرز في إنجاح خطط الحلف في ليبيا. وعلى هذه الخلفية بدأت أصوات من داخل الناتو تطالب الدول الأعضاء بإيجاد بدائل تقاسم الأعباء والتحضير المستقبلي لإنتاج المعدات العسكرية التي يحتاجها الحلف في عملياته المستقبلية، والمقصود هنا الطائرات من دون طيار وطائرات الهيلكوبتر وأجهزة العمل ألاستخباراتي وحماية الجنود وطائرات تموين المقاتلات بالوقود في سماء العمليات.
 
في مقابل هذه المطالبات التي تعني بالأساس الدول الأوروبية من أعضاء حلف الناتو، وقفت العواصم الأوروبية شبه عاجزة في مواجهة طوفان الأزمة المالية التي كادت أن تعصف بالوحدة المالية والسياسية للاتحاد الأوروبي، بعد تفاقم أزمة الديون السيادية في العديد من دول منطقة اليورو خصوصا اليونان وإسبانيا وإيطاليا، بل إن الأزمة هددت بالفعل اقتصادات رئيسية تعتبر ركيزة لمنطقة اليورو مثل فرنسا وألمانيا، ما عمق بالتبعية إشكالية الأمن الأوروبي متمثلة في عدم مقدرة أوروبا على حماية نفسها، فضلاً عن بناء دفاع ذاتي متطور وقادر على التدخل خارجياً للدفاع عن المصالح الأوروبية تحت مظلة حلف الأطلسي. وإذا كان بعض الخبراء قد رأى أن الحل يكمن في توحيد الجهود الأوروبية على صعيد الإنتاج والتطوير العسكري لملاحقة التطور الأمريكي في هذا المجال ورأب الثغرة القائمة عبر جانبي الأطلسي، وإنجاز مشاريع دقيقة وواضحة بصفة تكاملية لتفادي الازدواجية القائمة حالياً، فضلاً عن مواجهة التهديدات المستحدثة، والتغلب على التأثيرات السلبية الناجمة عن تقليص ميزانيات الدفاع تحت وطأة خطط التقشف وخفض الإنفاق في المجالات كافة لمواجهة توابع الأزمة المالية. وفي مقال منشور بصحيفة كريستيان ساينس مونيتور في شهر مايو 2012 تساءل الخبير الأمريكي المعروف كُرت فولكر، سفير الولايات المتحدة السابق إلى حلف "الناتو"، قائلاً: علينا أن نسأل أنفسنا ماذا يتعين على "الناتو"، أو الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عام، القيام به في الواقع اعتباراً من الآن؟ وأجاب قائلاً: الأكيد أن الحلف يبذل أقصى ما يستطيع في ظروف سيئة. ولكنه أصيب بالإرهاق في أفغانستان على نحو أسرع مما هو مطلوب لتحقيق النجاح. وهكذا، فإنه سينكب هناك على عملية انتقالية حتمية ولكنها هشة. ويرى فولكر أن معاناة أوروبا من الأزمة المالية، التي دفعت الدول جميعها إلى خفض ميزانيات الدفاع. هذه المعاناة تفسر جزئياً التركيز الجديد على مشاريع "الدفاع الذكي" الأطلسية. ويأخذ فولكر على الحلف أن أعضاء كثيرين داخله يفتقرون إلى الوسائل أو الإرادة (أو كليهما) لتولي عمليات عسكرية صعبة، وبالتالي، فشيء جيد أن يقوم شركاء للحلف مثل السويد وقطر بسد الفراغ. وعلاوة على ذلك، فلا أحد في أوروبا يبدو متحمساً بشأن الدفاع الصاروخي للتصدي لضربات محتملة من إيران. 
 
ويرى فولكر أن "الناتو" الذي حوَّل نفسه على نحو دراماتيكي بعد الحرب الباردة أخذت قوته تنفد، فمنذ سقوط جدار برلين في 1989، بدأ الحلف إجراء عمليات عسكرية "خارج المنطقة"، بدلاً من التركيز على الردع. والآن، فقد الحلف دعم الرأي العام لمهامه الخارجية وبدأ في إنهاء هذه العمليات، كما أن عملية "فتح الأبواب" وتوسع الحلف عبر ضم أعضاء جدد من أوروبا الوسطى قد انتهت تقريباً، أو لم تعد مطروحة للنقاش بعد أن انشغلت روسيا بنفسها. والأهم أن أزمة منطقة اليورو كانت كفيلة بالقضاء على أي حماسة لمواصلة جهود الحلف على هذا الصعيد.
 
ومن المعروف أنه خلال العقدين الأخيرين، حوَّل "الناتو" قواته الدفاعية من قوات ثابتة وثقيلة إلى قوات رشيقة وقابلة للنشر في أي مكان، ولكن تلك القدرات باتت خاضعة للمراجعة والتقليص. أما الممارسة الوحيدة التي تعود إلى زمن الحرب الباردة وما زال معمولاً بها في الحلف، فهي عقد شراكات مع بلدان أخرى. غير أن حتى ذلك يمثل تطوراً مختلطا بالارتياح والألم بالنسبة إلى الحلف. فمن باب المفارقة أن يضطلع شركاء الحلف بمهام يرفض بعض الأعضاء القيام بها مثل خوض القتال. وينتقد فولكر الحلف معتبراً أن قمة الناتو التي عقدت في لشبونة في عام 2010 قد حددت "مفهوماً استراتيجياً" للمستقبل، لكن تبين لاحقاً أن ذلك هو عبارة عن ملخص كامل لكل الأشياء التي يتعين على "الناتو" القيام بها، من دون أولويات حقيقية والتزام بالموارد، وعبر ترتيب كل الأولويات، لم يرتب الحلف أي شيء.
 
الإشكالية التي يعانيها الحلف الآن بنظر الخبراء هي تعزيز صدقية الحلف، عملاً بمقولة لورد روبرتسون، أحد الأمناء العامين العظام للناتو، الذي كان يعتبر أن "مصداقية الناتو هي قدرته". ولكن في مواجهة تآكل قدرة الحلف بشكل متسارع، أصبح التراجع المتزايد في المصداقية مطروحا بقوة. والإشكالية في هذا الإطار تكمن في أن الحلف يمتلك سقف طموحات عال، ولكنه لا يمتلك ما يدعم هذه الطموحات، سواء من حيث الموارد أو القيادة أو الالتزام. وبالتالي، فيمكن القول إن استعادة مصداقية "الناتو" هي أهم مهمة للحلف في الوقت الراهن.
 
إن الرسالة الموجّهة إلى القطاع العسكري لحلف الناتو واضحة تماماً. فقد يؤدي تقليص ميزانيات الدول الأعضاء الرئيسية بالحلف، في النهاية، إلى إضعاف القدرات الدفاعية المستقبلية للحلف. في الوقت ذاته، يتعيّن على الاستراتيجيين أنْ يتغلبوا على ثلاثة تحديات إضافية:
 
أولاً: زادت مؤخراً بعض الدول التي لا تنتمي إلى لحلف الناتو، ولاسيما الصين والهند، إنفاقها الدفاعي. وسيستمر هذا المنحى، حتماً، عند ظهور البوادر الأولى لانتعاش الاقتصاد العالمي. ومن المتوقّع أن تقفز حصة آسيا من الإنفاق العسكري العالمي من 24% في عام 2007 إلى نحو 32% بحلول عام 2016. وتُعدُّ الميزانية الدفاعية الصينية، التي يعتقد بعض المحلّلين أنّ حجمها الحقيقي يساوي ضعف الحجم المعلن عنه رسمياً، تُعدّ من أكبر نظيراتها في آسيا. وتنفّذ المؤسسة العسكرية الصينية حالياً برنامج تحديث شاملاً بفضل هذه الميزانية. أما في الهند، فإنّ الطفرة الأخيرة في إنفاقها الدفاعي كانت كبيرة حقاً (فبين عامي 2009 و2010 فقط، نمت ميزانيتها الدفاعية بنسبة 24%). ولو أخذنا القوّة الشرائية للعملة الهندية بعين الاعتبار، لوجدنا أنّ الهند هي ثالث أكبر مُنفق على الدفاع في العالم.
 
ثانياً: هناك ما يسمّى "ثورة الشؤون العسكرية". وتركّز هذه الثورة على اكتساب أرقى تقنيات المعلومات والاتصالات لتوفير أكثر القدرات فاعليةً في مجال "الحرب الإلكترونية"؛ وهذه عملية باهظة التكاليف. وقد بدأت ثورة الشؤون العسكرية تفرض ضغوطاً كبيرة على الميزانيات الدفاعية للأطراف العالمية الرئيسية. لكنْ من دون اكتساب أحدث التقنيات ذات العلاقة، لن يستطيع حلف الناتو الاحتفاظ طويلاً بأفضلياته العالمية في هذا المجال. ويلاحظ في هذا الإطار تذمّرَ بعض الجنود الأوروبيين من أجهزة اللاسلكي والأسلحة وناقلات الجنود المدرّعة التي بحوزتهم، ومن تجهيزات أخرى؛ لأنها متخلّفة قياساً إلى تجهيزات نظرائهم الأمريكيين. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها حلف الناتو لإزالة هذه الفوارق، فإنّها لا تزال موجودة بسبب عدم توافر الأموال اللازمة لإزالتها. وبالتالي، سوف تزداد هذه الفوارق إنْ قلّصت الدول الأعضاء ميزانياتها الدفاعية المستقبلية.
 
ثالثاً: ثمة تحدٍّ مرتبطٌ بالطبيعة المتغيرة للتهديدات التي يواجهها الحلف. ومن أبرز ميزات الحرب الباردة أن الحلف كان قادراً على تحديد هويّة العدو وطبيعته ومكان وجوده بدرجة معقولة من الدقّة، على الأقل. في المقابل، أصبح عدو الحلف اليوم تنظيمات إرهابية و"دول مارقة"، في الغالب، وأصبحت قوات حلف الناتو تُستدَعى إلى مناطق النزاعات لتقوم بدور قوات حفظ السلام أو لإنجاز مهمات إنسانية، بدلاً من أنْ تُستدعى لخوض حرب كلاسيكية.
 
وتتجلى الطبيعة المتغيّرة للحرب الراهنة بكل وضوح من خلال الهجمات الإرهابية التي وقعت في السنوات الأخيرة في مناطق عدة من العالم. وبالتالي، تتطلب هذه الحرب مقاربة مختلفة للتدريب والتجهيز. ومع أنّ التدريب والتجهيز المناسبيْن لقوات التحرك السريع يمثلان مؤخراً أهم أولويات حلف الناتو، إلا أنّ الجزء الأكبر من القوات لا يزال مدرّباً ومجهزاً لخوض حروب كلاسيكية فقط. ومن الواضح أنّ عملية التعديل المطلوبة، من حيث الاستراتيجية والميزانية، عمليةٌ باهظة التكاليف من شأنها أن تفرض ضغوطاً إضافية كبيرة على الموارد المالية المحدودة المتاحة لتغطية تكاليف عمليات الحلف العسكرية. والإشكالية في هذا الإطار ترتبط بكيفية الموائمة بين مقتضيات تطوير خطط التدريب والاستعداد العسكري من ناحية وشحّ الموارد المالية من ناحية ثانية. وسوف تتعرّض الجدوى الاقتصادية للبرامج العسكرية الرئيسية للتشكيك. وقد يتعيّن الاختيار بين تجنيد المزيد من الأفراد وشراء بعض التجهيزات الجديدة؛ أو بين التضحية بالأفضليات العسكرية التي يمكن اكتسابها عبر الاختراقات التقنية لثورة الشؤون العسكرية وضمان تمويل العمليات الإنسانية،... إلخ.
 
وذكر الناتو أنه خلال الفترة من 2008 حتى 2011، خفضت 22 من الدول الأعضاء في الناتو إنفاق الدفاع بها، حتى إن الخفض طال لاعبين عمالقة مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وبسبب أزمة الديون السيادية، انخفض الإنفاق العسكري في وسط وغرب أوروبا بواقع 1.9% في عام 2011، حيث شهدت اليونان وإسبانيا وإيطاليا وإيرلندا أكبر خفض، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي للسلام والأبحاث. كما خفضت الولايات المتحدة، وهى أكبر مورد عسكري بالنسبة إلى الناتو، إنفاقها العسكري بواقع 1.2%.
 
سيناريوهات أزمة القرم
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: هل يمكن لحلف الأطلسي التدخل عسكرياً في أوكرانيا؟ هنا نشير إلى أن التدخل الروسي في أوكرانيا لا يزال محصوراً في شبه جزيرة القرم التي كانت تتمتّع أصلاً بحكم ذاتي، علماً أنّ الروس يُشكّلون أغلبيّة عدديّة فيها (نحو 60 % منها)، في مقابل الأوكرانيين والأقليّات الأخرى، بمعنى أنه لا يوجد ما يمكن اعتباره تدخّلاً عسكرياً روسياً على مستوى أوكرانيا بشكل عام. وهناك العديد من الأسباب التي أدت إلى تدخل روسيا سريعاً في القرم، منها عدم وجود حضور عسكري قوي للجيش الأوكراني في شبه جزيرة القرم، حيث كان وجوده يَنحصر في لواء مشاة واحد، وسرب طائرات "سوخوي 27"، وبأسطول بحري صغير تمّت محاصرته من قبل البوارج الحربيّة الروسية. أما من الناحية الاستراتيجية، فإن روسيا تولي أهمّية كبرى لمدينة "سيفستوبل" الواقعة ضمن شبه جزيرة القرم؛ لأنّها تضمّ ميناء استراتيجياً على البحر الأسود، كان هذه الميناء يستخدم خلال حقبة الاتحاد السوفيتي السابق، لتمركز أسطول بحري ضخم للقوات السوفيتيّة، لتكون جاهزة للتدخّل لمواجهة أيّ تحرّك ضدّ الاتحاد السوفيتي من جانب أيّ دولة أوروبيّة. أضف إلى ذلك أن شبه جزيرة القرم تمتلك أهميّة كبرى لجهة توفّر ثروات طبيعيّة كبيرة فيها، منها مثلاً النفط والغاز والفحم إضافة إلى المعادن والنحاس،... إلخ. كما أنها تضم منتجعات بحريّة فاخرة.
 
وبالتالي فإن التحرك الروسي في شبه جزيرة القرم لا يمثل خطراً كبيراً على دول الناتو، ولكنه يفتح الباب أمام تساؤلات حول احتمالات حدوث اجتياح روسيا كامل لأوكرانيا وتكرار سيناريو التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008، وهنا يصعب القطع بتطورات الموقف الروسي الذي يخضع لاعتبارين مهمين: أولهما طبيعة النظام الجديد في أوكرانيا، وثانيهما استشعار موسكو مدى جدية الغرب في موقفه حيال التحركات الروسية. وفي مجمل الأحوال من الصعب التكهن بإمكانية حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا في أوكرانيا أو تدخل الحلف أو أي من أطرافه بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأزمة بشكل مباشر. 
 
والأرجح أن تستمر إدارة الأزمة غربياً محصورة في نطاق دبلوماسية العقوبات وعزل روسيا للضغط عليها لإبداء مرونة مع المواقف الغربية تحت تأثير العقوبات الاقتصادية، وهذا كله لن يحول غالباً دون استمرار روسيا في تبني موقف متشدد في أوكرانيا لأسباب عدة، منها الحفاظ على هيبتها وخشية أن يشجع الوضع في أوكرانيا مجموعات معارضة في دول سوفيتية أخرى سابقة على التمرد ضد النفوذ الروسي. ثم إن هناك قلقاً لدى موسكو من وجود نظام أوكراني حاكم موالٍ للغرب بما يؤثر في الأمن القومي الروسي، وضمان استرداد ديونها المستحقة على السلطات الأوكرانية السابقة، وضمان استمرار ورقة الغاز الروسية للضغط على الدول الأوروبية، التي تستورد نحو نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا، وهي ورقة ضغط بالغة التأثير في سياسات الجانب الأوروبي.
 
ويرى خبراء أن هناك أسباباً عدة لاعتبار وصف الوضع المتوتر الراهن عودة إلى أجواء الحرب الباردة، منها أن روسيا ليست منافساً عالمياً للقوة العسكرية الأمريكية، حيث كان التنافس السوفيتي- الأمريكي عالمي النطاق. واليوم تتدخل روسيا في الشرق الأوسط، وتوجد في أمريكا اللاتينية، لكنها لا تضاهي الولايات المتحدة من مكان إلى آخر في العالم، ويجب على الولايات المتحدة مراقبة قوى عدة: إقليمية وصاعدة في أنحاء العالم. ويمكن للدول أن تنسق نشاطاتها مع نشاطات روسيا أو تثير العديد من المتاعب إذا ما شعرت بأن الولايات المتحدة منشغلة مع بوتين بدلاً من التعامل بفعالية مع تصرفاتها. كما أنه لا يوجد صراع أيديولوجي وجودي بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن بوتين لا يحاول إعادة انبعاث الإمبراطورية الشيوعية. وعلى الولايات المتحدة العودة إلى الحرب السياسية إذا كانت ترغب في التغلب على موسكو، كما عليها عدم إظهار الملل في الدفاع عن القيم الغربية الأساسية مثل: التحرر، والحرية الدينية، والحقوق الإنسانية، كما أن المعادلة الاقتصادية تختلف كثيراً، حيث كان لدى الولايات المتحدة ميزة اقتصادية كبيرة طوال فترة الحرب الباردة، وكان يمكن لها أن تعول على المحرك الاقتصادي في سوقها الحرة والتحرك بسلاسة، بينما كان الاقتصاد السوفيتي مدمراً ذاتياً. واليوم، خسرت الولايات المتحدة تلك الميزة التنافسية. وبحسب مؤشر الحرية الاقتصادية في مجلة مؤسسة هيريتيج، فإن الحرية الاقتصادية في الولايات المتحدة قد تناقصت منذ ثماني سنوات، وبالتالي فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية مالية قوية لتلائم السياسة الخارجية والدفاعية الجديدة. 
 
ويرى الخبير الروسي فيودور لوكيانوف المحرر في مجلة "روسيا في الشؤون الدولية" في مقال نشره موقع "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكي أن الحرب الباردة الحقيقية التي كانت سائدة خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي لن تتكرر؛ لأن سمتها المميزة لم تكن المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وإنما توازن قدراتهما الاستراتيجية العسكرية، وتوازن القوة، المرتبط بتساوي الصواريخ النووية، ما تمخض عنه استقرار غير مسبوق في النظام العالمي. ويؤكد لوكيانوف أن مفهوم القوة الآن لم يعد كما كان سابقاً، متركزاً بشكل شبه كامل في القوة العسكرية، بل أصبح ذا مظاهر متعددة متضمناً عناصر اقتصادية ومعلوماتية وإنسانية وأيديولوجية. وبصورة عامة فقد بات معلوماً عدم وجود توازن بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. 
 
وعلى الرغم من أنه قد بقي هناك توجه لضبط النفس المشترك بين روسيا والولايات المتحدة، فإن هذه الأمر بدوره قد تلاشى على ما يبدو في ظل الأزمة الأوكرانية؛ لأن وجهتي النظر لدى الطرفين بشأن الأزمة لم تكونا متناقضتين فحسب، بل لم يكن التوفيق بينهما ممكناً، حيث تدعي روسيا الاتحادية أن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي كان مرجحاً بصورة كبيرة في حال تعزيز موقف الحكومات الأوكرانية الموالية للغرب، واستقرارها في السلطة، يشكل مخاطر غير مقبولة بالنسبة إليها من الناحية الأمنية. لكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فالقضية لا تتعلق بأوكرانيا نفسها، ولكنها ترتبط بشكل أو بآخر بقدرة واشنطن على تحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها بوصفها قائداً للنظام العالمي الجديد. وقد عبّر عن ذلك بصورة دقيقة وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس بقوله "إن روسيا اعتدت على النظام الدولي الذي تأسس عام 1991، الذي هو ثمرة الحرب الباردة، ومن ثم فإن ذلك التعدي الروسي بحاجة إلى إيقافه في مراحله الأولى، وإلا فإن مكانة الولايات المتحدة ستبدأ في الانهيار عبر العالم بأكمله". 
 
ويعتقد معظم المراقبين أن الكرملين ليس على وشك ارتداء درع الاتحاد السوفيتي السابق، والدخول في مواجهة شاملة مع واشنطن، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، لأن الأحداث بذاتها تسير لمصلحة روسيا هناك. ففي الوقت الذي شدَّت الأزمة الأوكرانية الاهتمام العالمي، عزز الرئيس السوري بشار الأسد، المقرب من روسيا، موقفه، فهو يحضر الآن لانتخابات سيفوز فيها في جميع الاحتمالات، والوضع العسكري في سوريا يميل إلى مصلحته، وإن كان من المرجح ألا يتمكن من تحقيق النصر فهو لن يتعرض للهزيمة، وبالإضافة إلى ذلك فإن العلاقات الروسية-الإيرانية مستقرة الآن. ويختتم الكاتب قائلاً "إن الأحداث لا تسير لصالح الولايات المتحدة، كما أن الحرب الباردة لا حاجة إليها، لكن يمكن أن يتغير كل شيء حال دخول الأزمة الأوكرانية مرحلة أكثر حدة". 
 
وبرغم الاختلاف بين بياناتهما، فقد أصدر "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" بياناته في نشرة بعنوان "التوازن العسكري" في وقت سابق من هذا العام؛ بينما أصدر "معهد ستوكهولم" بياناته عقب ذلك، وبرغم اختلاف منهجهما، إذ تشمل تقديرات المعهد الدولي الإنفاق خارج ميزانيات الدفاع الرسمية، فإن الصورة الأساسية هي ذاتها: فالإنفاق الدفاعي الأمريكي يبلغ أكثر من ضعف إجمالي إنفاق الدول كافة التي تشكل تهديداً مفترضاً للولايات المتحدة. فوفقاً للمعهد الدولي يبلغ الإنفاق الأمريكي 2.9 من الأضعاف إنفاق دول التهديد المفترضة؛ بينما يشير معهد ستوكهولم إلى أن الإنفاق الأمريكي يبلغ 2.1 من الأضعاف. والجدير بالذكر أن الميزانية هي لعام 2013؛ أي السنة الأولى التي يدخل فيها قانون تخفيض الإنفاق الحكومي حيز التنفيذ في الولايات المتحدة.
 
وبشكل عام، فإن المستقبل المنظور يبدو مرهوناً بالنوايا الروسية، فهناك مخاوف من نوايا بوتين، لها دوافع معتبرة مثل اعتقاد بوتين أن العرقيات الروسية في أوكرانيا تتعرض للتهديد المتواصل والمتزايد. وقد سبق أن نشرت وزارة الخارجية الروسية تقارير منتظمة حول الأوكرانيين الذين يتحدثون الروسية، الذين يتعرضون للهجمات في المناطق الشرقية من أوكرانيا ذات الغالبية الأوكرانية الذين يتحدثون الروسية، ورغبة بوتين في تحدي الضغوط الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالعقوبات، كما أنه فسر تعهد الولايات المتحدة بعدم الدفاع عن سيادة أوكرانيا عسكرياً بأنه ضوء أخضر، أضف إلى ذلك عدم اعتبار بوتين أوكرانيا أنها "دولة" حقيقية، وبدلاً من ذلك يعتبرها جزءاً من روسيا وأن الروس والأوكرانيين شعب واحد. وسبق أن قال الرئيس بوتين في عام 2008 للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، الذي كان يدعم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو: "ألم تعلم يا جورج بأن أوكرانيا ليست دولة"؟.
 
لكن مع كل ما سبق، فإن هناك وجهات نظر أخرى تقلل من احتمالية تدخل روسيا عسكرياً في أوكرانيا، منها حصول بوتين على ما يريد، حيث حقق ضم القرم إلى روسيا هدفين من أهداف بوتين: إلقاء الخطابات العامة حول الانقلاب، وإضعاف وزعزعة الطموحات الأوكرانية للتوجه نحو الغرب. وهناك أيضاً خشيته الفعلية من استمرار العقوبات التي شملت قطاعات واسعة من الاقتصاد الروسي، التي توعد الغرب بفرضها على روسيا في حال تحركها نحو أوكرانيا، والتي من شأنها زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية الضعيفة في الأصل. وتختلف هذه العقوبات عن العقوبات التي فرضت عقب غزو القرم، حيث تشمل العقوبات المستقبلية قطاعات بنكية، ومالية والصناعات الدفاعية والتعدين، إضافة إلى الطاقة. وأخيراً فإن بوتين حقق هدفه المتمثل في تأكيد أن روسيا قوة لا يستهان بها، وخاصة في مناطقها الخلفية التي تتألف من مناطق الاتحاد السوفيتي السابق. وقد حقق بوتين هدفه من دون التورط في غزو أجنبي يماثل عملية الاستيلاء على القرم.
هل تندلع حرب عالمية ثالثة؟
 
يخشى كثير من المراقبين أن تفجر أعمال الفوضى والعنف التي حصدت أرواح العشرات مؤخراً في عدد من المدن الأوكرانية إلى حرب عالمية ثالثة، والخوف ألا ينتهي ما حدث في أوكرانيا عند حدود أوكرانيا نفسها. وأياً كانت مسارات الأزمة الراهنة فإن هناك بعض الحقائق التي تفرزها منها أن تفاعلات هذه الأزمة وسياسات بوتين خلالها وردود أفعال الغرب عليها من شأنها تدمير العلاقات بين بوتين والرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال فترة ولايته المتبقية، وهي فترة حرجة بالنسبة إلى التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران، حيث إن روسيا قد تحاول عرقلة هذا الاتفاق في حال تعرضت لعزلة مؤثرة. أما في حال تكرار السيناريو الذي حدث في القرم في دول البلطيق، مثل لاتفيا، حيث ينحدر ربع السكان المحليين من أصول روسية أو يتحدثون الروسية، وإذا ما أقدم المئات من الشباب على احتلال المباني الحكومية بتشجيع من بوتين أو من دون تشجيعه، وحاولت قوات الأمن والشرطة في لاتفيا طردهم من المباني الحكومية، وحدثت أعمال عنف وسقوط عدد من القتلى والجرحى، فإن هؤلاء الشباب سيستنجدون بالرئيس الروسي ومطالبته بالوفاء بتعهداته" بالدفاع عن حقوق بني جلدته"، ومن ثم يتحول الموقف إلى محاولة ضم لاتفيا إلى روسيا، وفي هذه الأثناء لن يقف الناتو مكتوف الأيدي، حيث إن لاتفيا هي عضو في الحلف، وهنا قد تقع مواجهة بين الطرفين، تتحول إلى حرب عالمية ثالثة. وخلاصة القول أن من الصعب القطع بإمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة، ولكن من الصعب كذلك التهوين من خطر انزلاق الأزمة إلى فخ التصعيد العسكري بين روسيا وحلف الأطلسي.
 
خاتمة
من الواضح أن تداعيات الأزمة الأوكرانية تعد أخطر تحد لحلف شمال الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتفككه رسمياً عام 1991، ومن شأن هذه الأزمة أن تسهم في إعادة النظر في الكثير من خطط الحلف المستقبلية خصوصا فيما يتعلق بتقييم الوضع الاستراتيجي لروسيا ومستقبلاً علاقة الحلف معها، كما أن الأزمة ستدفع باتجاه زيادة إنفاق الحلف على التسلح وتعزيز قوة الردع من أجل بسط الحماية للدول الأعضاء الجدد من منطقة البلطيق، حيث يلوح التهديد الروسي بقوة لهذه الدول. وفي ظل استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية المرتكزة على إعادة التمركز في آسيا، فإن الحلف سيصبح بمواجهة معضلة الاعتماد المتزايد على القوات الأوروبية من الدول الأعضاء في الحلف.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره