مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-05-01

خطــة تقليــص حجـــم الجــيش الأمريكي... رؤية استراتيجية

منذ أن كشف وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هيجل، في فبراير 2014، عن خطة لتقليص الجيش إلى أصغر حجم له منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك في إطار خفض النفقات الحكومية، والجدل يدور حول أهداف هذه الخطة ودلالاتها في ظل المكانة التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، باعتبارها القطب المهيمن على مفاصل النظام العالمي الجديد، ومن ثم فإن خططها ورؤاها المستقبلية تنعكس بالتبعية على الفكر الاستراتيجي السائد في دول العالم.
 
إعداد: التحرير
 
كشف تشاك هيجل، وزير الدفاع الأمريكي، في نهاية فبراير 2014، عن خطة تستهدف تقليص حجم الجيش الأمريكي، متضمنة إلغاء وحدة كاملة للقوات الجوية، في ميزانية 2015، كما يعتزم هيجل تقليص عدد المستخدمين في الجيش إلى 440 ألف عنصر بعدما وصل عددهم إلى 570 ألفاً عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. ويُعتقد أن السبب المباشر لذلك هو خفض الإنفاق الدفاعي الأمريكي من خلال تقليص حجم الجيش بعد خوضه حربين مكلفتين في الخارج. وقال الملحق الإعلامي لوزارة الدفاع الأمريكية، جون كيربي، في تصريح لوكالة أسوشيتدبرس: «علينا أن نواجه واقعنا». وأضاف: «لا بد أن نكون عمليين، لا يمكننا تجنب الاختيارات الصعبة، وقادة الجيش يريدون هذا». وأفادت صحيفة وول ستريت جورنال بأن هيجل يوصي بتخفيض منح السكن وعلاوات أخرى، والحد من رفع المرتبات ورفع الخدمات الصحية. ولكن خفض النفقات في الجيش قد يجلب المتاعب للحكومة الأمريكية المقبلة على انتخابات في شهر نوفمبر.
 
ويُعتقد أن هذا المخطط يأخذ بعين الاعتبار تخفيضات الحكومة، والتزام الرئيس، باراك أوباما، بإنهاء العمليات الحربية البرية في العراق وأفغانستان. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤول رفيع المستوى في البنتاجون قوله: «لا بد أن تكون مؤسساتنا متأهبة دائماً، ولكن لا يمكن أن تدير وزارة دفاع حرباً برية واسعة ما لم تكن هناك حرب برية واسعة». وقال مسؤول آخر في البنتاجون إن الجيش الأمريكي سيكون في حجمه الجديد قادراً على إلحاق الهزيمة بأي خصم، ولكنه سيكون أصغر من أن يجتاح دولاً أجنبية لفترات طويلة، وهنا تحديداً تكمن الدلالات والأبعاد المرتبطة بحدوث تحولات جوهرية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي خلال المرحلة المقبلة، ما يطرح بدوره تساؤلات حول مغزى هذه التحولات وأهدافها وآليات تطبيقها على أرض الواقع وحدود تأثر مناطق العالم ودوله بها.
 
موازنة 2015
كشف هيجل  خلال مؤتمر صحفي، عقده بصحبة رئيس الأركان مارتن ديمبسي يوم 24 فبراير 2014، أن وزارة الدفاع ستبادر بتقديم موازنة مقترحة لعام 2015 إلى الكونجرس يُقدَّر حجمها بـ496 مليار دولار، بانخفاض أكثر من 6% عن موازنة العام 2014 والتي بلغت 526.6 مليار دولار، وذلك برغم أن الكونجرس سبق أن وضع في ديسمبر 2013 سقفاً للموازنة المقترحة لوزارة الدفاع لعام 2015 بلغ 521 مليار دولار.
 
وتفرض خطة الإنفاق الدفاعي الجديدة، كما أعلنها هيجل، خفضاً في بنود عديدة من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية تمس القوات البرية والبحرية والجوية للجيش؛ حيث تشمل الخطة تقليص عدد القوات النظامية من 520 ألف جندي إلى 450 ألفاً بحلول عام 2019، وكذا خفض عدد قوات الحرس الوطني من 355 ألفاً إلى 335 ألفاً، واحتياطي القوات من 205 آلاف إلى 195 ألفاً، وخفض عدد قوات المارينز إلى 182 ألفاً من 190 ألفاً حاليّاً، إضافة إلى استبعاد 4 أجنحة جوية بشكل تدريجي، وخفض ساعات الطيران، وتقليص عدد السفن والطائرات التابعة للقوات الأمريكية وخفض أو إلغاء بعض الخدمات وبرامج التدريب ومشروعات التسلح والقواعد العسكرية.
 
وذكرت التقــارير الإعلاميــــة الأمريكيــــة أن الجيش الأمريكي، وفقاً لخطة هيجل، سيصبح الأصغر حجماً منذ الحرب العالمية الثانية. ويصر المسؤولون على أن الجيش الأمريكي بعد عمليات تقليص أعداده، سيبقى قادراً على قهر أي عدو، وذكرت التقارير أن الخطط المقررة في وقت سابق تنص على تقليص قوات الجيش الأمريكي من 570 ألفاً (المستوى الذي وصل إليه قوام الجيش بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2011) إلى 490 ألفاً، لكن هيجل يدعو إلى مواصلة عملية التقليص، بحيث يُتوقع أن يبلغ عدد أفراد القوات المسلحة الأمريكية في السنوات القادمة ما بين 440 ألفاً و450 ألفاً. كما ستطال عمليات التقليص، ولو بشكل محدود، قوات الاحتياط والحرس الوطني. كما يقترح هيجل التخلي عن جميع المقاتلات من طراز «أ-10»، علماً بأن هذه المقاتلة صُممت خصيصاً لتدمير الدبابات السوفيتية في حال شنت حرباً في أوروبا الشرقية، إلا أن قيادة الجيش باتت تشكك اليوم في فعالية تلك المقاتلات. وفي الوقت نفسه ينص المقترح على مواصلة تمويل برنامج إنتاج مقاتلة «إف-35»، على الرغم من غلاء البرنامج والمشكلات المستمرة التي تواجهه. أما البحرية الأمريكية، فسيسمح هيجل بشراء مدمرتين وغواصتين ضاربتين كل سنة، لكنه يخطط لتعليق استخدام 11 طراداً وبدء عملية تحديثها. وعلى الرغم من الأحاديث السابقة عن التخلي عن إحدى حاملات الطائرات، فإن البحرية الأمريكية ستحتفظ بسفنها الحاملة الـ11 في السنوات القادمة، وفق مقترح هيجل.
 
وتسبب خطة هيجل أيضاً قلقاً واضحاً لدى الكثير من فئات الشعب الأمريكي؛ نظراً إلى توقعات تشير إلى أنها ستفرز تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في كل من العسكريين والموظفين المدنيين التابعين للجيش في الوقت ذاته؛ فمنذ عام 2012 بدأ الجيش بالفعل تقليص حجم قواته إلى 520 ألفاً من 570 ألفاً، ويلي ذلك وفقاً لخطة الإنفاق الجديدة خفض عدد الجنود إلى 490 ألفاً خلال عام 2015. ويضاف إلى ذلك التقليص المتوقع لعدد الموظفين المدنيين العاملين في وزارة الدفاع البالغ عددهم حاليّاً ما يقرب من 800 ألف موظف، علماً بأن الوزارة تُسهم بشكل غير مباشر في توفير 430 ألف وظيفة مدنية أخرى على مستوى الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. ويُذكر أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية تعادل إجمالي الناتج المحلي لولاية بنسلفانيا بما تحويه من سكان: نظاميين، ومدنيين، ومتقاعدين، ومقاولين، ومعيلين.
 
وقد أدت خطة هيجل، التي كشف عنها في أثناء حديثه عن ميزانية وزارة الدفاع لعام 2015  التي يقدر حجمها بـ496 مليار دولار، إلى إثارة جدل واسع بين الخبراء والمحللين، حيث كان هيجل، في رأى بعض الخبراء، صريحاً أو بالأحرى صادماً فيما أعلنه، خاصة أنه أقر بأن المخاطرة ستكون أكبر في أي مواجهة عسكرية مقبلة وحرب يتم خوضها في المستقبل. وأن الخيارات قد تكون أقل، كما أن عدد الضحايا قد يكون أكثر، إلا أن هيجل شدد أيضاً على أهمية الاعتماد على العمليات الخاصة والتكنولوجيا، خاصة القدرات الإلكترونية، في تفادي تبعات خفض القوات في أثناء خوض حروب المستقبل. وقد حرص بعض الخبراء على «عدم التهويل»، وتأكيد أن قدرات الولايات المتحدة الأمريكية الدفاعية مع جيش أقل عدداً سوف تظل الأعظم والأقوى في العالم، خاصة مع الأخذ في الاعتبار ما اقترحه هيجل من زيادة الاستثمار في العمليات الخاصة وأدوات الحرب الإلكترونية وإعادة هيكلة وتنظيم الوجود العســكري الأمريكي في آسيا.
 
وقد حذر خبراء آخرون من هذا التوجه ونصحوا بضرورة توخي الحذر، ولاسيما أن المرحلة المقبلة قد تشهد حالات تستدعي ضرورة اللجوء إلى القوات الأمريكية للتدخل بسبب حالات إنسانية أو خرق للقوانين الدولية أو لضمان حماية المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي  تحديداً، لكون الوضع لم يتضح بعد في أزمة البرنامج النووي الإيراني، ولم تزل سيناريوهات الأزمة مفتوحة على احتمالات عدة منها التدخل العسكري.
 
وقد تباينت الآراء حول حجم الجيش الأمريكي في ضوء المهام المنوطة به في بداية القرن الحادي والعشرين، ولاسيما بعد التأثيرات الاقتصادية الضخمة التي نجمت عن حربي العراق وأفغانستان، حيث يصعب فهم أبعاد خطة هيجل بمعزل عن الخسائر التي تكبدتها في هاتين الحربين، ما دفع القادة الأمريكيين إلى التفكير في تغيير مفاهيم الحروب واستراتيجياتها، اعتماداً على خليط التقنية المتقدمة، واستغلال تأثير الإعلام التقليدي وغير التقليدي، مدعوماً بتفوق عسكري تقليدي غير مسبوق يقوم على فكرة أن يكون الجيش «أصغر» و»أذكى». ودليلاً على ذلك، وفي ظل مشكلات المديونية الحكومية الأمريكية الراهنة، يلاحظ أن الإنفاق العسكري السنوي الذي زاد من 360 مليار دولار في عام 1999 إلى 537 مليار دولار في عام 2011، إضافة إلى مبلغ إضافي كإنفاق عسكري صاف تم صـرفه على حربي العراق وأفغانستان، يقدر بنحو 1.3 تريليون دولار، ضمن ثلاثة تريليونات مثلت التكلفة الإجمالية لهذه الحرب، تم الاتفاق مبدئياً على تخفيضه بما يقارب تريليون دولار خلال السنوات العشـر المقبلة. ولتحقيق ذلك من دون التأثير في كفاءة الجيش في مواجهة التهديدات، يُنتظر أن يتم تنفيذ خطة لتقليص قوات الجيش ومشاة البحرية، وإعادة نشـر القوات البحرية بحيث تكون أسهل في التنقل عبر الممرات البحرية الرئيسية في العالم، والاعتماد بدرجة أكبر على العمليات عن بُعد والصواريخ العابرة واستخدام الطائرات من دون طيار والتقنيات الموفرة للتكلفة، وذلك كله في ضوء تنامي الاهتمام بنظريات حروب الجيل الرابع، التي لا تقتصر على أطر عسكرية فقط، بل تمتد لتشمل جوانب مثل ثقافة مجتمع العدو أيضاً.
 
ويُذكر أن الجيل الأول للحروب يعكس تكتيكات حقبة البندقية ذات الماسورة الملساء، وهي تكتيكات ترتيب الجنود في أرتال وأنساق تعتمد على الكثافة العددية للجنود وكثافة النيران. أما بالنسبة إلى الجيل الثاني للحروب فكانت التكتيكات تستند إلى النيران والحركة، حيث حلت القوة النيرانية الكثيفة محل القوة البشـرية الكثيفة، والارتكاز على الخطط العملياتية. أما الجيل الثالث، فيتمثل في الحرب الخاطفة بالاعتماد على المناورة بدلاً من الاستنـزاف. وبصفة عامة، تبدو حروب الجيل الرابع مشتتة وليست مركزة في جبهات قتال محددة، تذوب فيها الفروق بين الحرب والسلام. ولا تكون ذات توجه معين بحيث لا يمكن التعرف على جبهات القتال ومعالمها. وتختفي في ظلها التفرقة بين «المدني» و»العسكري». ويتم القيام بالعمليات على التوازي في كل أعماق العدو، بما في ذلك ثقافة مجتمعه وليس بنيته المادية الملموسة فقط. ويتم فيها استخدام التقنية، لتكون العمليات النفسية هي السائدة كسلاح عملياتي واستراتيجي، ويتم استخدام فيروسات الحاسوب لإحداث اضطراب بين المدنيين والعسكريين. ويتم التركيز على دعم الجمهور للعسكريين، وتصبح الأخبار على القنوات التلفزيونية سلاحاً أقوى من الفيالق المدرعة؛ وبالتالي، يتحول التركيز من مقدمة العدو، أي جيوشه، إلى ساحته الخلفية، أي المجتمع. كذلك، تتضمن النظرية استخدام الإرهابيين في هذه الحروب، ليكونوا جزءاً من مزيج الإرهاب والتقنية المتقدمة، وعناصـر أخرى مثل الدِّين والأيديولوجيات، والهجوم من الداخل على ثقافة المجتمع، كعناصـر تخلق الصـراع من الجيل الرابع.
 
في الجانب المقابل نجد ما قد يصر عليه البعض، وخاصة من جانب «صقور الأمن القومي الأمريكي»، بأن ما يحدث وما يرمى إليه هيجل ومعه إدارة أوباما يمثل «تراجعاً» أو «تقهقراً» في درجة الاستعداد القتالي، ومن ثم فــان ما يحـدث يعـد مخاطــــرة قد تتسبـــب في الحاق الضرر بالأمن القومي الأمريكي. ويُذكر في هذا الصــدد أنه في المعـــارك والمواجهـــات السياسيـــة التي نراهــا في المشهد الأمريكي، يتم وصف أو وصم الديمقراطيين بأنهم الأكثر تبذيراً للأموال العامة من خلال البرامج الحكومية، كما أنهم في أغلب الأحوال الأقل إدراكاً والأقل اهتماماً بمتطلبات الدفاع وتحديات الأمن القومي، ما يعني أن هناك إمكانية للتخلي عن هذه الخطط في حال سيطرة الجمهوريين على السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات المقبلة، ومن ثم إعادة التفكير في النهج السائد، ولكن ذلك كله يظل رهن اتجاهات الأحداث ونتائج خطة هيجل على أرض الواقع، ومدى ضمانها وكفاءتها في تحقيق الطموحات والأهداف الاستراتيجية الأمريكية على المدى المنظور.
 
أزمة أوكرانيا تدعم خطة هيجل
يرى بعض المحللين والمراقبين الأمريكيين، ومنهم بيل سويتمان، مراسل الشؤون الدفاعية في مجلة «ذا ديلي بيست»، أن الأزمة الأوكرانية أظهرت أن القوات البرية الأمريكية الأكثر قوة لن تكون خياراً عسكرياً للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، ولذا فقد حان الوقت فعلياً لتقليص تعداد الجيش الأمريكي. وأعرب سويتمان عن عدم دهشته للردود التي نشرتها وسائل الإعلام بشأن ميزانية الإنفاق الدفاعي لعام 2015، التي ستتمخض عن أصغر تعداد للجيش الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن الأزمة الأوكرانية لم تغير من الأمر شيئاً. واعتبر أن زيادة تعداد القوات البرية أوائل عام 2000 كانت البداية لجهود بُذلت منذ عشرين عاماً لتشكيل قوة عسكرية مناسبة للمستقبل. وأرجع الخبير الأمريكي جذور القوة اليوم إلى العصر الذي كان فيه القتال في البر والبحر، وكان المتحمسون يقومون بارتياد الجو ولم يكن حلم العلماء بالفضاء والحروب السيبرانية موجوداً. وكان من الضروري للقوات أن تكون ضمن مدى الرؤية من أجل قياس قوة كل طرف منها والبدء بالتفكير في التكتيكات والخطط. وكانت النشاطات الاستخباراتية والاستطلاع والمراقبة في مراحلها الأولى، مشيراً إلى أن الدولة التي لا تخشى غزواً لأراضيها ليست بحاجة إلى أن تجعل جيشها أولى الأولويات، وهذه هي الحالة اليوم. واعتبر سويتمان أن القول بأن القوات البرية لها أهمية استراتيجية خاصة، هو قول ضعيف، فقد أظهرت الوقائع أن وجود القوات في مناطق الحرب يتسبب عادة في مشكلات كثيرة تفوق المشاكل التي تقوم بحلها. ويرى أن هناك القليل من التهديدات العابرة للحدود على المستوى العالمي التي تتطلب رداً من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن تحول كوريا الشمالية نحو تكنولوجيا الصواريخ، يعني أن الهجوم البري لم يعد يشكل تهديداً للجنوب، وهذا يتطلب دراسة الخطوط الرئيسية للتفكير بأن الولايات المتحدة الأمريكية سترسل قواتها البرية عبر الحدود من أجل نشر الديمقراطية مرة أخرى، أو البقاء لفترة زمنية طويلة.
 
وتُعتبر الأحداث والصراعات العرقية والمدنية التي تشهدها أوكرانيا والقرم اليوم مثالاً على ذلك، حيث إن القوات البرية أو البرمائية الأمريكية التي يمكن تصورها لن تكون خياراً عسكرياً، وعلى المدى الطويل، فإن التأثير الأكثر أهمية قد يكون إقناع نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه لن يكون قادراً على تحمل تبعات العمل العسكري.
 
 وفي هذا الإطار يشير خبراء إلى أن الصراعات المستقبلية ستكون قضايا عرقية - ليست على امتداد الحدود الوطنية، لكن داخل وضمن هذه الحدود - أو تهديداً للمجتمعات الدولية، سواء في المجالات البرية أو البحرية أو مجال الاتصالات. ويُعتبر الميدانان الجوي والبحري من أهم المجالات بالنسبة إلى القوة العسكرية الأمريكية خلال العقود القادمة، إضافة إلى تنامي أهمية المجالات الفضائية والحروب السيبرانية، والاستطلاع والمراقبة من الجو والفضاء باعتبارهما مجال كل عمل عسكري. وهنا تحديداً يُشار إلى أن عام 2008 يمثل نقطة تحول جوهرية في تحديد مفهوم التهديدات الاستراتيجية للمصالح الأمريكية، حيث شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أخطر هجوم إلكتروني على وزارة الدفاع، نجم عن استخدام ذاكرة محمولة Flash Drive في حاسوب محمول في إحدى قواعدها العسكرية في الشـرق الأوسط، انتشـر من خلاله برنامج ضار، أعده جهاز استخبارات أجنبي لم يتم الإفصاح عن هويته، في الشبكة الإلكترونية للقيادة المركزية للجيش الأمريكي، لتنتقل من خلاله معلومات سـرية وغير سـرية إلى جهات أجنبية. وقد ردت وزارة الدفاع الأمريكية على هذا التهديد بعملية حملت اسم بَكشوت يانكي Operation Buckshot Yankee، إدراكاً منها لتغير قواعد لعبة التهديدات، وتقرر وضع استراتيجية جديدة وصفها نائب وزير الدفاع السابق، وليام جي لين، بأن من أعمدتها «اعتبار الفضاء الإلكتروني بواقعه الفعلي مجالاً جديداً للحرب؛ مثل: الأرض، والبحر، والجو، والفضاء.. يجب علينا التعامل مع الفضاء الإلكتروني كمجال نقوم فيه بعمليات، وسنحميه، وسنتعامل معه ضمن العقيدة العسكرية».
 
وإثر ذلك، حذَّر وزير الدفاع الأمريكي السابق، ليون إدوارد بانيتا، من أن الولايات المتحدة الأمريكية مهددة بحرب الفضاء الإلكتروني، وأنها مسألة وقت حتى يحدث هجوم مثل «بيرل هاربر إلكترونية»،كما سبق ذكره، يتم من خلالها الهجوم الإلكتروني على شبكات الكهرباء، أو نظم المواصلات، أو الشبكات المالية، يكون مصاحباً لعمل عدائي تقليدي. ومن الممكن أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بضـربة استباقية لإزالة الخطر الإلكتروني، وعليها إعداد «قواعد اشتباك» لحروب الفضاء الإلكتروني. ومع هذا التغير في المفاهيم والاستراتيجيات العسكرية الذي يأخذ في الحسبان الفضاء الإلكتروني كمجال عسكري للهجوم والدفاع، تصبح التحولات في الفكر الخططي الأمريكي واضحة ومفهومة الأبعاد والأسباب.
 
 أدوات جديدة للصراع الدولي
سلطت عمليات التجسس الأمريكي على العديد من القادة والزعماء الضوء على أدوات جديدة لإدارة صراعات القوة والنفوذ في النظام العالمي الجديد، وذلك إثر نجاح العميل السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن، عام 2013، في تسريب معلومات حول قيام الوكالة بالتجسس على حوالي 35 من القادة والرؤساء على مستوى العالم، وعشرات ملايين المكالمات الهاتفية في دول مختلفة، من بينها دول أوروبية. وفي هذا الإطار كشفت مجلة «دير شبيجل» الألمانية عن قيام وكالة الأمن القومي الأمريكي، ومن خلال سفارة واشنطن في برلين، بأعمال تجسس كبيرة بدأت بالتنصت على هاتف المستشارة الألمانية ذاتها منذ عام 2002 وحتى عام 2010، وأن المكالمات الهاتفية التي أجرتها من هاتفها تم تسجيلها طوال هذه المدة. وامتدت المراقبة لتشمل كماً ضخماً من المراسلات والمكالمات الحكومية، ونشرت المجلة وثيقة يعود تاريخها إلى عام 2010 تشير إلى وجود وحدة استخباراتية أمريكية تعمل في برلين وفرانكفورت تحت مسمى «خدمة الجمْع الخاصة»، وهي وحدة تضم عملاء من المخابرات المركزية وموظفين رفيعي المستوى من وكالة الأمن القومي. 
 
أما صحيفة «لوموند» الفرنسية فوجهت أصابع الاتهام بشكل مباشر للسفارة الأمريكية في باريس بالتورط في أعمال مشابهة لما جاء في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، ضد الرئيس الفرنسي، وأضافت إلى الاتهام الألماني أن هناك وحدة استخبارات إسرائيلية اشتركت في أعمال التنصت على قصر الإليزيه. وأشارت صحف ومجلات أوروبيّة إلى إن هناك وحدات تجسس أمريكية في ثمانين موقعاً حول العالم، من بينها ألمانيا وباريس وروما ومدريد وجنيف وفرانكفورت. وقد أظهرت هذه الواقعة أن حدود سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على التجسس أكبر بكثير مما يتوقع، أو حسبما وصفها المدير السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكي ووكالة الاستخبارات الأمريكية، مايكل هايدن، بقوله إن «عسكرة الإنترنت الذي اتبعته وكالة الأمن القومي الأمريكي لها ما يبررها، نظراً لأن تداول أغلب البيانات على الإنترنت يتم عبر خوادم أمريكية، وأيضاً لأن الإنترنت اختراع أمريكي سيذكر العالم كله أمريكا لأجله، كما يذكر الرومان حالياً الطرق التي شيدوها».
 
الخطر السيبراني
منذ فترة وجيزة تحدث النائب الجمهوري الأمريكي بيتر هوكسترا، الرئيس السابق للجنة الدائمة المختارة للاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي، عن أن إيران باتت تمثل تهديداً سيبرانياً خطيراً، وسبق لها أن اخترقت المواقع الإلكترونية لوزارة الدفاع الأمريكية والمؤسسات المالية الأمريكية من خلال المساعدة التي حصلت عليها من الروس. وأخبر هوكسترا لجنة من المشرعين الأمريكيين بأن إيران عززت من قدراتها السيبرانية بشكل كبير، وفي غضون فترة زمنية قصيرة، وامتلكت القدرة على شن هجمات سيبرانية ناجحة ضد الأسواق المالية الأمريكية وبنيتها التحتية. وحذر هوكسترا خلال شهادته أمام اللجنة من التهديد السيبراني الإيراني بفضل العلاقات القوية بين موسكو وطهران، وتعزيز التنسيق فيما بينهما في مجال الحرب السيبرانية». وأوضح هوكسترا أنه «في الوقت الذي تواصل فيه روسيا اتخاذ موقف عدائي تجاه الولايات المتحدة، فإن مساعدتها لإيران في برنامجها السيبراني ستتضاعف، في ضوء مواصلة طهران سعيها لتطوير قدراتها الدفاعية والهجومية، ما ينذر بمستقبل أكثر سوداوية». وأوضح هوكسترا  أن «القدرات السيبرانية الإيرانية تتعاظم في الوقت الذي بقيت فيه القدرات الأمريكية غير جاهزة للرد على تلك الهجمات، ومن المنتظر أن تصبح إيران قادرة على مجاراة الولايات المتحدة في هذا الميدان خلال فترة قصيرة من الزمن». وقال: «إن النمو المطَّرد للقدرات السيبرانية الإيرانية حصل تحت سمع وبصر وكالة الاستخبارات الأمريكية، كما ازداد القلق بشأن المعلومات القليلة المتوافرة عن إيران في هذا المجال».
 
ونقل الكاتب عن ماثيو ماكيناس زميل «معهد أمريكان إنتربرايز» أن إيران لجأت إلى روسيا في جبهة الحرب السيبرانية استعداداً لمعركة محتملة مع الولايات المتحدة والغرب، كما أن المعركة غير المتماثلة التي تواجهانها كانت أحد الأسباب في سعيهما لامتلاك القدرات الإرهابية لشن هجمات ضد الولايات المتحدة. ومن جانبها حذرت النائبة إليانا روز ليتينين، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي، إدارة الرئيس باراك أوباما من التركيز فقط على الأنشطة النووية الإيرانية. وأضافت ليتينين: «في الوقت الذي تتركز فيه المفاوضات مع الجانب الإيراني على البرنامج النووي، يتم تجاهل الخطر الذي يشكلــــه النــــظام الإيراني، حيث تسعى طهران للإضرار بالولايات المتحدة وحلفائها، ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية تتعامل مع البرنامج النووي بمعزل عن النشاطات الأخرى المتعلقة بإيران».
 
وقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في تقرير لها نُشر في نهاية أغسطس 2010، أن البنتاجون أطلق استراتيجية جديدة تجعل من الفضاء السيبراني ميداناً حربياً محتملاً، وتطبيق دفاعات فورية نشطة لهجمة يمكن أن تعطل، نظرياً، مؤسسات النقل والتجارة في البلاد. وقالت الصحيفة إنه على الرغم من تعامل الاستراتيجية الجديدة مع واحدة من مشكلات القرن الحادي والعشرين تحديداً، فإن الاستراتيجية الجديدة أشبه ما تكون بالحرب الباردة، فحلفاء الولايات المتحدة المقربون سيتحدون في شبكة إنذار مبكر لأمن سيبراني جمعي، يتم من خلالها تجهيز القطاع الصناعي الخاص ليشكل دفاعاً مدنياً ضد المهاجمين، ويمنح القادة العسكريين سلطة الرد بصورة أوتوماتيكية على الغزاة الإلكترونيين. وبدلاً من رد شامل ضد المهاجمين الذين قد لا تكون دول مصدرهم معلومة، تقترح الاستراتيجية فكرة بديلة هي الردع المبني على أساس جعل البنية التحتية الأمريكية قوية وواسعة، مما يجعلها قادرة على النجاة من أي هجوم. وستقوم وزارة الأمن الداخلي بالإشراف على تعزيز البنية التحتية هذه بمساعدة وكالة الأمن القومي. والملمح المثير للجدل في الاستراتيجية السيبرانية بحسب «واشنطن بوست»، هو أنها تحمل العولمة داخلها، فصانع الحاسبات المحمولة الأمريكي الذي يتباهى بأن مكوناتها يتم تجميعها في 50 دولة، يجب أن يقلق بشأن 50 نقطة، حيث يمكن لأي دخيل أن يضيف أي شيفرة مؤذية. وتطلق وزارة الدفاع على هذه المشكلة «إمكانية التعرض للخطر عبر سلسلة الإمداد».
 
صراع إرادات بين أوباما وبوتين
ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قاد على مدى خمس سنوات سياسة خارجية تقوم على رؤيته للوضع الذي ينبغي أن يكون عليه العالم بدلاً من الواقع الحقيقي للعلاقات الدولية. وتوضح الصحيفة أنه ضمن هذه الرؤية، يتراجع تيار الحرب، ويمكن للولايات المتحدة الأمريكية تقليل حجم قواتها المسلحة دون الكثير من المخاطر، فيما يتصرف قادة العالم بعقلانية وعلى نحو يخدم مصالح شعوبهم والعالم بأسره. كما تخلو هذه الرؤية من الغزو والقوة الوحشية ومناورات القوى العظمى والتحالفات المتغيرة. وأعرب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن هذه الرؤية، حينما وصف غزو روسيا لأوكرانيا المجاورة على شبكة «أيه بي سي» الإخبارية بأنه «تصرف ينتمي إلى القرن التاسع عشر في خضم القرن الحادي والعشرين». وتوضح الصحيفة أن كيري يقصد أن مكانة أي دولة لم تعد تُقاس بعدد قوات جيشها، وأن العالم متصل بقوة ببعضه، ويجب ألا ينقسم إلى كتل متحاربة. ولكن يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غير دراية بهذه الرؤية للقرن الحادي والعشرين. ويشن الرئيس السوري بشار الأسد حرباً ترجع إلى القرن العشرين ضد شعبه، حيث يرسل المروحيات لإسقاط براميل متفجرة معبأة بالبراغي والمسامير وغيرها من الشظايا على المباني السكنية لبث الرعب في نفوس المواطنين. وتشير الصحيفة إلى أنه لا سبيل لردع هؤلاء الرجال من خلال رفض أقرانهم أو ثقل الرأي العام العالمي أو حتى سحب الاستثمارات الاقتصادية الكبرى، وهذا لأنهم يهتمون في المقام الأول بالحفاظ على قبضتهم على السلطة. ولا يُعدُّ الرئيس أوباما مسؤولاً عن تصرفاتهم، ولكنه يستطيع القيام بدور رائد في صياغة التكاليف والفوائد التي ينبغي لهم مراعاتها قبل التصرف بأي شكل. وترى الصحيفة أن النموذج الذي اتبعه بوتين في احتلال شبه جزيرة القرم هو توغله في جورجيا عام 2008، عندما كان جورج بوش رئيساً. فلم يتكبد بوتين أي ثمن لهذا الإجراء، وما تزال بعض أجزاء جورجيا في الواقع تحت السيطرة الروسية، وسُمح لبوتين باستضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية بالقرب من هذه المناطق. وتصاعد الموقف العسكري والدبلوماسي للرئيس السوري على نحو مطرد منذ أن تجاوز الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس أوباما بشن هجوم كيميائي راح ضحيته 1400 قتيل مدني.
 
وتشير الصحيفة إلى أن الرغبة في الانسحاب والتركيز على ما يسميه أوباما «بناء الدولة في الداخل» ليست وليدة اللحظة، فقد ظهرت مبادرات مماثلة بعد الحروب في كوريا وفيتنام وعندما انهار الاتحاد السوفيتي. ولكن الولايات المتحدة اكتشفت في كل مرة أن العالم أصبح مكاناً أكثر خطورة دون قيادتها، وأن الاضطراب في العالم يمكن أن يهدد الرخاء في الولايات المتحدة الأمريكية، وأعقبت كل فترة من الانسحاب سياسات أكثر نشاطاً. وتؤكد الصحيفة رفضها نشر قوات أمريكية في سوريا أو أوكرانيا، مشيرة إلى أن قدرة القوة العظمى على القيادة قد تتعثر في حالة استنفاد قدراتها العسكرية أو تعثر اقتصادها، ولكن طالما يتصرف بعض الزعماء بعقلية تعود إلى القرن التاسع عشر، فلا يمكن أن تتظاهر الولايات المتحدة الأمريكية بأن ما يحدث الآن يدور في ساحة معركة مختلفة تماماً. وتختتم الصحيفة الافتتاحية قائلة: «إن بوتين سوف يقيس جدية الولايات المتحدة الأمريكية في أثناء تقدمه في أوكرانيا وفقاً لتصرفاتها وتصرفات حلفائها وليس وفقاً لبياناتهم، فهذه هي طبيعة القرن الحادي والعشرين».
 
تعريف روسي للحرب في القرن الحادي والعشرين
رداً على ما سبق، يرى بعض الخبراء في مقابل التلويح الأمريكي بأن أسلوب بوتين ينتمي إلى القرن التاسع عشر، أن إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للأزمة في أوكرانيا تُعدُّ محاولة جادة لإعادة تعريف الحرب في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا الإطار ذكرت مولي كي. ماكيو، وغريغوري إيه. مانياتس، اللذان عملا مستشارين للسياسة الخارجية والاتصالات الاستراتيجية لرئيس جمهورية جورجيا ميخائيل سكاشفيلي في أثناء حرب 2008 بين روسيا وجورجيا وبعدها، في مقال مشترك في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، إن بوتين قد سبق أن قام بغزو جورجيا عام 2008، وحينذاك استغرق أشهراً في نشر قواته وآلياته العسكرية، حيث قام بإعادة بناء طرق السكك الحديدية والطرق السريعة، لنقل دباباته والآلاف من قواته، في الوقت الذي قامت فيه طائراته بالتحليق فوق الأراضي الجورجية؛ بهدف التهديد وإثارة الرعب، واستخدم بالتوازي مع ذلك وسائل الإعلام الرسمية لتحوير الوقائع حول من بدأ تلك الحرب، لكن الآن، وكما يقول الكاتبان، فإن بوتين لم يعد ملتزماً بقيود حرب الدولة القومية، بعد أن أثرت المواجهات الكثيرة مع الانفصاليين والمسلحين والإرهابيين والمشردين التي مر بها خلال السنوات السابقة على تفكيره، وهو ما انعكس على خطواته حينما نوى التدخل في شبه جزيرة القرم، فقد شن حرباً مفاجئة - سريعة وخفية- من المرجح أن تكون صيغة للحروب المستقبلية، حيث كان هناك عدد من السمات غير التقليدية في تحركاته، رصدها الخبيران في هذا التقرير كما يلي: أولاً، استخدام قوات خفية لا انتماء لها، ترتدي البزات العسكرية المموهة التي تخلو من شارات تدل على الدولة التي تنتمي إليها، كما أن الجنود لم تُعرف هويتهم أو القيادة التي ينتمون إليها، ولديهم القدرة على مواجهة أعمال العنف وخوض حرب الشوارع، ويبدون وكأنهم غير مقيدين بالقوانين أو الأنظمة والمواثيق التي تحكم الحروب، هذه الأنظمة والقوانين التي هي من أكثر ما يرفضه بوتين في النظام الدولي الآن.
 
 ويقول الكاتبان إن هؤلاء الجنود هم جنود بوتين المقنعون الذين يخضعون لقيادة وأوامر خفية، ويعملون من أجل تحقيق أهداف محددة، وعدم معرفة تبعية هؤلاء الجنود أربك الأسرة الدولية وأضعف ردها، حيث لا وضوح للقيادة أو الجنرال الذي يتبعونه، والذي يمكن التفاوض معه بشأن الهدنة أو الاستسلام، وكانت هذه القوات غير النظامية بمنزلة التهديد النفسي بالنسبة إلى السكان المحليين في أوكرانيا، الذين لا يعرفون أماكن وجود هذا الجيش الخفي. وثانيها، استخدام وسائل الإعلام الرسمية لتحريف المعلومات وتبرير التدخل الروسي في منطقة القرم، وقد أسهمت الخطط السيبرانية في خدمة هدف بوتين لقطع الاتصالات بين المشرعين ومراكز الحكم، واستمرار تدفق تيار التضليل باللغة الروسية الذي أنذر بقرب الحرب الجديدة على «الفاشيين»، وقد لفق بوتين نسخة من الواقع لبث الحكاية التي يحتاجها لزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، حيث قرر أن هناك حاجة للتقسيم العرقي حسب اللغة من أجل تحقيق أهدافه، ومن ثم التخلي عن أجزاء من هذا التقسيم. وفي هذا الصدد نشرت وكالة «إيتار تاس» الروسية الأسبوع الماضي، قصة تناقلتها وسائل الإعلام، ومنها مجلة «فوربس»، حول طلب 650 ألف أوكراني مؤخراً اللجوء السياسي في روسيا، وهذا الأمر يشبه ما سبق أن ادعته موسكو عام 2008 من أن ألفين من المدنيين قد قتلوا في أوسيتيا الجنوبية في جورجيا، ومن ثم قامت روسيا بإرسال قواتها التي لا زالت موجودة في تلك المنطقة، وعقب ذلك عثر مراقبو الحقوق الإنسانية على 44 جثة لمدنيين فقط، لكن وكالات الأنباء الغربية قامت بتغطية الأنباء الملفقة التي نشرها بوتين على أنها تستحق النقاش. 
 
خطة هيجل والمتغيرات العالمية الجديدة
هناك رأي يسود بدرجة ما في الصحف الأمريكية، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية في تراجع بسبب امتناعها عن التدخل العسكري في الخارج في ظل عالم مضطرب، وأن لهذا تداعيات وخيمة على العالم بأسره. ويرفض بعض الخبراء هذا الرأي، ومنهم فريد زكريا الذي رأى في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» أن أكثر من يواجهون صعوبة في التكيف مع العالم المتغير الذي تعيش فيه الآن الولايات المتحدة الأمريكية، هم النقاد. ويشير زكريا إلى أن العالم ليس في حالة واسعة من الاضطراب، حيث يسوده في الأغلب السلام، فيما عدا منطقة واحدة تُعدُّ حافلة بالتوتر وعدم الاستقرار، وهي منطقة الشرق الأوسط. وافتقرت منطقة الشرق الأوسط إلى الاستقرار على مدى العقود الأربعة الماضية. ويرى الكاتب أنه من الغريب أن الذين ينتقدون إدارة أوباما بسبب عدم تدخلها عسكرياً في سورياً لم يذكروا المشروعات الطموحة لإدارة أوباما في آسيا وأوروبا، مشيراً إلى أن هذا يعكس وجهات نظر معظم المعلقين الذين يعتقدون أن القيادة الأمريكية تتألف في جوهرها من الخطاب شديد اللهجة والعمل العسكري: فسوف يحقق العالم الاستقرار ويوقف التغييرات التي تحل عليه إذا مضى أوباما لقصف شخص ما في مكان ما. ويقول زكريا إن حقيقة أن الكثير من الأمريكيين يدعون لمزيد من التدخلات العسكرية المباشرة بعد عقد من الحروب الطاحنة والمكلفة في العراق وأفغانستان هو أمر يثير الدهشة. ويعتقد زكريا أن عدم إنصات الرئيس أوباما لدعوات مؤيدي التدخل الأمريكي يحول دون انتشار الفوضى في الخارج وتراجع القوة الأمريكية في الداخل. وتأكيداً على وجهة نظر فريد زكريا يرى دان مورفي، في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»، أنه بمتابعة أنباء السياسة الخارجية الأمريكية عبر محطات التلفاز كثيراً ما ترد كلمة «انعزالية» و»النزعة الانعزالية الجديدة» و»شبه الانعزالية»، ومرادفات أخرى مثل: التراجع، والتقهقر، والانسحاب. ويستعرض التقرير بعض تفسيرات وسائل الإعلام للسياسة الخارجية، فإذا كان أوباما متردداً في الدخول في حرب مع سوريا، فهذه انعزالية. وإذا غادرت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، فهذا هو التقهقر. وإذا أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية استعدادها للمساومة مع إيران بشأن برنامجها النووي، فهذا هو التراجع. ويوضح مورفي أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في حالة تراجع على الإطلاق، برغم مطالبة الكونغرس بتخفيض نفقات الجيش، ولكنها أصبحت الآن أكثر ميلاً إلى الوسائل الدبلوماسية بدلاً من أن تتعامل بثقلها العسكري، وهذا ليس دلالة على ضعفها.
 
وقد أشار رئيس «لجنة الأمن القومي» في مجلس النواب الأمريكي، مايكل ماكول، خلال مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز»، تعليقاً على خطة هيجل، إلى أن «الأمن الأمريكي قد تمت التضحية به على مذبح الاستحقاقات». ويعتبر خبراء تصريح ماكول خاطئاً، وقالوا: «إذا ما بقيت خطة هيجل حية في الكونجرس فإنها ستمثل الإصلاح الذي طال انتظاره، بعد الإفراط في الإصلاحات التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ويورد هؤلاء أسباباً تدعو إلى عدم التخوف من الخطة، ويمكن حصر هذه الأسباب في: 
 
أولاً: العدد لن ينخفض عن مستواه في الحرب العالمية الثانية، حيث إن عدد 440 ألف جندي يزيد على عدد الجيش الأمريكي بنهاية عام 1940، وهو 426 جندي. وأوضح الكاتب أن الرئيس الأمريكي روزفلت ووزارة الدفاع الأمريكية شرعا في زيادة عدد القوات الأمريكية عقب عام 1940، من أجل إعداد القوات الأمريكية للتعامل والتدخل في كل مناطق العالم. وفي نهاية معركة «بيرل هاربر» نشر أحد المسؤولين العسكريين الأمريكيين كتاباً أوضح فيه أن «الكونجرس أنفق على مشتريات الجيش مبالغ تفوق جميع المبالغ التي أنفقت على القوات المسلحة والبحرية خلال الحرب العالمية الأولى». 
 
ثانياً: هناك حاجة إلى تقليص القوات لقلة الحروب، إذ يرى الكاتب أن الولايات المتحدة لم تعد تقاتل ضمن حرب عالمية ثانية، ولا توجد صراعات عالمية مستمرة، كما لا تلوح في الأفق أي صراعات مستقبلية. وأعداد الإصابات في الحروب انخفضت بحدة، وأنواع الحروب التي يشعر المرء بالقلق تجاهها أو الحروب مع الدول الأخرى مثل الصين وإيران، تُعتبر حروباً خامدة عملياً. ونقل هؤلاء ما ذهب إليه كريستيان ديفينبورت، أستاذ العلوم السياسية في مركز الدراسات السياسية في جامعة ميتشغان: «إن عدد الحروب قد تضاءل. ومنذ عام 2003 حتى عام 2008 لم تكن هناك أي حرب بين دولتين». ويقول خبراء إننا نعيش أكثر الأوقات أمناً في التاريخ البشري، وخطة هيجل تهدف إلى تقليل - وليس إنهاء - قدرة الولايات المتحدة على خوض حربين في وقت واحد. 
 
ثالثاً: انتهاء الحرب الباردة، فالفترة بين عامي 1939 و1989، كانت تتسم بالقلق تجاه هيمنة الفاشية على العالم وأخطار الحرب النووية بين القوى العظمى، وهذه المشاعر لم تعد موجودة في الوقت الحاضر. والولايات المتحدة وحلفاؤها يقودون العالم عسكرياً وأيديولوجياً في الوقت الحالي، والعالم يشعر بالاستقرار، حيث انتشار الديمقراطية والرأسمالية، أضف إلى ذلك وجود المؤسسات الدولية التي تعمل على منع نشوب الحروب أو التقليل من خسائرها.
 
رابعاً: دور العلم والتكنولوجيا، فالقوة العسكرية لا تقاس بعدد الجيوش في ضوء التقدم العلمي والتقني الذي أحرزته الولايات المتحدة وتفوقت به على غيرها، واستئثارها هي وحلفائها بأكثر من ثلاثة أرباع النفقات العسكرية العالمية، وامتلاكها العديد من القواعد العسكرية حول العالم. وهناك الكثير من التحديات الأمنية حالياً لا تحتاج مزيداً من القوات كالتغير المناخي والإرهاب العابر للحدود والدول النووية المارقة.
 
نهاية الهيمنة الأمريكية
يرى مراقبون أن خطة وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيجل بخفض عدد القوات المسلحة والسفن والطائرات الحربية الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب العالمية الثانية، في وقت تتزايد فيه التهديدات العالمية، سيُضعف القدرات العسكرية والتقنية للولايات المتحدة ويُنهي هيمنتها العسكرية. ويرى هؤلاء المراقبون أن الخطة التي تضمنت خفض بناء السفن الحربية ومشتريات سلاح الجو من الطائرات وخفض أنظمة الأسلحة الحديثة ووضع الأسلحة القديمة خارج إطار الخدمة، بجانب خفض عدد القوات البرية بنسبة 20%، ستؤدي إلى إضعاف المقدرة الأمريكية على إدارة المخاطر والتهديدات، وستظهر آثار ذلك تدريجياً ابتداء من عام 2016. ويستشهد المراقبون في ذلك ببعض المقتطفات من كتاب صدر حديثاً لهيجل ذاته بعنوان «المهمة»، ذكر فيه أن الخفض العسكري كان من الملامح الرئيسية لسياسات أوباما منذ انتخابه عام 2009، من أجل تمويل البرامج المحلية، لكنهم يرون أن خفض النفقات العسكرية على هذا النحو سيشكل مخاطر مستقبلية جديدة على الأمن القومي للولايات المتحدة، وسيُفقد الولايات المتحدة مكانتها كأكبر قوة عسكرية مهيمنة على العالم، لما سيخلقه ذلك من مخاطر إضافية في مناطق معينة من العالم، وتسببه في تقليص عمليات التدريب والصيانة وزيادة مشاعر التوتر بين أفراد القوات، وتقليل الجاهزية حتى مع المحافظة على حالة التأهب، ما سيحد من القدرة على مواجهة أكثر من صراع مسلح حول العالم، وبالتالي يزيد ذلك من اندلاع الصراعات المسلحة في مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وفي مقابل ذلك تمتلك القوى الأخرى الأسلحة المتقدمة مثل الصواريخ المضادة للطائرات والسفن، كالصين التي أجرت مؤخراً تجربة على طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت بأضعاف، وقادرة على المناورة وحمل رؤوس نووية وتخريب نظام الدفاع الصاروخي للولايات المتحدة، فيما يجعل من الصعب على القوات الأمريكية  التعامل مع تلك التهديدات، وهو ما سيجبر المؤسسة العسكرية الأمريكية على التفكير في استخدام القدرات والأسلحة عالية التقنية المستخدمة في الحروب غير المتناظرة من أجل التفوق على الأعداء في الصراعات المستقبلية». وفي هذا المجال، نُقل عن القائد السابق لسلاح الجو الأمريكي، اللفتنانت جنرال ثوماس ماكنرني، أن «مقترح خفض القوات من شأنه تسريع القضاء على التفرد العسكري للولايات المتحدة».
 
وفي الاتجاه ذاته، يشير جيمس جوينر من كلية القيادة والأركان التابعة لمشاة البحرية الأمريكية، في مجلة «ذا ناشيونال إنترست»، إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» اعترفت بأن خفض عدد القوات والأسلحة في جميع أفرع الوحدات العسكرية قد تزامن مع وجود مخاطر استراتيجية، ومن أبرزها ارتباط الرئيس الأمريكي مستقبلاً بدخول الحروب التي تتطلب مزيداً من القوات على الأرض. وأوضح أن عملية التقليص التي شملت القوة والقدرات كما شملت القوات النظامية والاحتياط من أجل الحفاظ على الجاهزية والتفوق التكنولوجي، وحماية القدرات التي تتوقف عليها النجاحات مثل القوات الخاصة، ومصادر الحرب السيبرانية، تُعتبر مقايضة صعبة لكنها ضرورية، وإن كان الخفض الحاد في النفقات العسكرية هو الخيار الأقل سوءاً في ضوء الوضع المالي الحالي، فالمستقبل سيبرهن على خطأ هذا الخيار في حال خوض صراع أو أكثر من الصراعات المستدامة.
 
خطة هيجل بين التأييد والمعارضة
لاشك أن خطة تشاك هيجل لخفض حجم الجيش الأمريكي تثير نقاشات محتدمة بين مؤيد ومعارض، حول التداعيات المحتملة على مستقبل القوة العسكرية الأمريكية، ولكن في جميع الأحوال فإن الخطة تراعي الواقع المالي المتمثل في التقشف الحكومي، والواقع السياسي المتمثل في رئيس تعهَّد بإنهاء حربين برّيتين مكلفتين ومنهكتين.
 
ومن الملاحظ أن المسؤولين الأمريكيين قد أقروا ضمنياً بصحة بعض الاعتراضات، حيث قالوا إن النتيجة التي سيفضي إليها ذلك المقترح هي بروز جيش قادر على هزيمة أي عدو، لكنه من الصغر بحيث لا يمكنه الاضطلاع بعمليات غزو أجنبي ممتدة، أي إن هناك تراجعاً نسبياً في حدود القوة الأمريكية المهيمنة. كما يقرّ المسؤولون الأمريكيون بأن تخفيضات الميزانية سوف تفرض مخاطر أكبر على القوات المسلحة إذا أُمرت هذه القوات مجدداً بالاضطلاع بعملين عسكريين كبيريْ الحجم وعلى نحو متزامن، أي إن الخطة تُعدُّ نهاية فعلية لاستراتيجية خوض حربين في وقت واحد، وأن الجيش الأصغر حجماً يمكن أن يؤجج روح المغامرة لدى الأعداء. وكما قال مسؤول كبير في «البنتاجون»: «عليك دائماً أن تحافظ على مؤسستك في وضع الاستعداد، لكن لا يمكنك صون وزارة دفاع قائمة على حرب برّية واسعة النطاق عندما لا يكون هناك مثل هذه الحرب». وإجمالاً، يرى المسؤولون أن مقترح هيجل يهدف إلى تمكين القوات الأمريكية من تنفيذ توجيهات الأمن القومي التي أصدرها الرئيس باراك أوباما وهي: الدفاع عن الأراضي الأمريكية، ومصالح الدولة في الخارج وردع أي عدوان محتمل، وتحقيق انتصار حاسم في الحرب إذا ما أُمرت بخوضها. وفي هذا الشأن، قال مسؤول أمريكي: «سوف يظل لدينا جيش ضخم جداً». وأضاف: «لكنه سيكون خفيف الحركة، وذا كفاءة، وحديثاً، ومُدرّباً».
 
وتجدر الإشارة إلى أن هناك خططاً فعلية لتخفيض أعداد الجيش الذي تحمل وطأة القتال والخسائر في أفغانستان والعراق، إلى 490 ألف جندي بدلاً من 570 ألف وهو العدد الذي وصل إلى ذروته عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. وهكذا، سيكون هذا هو أصغر جيش للولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1940.كما يشار إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ترى منذ سنوات طويلة، ولاسيما خلال الحرب الباردة، أنها تحتاج إلى قوة عسكرية كبيرة بما يكفي لخوض حربين في وقت واحد، على سبيل المثال: واحدة في أوروبا وأخرى في آسيا. وتشير وثائق الاستراتيجية والميزانية الأخيرة، إلى أن المؤسسة العسكرية قد أُمرت بأن تكون على جاهزية تامة لتحقيق انتصار حاسم في صراع، على أن يكون لديها في الوقت ذاته القدرة على صد مطامع عدو آخر في صراع ثانٍ، إلى أن يتسنى لها حشد وإعادة نشر قوات كافية لكسب الصراع الثاني.
 
ومن المؤكد أن مقترحات هيجل ستواجه معارضة، سواء من جماعات المصالح، مثل: منظمات المحاربين القدامى التي تعارض الجهود الرامية لخفض تكاليف العسكريين؛ أو من شركات تصنيع الأسلحة التي تريد عكس اتجاه تخفيضات الأسلحة، أو من بعض أعضاء الكونجرس الذين سيسعون إلى منع إغلاق القواعد في مناطقهم. وبموجب خطة هيجل، سوف يتم التخلص من أسطول كامل من طائرات الهجوم طراز «A-10» التابعة لسلاح الجو. وقد تم تصميم هذا النوع من الطائرات لتدمير الدبابات السوفيتية في حال تعرُّض أوروبا الغربية للغزو، بيد أن قدرات هذه الطائرات باتت أقل أهمية أو فاعلية في الوقت الحالي. وتدعم خطة الميزانية مواصلة تمويل إنتاج الطائرات طراز «F-35» المثيرة للجدل، برغم ارتفاع تكلفة إنتاجها والمشكلات التي تواجهها.
 
بالإضافة إلى ذلك، يدعو هيجل إلى التخلي عن طائرة التجسس الشهيرة «U-2»، وأن تحلّ محلها طائرة «جلوبال هوك Global Hawk» من دون طيار. وسيتم السماح للبحرية الأمريكية بشراء مدمرتيْن وغواصتيْن هجوميتيْن كل عام. كما سيتم طلب عدد 11 من الطرادات البحرية، لكن مع تقليص عمليات التشغيل في أثناء إجراء التحديث، وستحتفظ البحرية الأمريكية بأسطولها المكون من 11 حاملة طائرات في الوقت الراهن. وستعود حاملة الطائرات «جورج واشنطن» إلى القيام بعمليات الإصلاح وإعادة التزود بالوقود النووي وهي عملية طويلة قد يتم وقفها في السنوات المقبلة في ظل تقليص الميزانيات.
 
سبب إضافي يدعم خطة هيجل: الصين لا تريد زعامة العالم
من بين المبررات التي يسوقها البعض لمعارضة خطة هيجل لتخفيض حجم الجيش الأمريكي، أنها لا تواكب طموحات الصين الاستراتيجية، وأنها تعمل بعكس اتجاه الإنفاق الدفاعي الصيني، ما يعني تهديدا للهيمنة الأمريكية. وفي هذا الجانب تحديداً يرى زكاري كيك، مساعد التحرير في مجلة «ذا دبلومات» أن الصين إذا ما أصبحت أعظم دولة في العالم، فإنها لن تكون مقتنعة بذلك، وأنها تفضل إبقاء الوضع الراهن في النظام العالمي بصيغته الراهنة، والذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ويرى آخرون أن الصين لن تتمكن من أن تحل محل الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي بسبب ما تعانيه من مشكلات داخلية ومنافسين إقليميين ودوليين، ما يحول بينها وبين القيادة العالمية، لكنها تفضل أن تلعب دورها الحالي ضمن النظام العالمي الجديد، الذي لا ترغب في تغييره، فضلاً عن أن الاقتصاد الصيني يواجه العديد من التحديات التي تمنعه من الوصول إلى المكانة التي يتنبأ بها كثيرون. والخلاصة في هذه الجزئية أن صعود الصين لن يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من أن تستمر في لعب دور القوة العظمى الوحيدة مالم تنشب الحرب بينهما وتنتصر فيها الصين، كما أن القوة النسبية لبكين كانت أقل بكثير من القوة الأمريكية في نهاية الحرب الباردة، وبالطبع فإن القوة النسبية للولايات المتحدة الأمريكية ستكون أقل من القوة التي كانت تتمتع بها قبل عام 1991 من القرن الماضي.
 
وبشكل عام تتفق الميزانيتان الدفاعيتان اللتان أعلنتاهما بكين وواشنطن مؤخراً على أهمية زيادة الإنفاق وتكثيف الوجود العسكري، ولكنهما تختلفان في الأسلوب: فبينما تركز الأولى على زيادة حجم الجيش وتحديث الأسلحة والمعدات، وتحسين الظروف المعيشية والتشغيلية لأفراد الجيش، وتحديث النظام الإداري، تركز الثانية على الكيف دون الكم، بمعنى خفض القوات وإعادة تشكيلها بما يلائم التحديات والفرص المتاحة في المستقبل. وذكرت المحللة السياسية في مجلة «ذا دبلومات»، شانون تيزي، إن الصين أعلنت ميزانيتها الدفاعية لعام 2014 بزيادة 12% على الميزانية السابقة، حيث يبلغ الإنفاق الدفاعي نحو 808.2 مليار يوان (132 مليار دولار)، وهي الزيادة التي أثارت شكوكاً ليس لدى المحللين الغربيين فحسب، وإنما في الأوساط السياسية في كل من اليابان وتايوان أيضاً، حول نوايا الصين، خاصة مع انعدام الشفافية فيما يتعلق ببنود الإنفاق. وقالت المحللة إن إعلان الميزانية الدفاعية الصينية جاء تقريباً بالتزامن مع إعلان البنتاجون مسودة الميزانية الدفاعية الجديدة، التي دعت إلى خفض قوات الجيش الأمريكي إلى عدد يتراوح ما بين 440 و450 ألف جندي، وهو الخفض الذي وصفته وسائل الإعلام الأمريكية بأنه يعيد حجم الجيش إلى مستويات ما قبل الحرب العالمية الثانية. وقد جاء هذا الإعلان المتزامن للميزانية الدفاعية للبلدين ليدفع المحللين إلى عقد مقارنات بينهما، خاصة مع انخراط الدولتين في معركة استراتيجية طويلة الأجل، حول فرض الهيمنة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والاختلاف في توجه الميزانيتين بين الارتفاع الصيني والانخفاض الأمريكي، يعزز التكهنات بشأن تراجع الهيمنة الأمريكية أمام النجم الصيني الصاعد.
 
وذكرت الكاتبة أن هذا الفرق بين الميزانيتين لا يقف عند حد الحجم فقط، بل يتعداه إلى أولويات الإنفاق أيضاً، فقد أعلنت الصين على لسان نائب مدير الإدارة العامة للإمدادات اللوجستية، صن هوانجتيان، أن الميزانية الدفاعية «ستركز بالدرجة الأولى على تحديث الأسلحة والمعدات، وتحسين الظروف المعيشية والتشغيلية لأفراد الجيش، وتحديث النظام الإداري»، ويتفق الخبراء على ضرورة زيادة الصين ميزانيتها الدفاعية لمواجهة التحديات الأمنية الخارجية التي تواجهها، كالنـزاعات الإقليمية في بحري الصين الشرقي والجنوبي، والمنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية على المدى الطويل. ويبدو أن المسؤولين الصينيين أرادوا التقليل من هذا الاعتقاد لدى المراقبين، فخرج المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، كين جانج، ليؤكد أن السياسة العسكرية الصينية «دفاعية بطبيعتها»، وأن زيادة حجم الجيش والاعتبارات الجيوبوليتيكية استلزما زيادة الإنفاق، برغم أن المتحدث الرسمي باسم البرلمان الصيني تحدث صراحة وقال: «نحن نؤمن بأن الحفاظ على السلام لا يتحقق إلا بالقوة».
 
وعن أولويات الميزانية الدفاعية الأمريكية تقول الكاتبة إن الميزانية أكثر تركيزاً على الكيف دون الكم، فالولايات المتحدة الأمريكية تستعد للانسحاب من الحرب في أفغانستان. وكان وزير الدفاع، تشاك هيجل، قد صرح بأن ميزانية العام المالي 2015 والخطة الدفاعية الرباعية الجديدة تبينان الآلية التي ستتبعها الولايات المتحدة الأمريكية لتطويع وإعادة تشكيل جيشها بما يلائم التحديات والفرص المتاحة في المستقبل». وبرغم تفاؤل هيجل ومسؤولي البنتاجون بالميزانية الجديدة، فإنهم وصفوا أي خفض جديد محتمل في عام 2016 بأنه سيكون كارثياً.
وبعيداً عن أوجه الاختلاف بين الميزانيتين الدفاعيتين الصينية والأمريكية، تتفق كلتاهما على أهمية زيادة الإنفاق العسكري بالنسبة إلى «الأمن الدولي» و «السلام العالمي»، وتؤكد الاثنتان اقتناعهما التام بأن الأمن لا يتحقق إلا بتكثيف الوجود العسكري.
 
أسلحة تغير مسار الحروب المستقبلية
يرى باحثون أن الطبيعة المتغيرة والسلسة للحروب تجعل من التنبؤ بالأسلحة الخمسة ذات الأثر الكبير في الحروب المستقبلية أمراً صعباً، كما أن عنصر التغيير في المواجهات الرئيسية بين قوتين تقليديتين مثل الولايات المتحدة والصين، قد يكون قليل الفائدة في المواجهات غير المتناظرة التي يتم فيها زج القوات عبر المناطق الحضرية. ويرى جيه. مايكل كول، الباحث التايلاندي في «معهد سياسة الصين» في جامعة نونتهام، في مقال نشرته مجلة «ذا ناشيونال إنترست»، أن الجيل الخامس من طائرات الشبح «إف -35» قد تكون عنصر تغيير في الحرب إلى حد ما، لكن سرعتها الهائلة وعدم القدرة على إبطاء السرعة يجعلها غير مناسبة لكشف وقصف الوحدات الصغيرة من المقاتلين داخل المدن، كما أن استخدام مثل هذه الوسيلة لقتل العناصر غير المنظمة والمسلحة ببنادق أي كي-47، يكون قليل التأثير وباهظ التكلفة، ومن ثم فإن استخدام القوات الخاصة وتجهيزها ببنادق هجومية خفيفة مموهة، تستخدم الذخائر ذات العيار الخفيف بصورة «ذكية» يُعتبر أكثر فعالية وأقل تكلفة. ودعا هذا الباحث إلى أن تؤخذ بالاعتبار طبيعة السيناريوهات التي تتبعها الوحدات القتالية أثناء الحرب، وحاول وضع قائمة بالأسلحة التي يخضع معظمها حالياً لعمليات التطوير، والتي قد تغير من طبيعة الحروب المستقبلية، ومن خلال الموازنة بين الحرب التقليدية والعمليات غير النظامية، فإن قائمة الأسلحة المستقبلية بطبيعتها تُعتبر غير كاملة، لكنها تُظهر اتجاهات حول أشكال الحروب التي يُرجح أن تؤثر في العالم لعدة قرون قادمة:
 
1. طائرات « هايبر ستيلث»
يقوم العلماء بتصميم طائرة الشبح التي تعتمد تقنية التخفي المعتمدة في هذه الطائرات على تقليل مقطعها الراداري مما يحول دون رصدها ومتابعها بشكل فعال، ويمكن لهذه الطائرات العمل في أراضي العدو دون كشفها، كما يمكن الاستفادة من هذه الطائرات في تقليص مخاطر التعرض للإصابات خلال العمليات العسكرية، وفي الوقت ذاته فإنها تزيد القدرة على شن هجمات مباغتة وجراحية ضد الأعداء أو القيام بعمليات التدمير والاغتيال. وقد عرضت شركة كندية صناعة الطائرة على مجموعتي القيادة في الجيش الأمريكي ومجموعتي القيادة في الجيش الكندي وكذلك على فرق مكافحة الإرهاب. ويرى الكاتب أن تلك التقنية قد تكون لها آثار خطيرة على العمليات العسكرية في حال تمكنت قوات العصابات المسلحة، والجماعات الإرهابية من امتلاكها.
 
2. المدفع الكهرومغناطيسي
يستخدم المدفع المجال المغناطيسي بدلاً من الدوافع الكيماوية مثل (ملح البارود أو الوقود). وتتميز هذه المدافع الكهرومغناطيسية بقدرتها على تحقيق سرعات فوهة أكبر من المدافع التي تعمل بطاقة الدوافع الكيميائية التقليدية. كما يمكن لهذه المدافع توجيه القذيفة إلى مسافات بعيدة وبسرعة 4,500 – 5,600 ميل في الساعة. وتخضع هذه التقنية لتطوير مدافع يصل مداها إلى 100 ميل بحري باستخدام 32,000 جول من الطاقة. وفي ضوء السرعة والمدى البعيد لهذا النوع من المدافع، فهي تقدم مزايا عديدة خلال العمليات الهجومية والدفاعية من خلال توجيه الضربات المركزة والدقيقة ضد أنظمة الدفاع المتطورة والدفاعات الجوية والأهداف الأخرى. ومن الفوائد الأخرى لهذه التقنية، الاستغناء عن الحاجة إلى تخزين المواد الخطيرة والمتفجرة والقابلة للاشتعال الضرورية لإطلاق القذائف التقليدية. وتقوم الولايات المتحدة بتطوير النسخ المعدلة الخاصة بها من هذا السلاح. ويأمل سلاح البحرية الأمريكي تطوير مدفع كهرومغناطيسي يصل مداه إلى 200 ميل بحري باستخدام 64,000 جول من الطاقة.
 
3. أسلحة الفضاء
تحاول الدول الكبرى عسكرة الفضاء الخارجي وتحويله إلى نطاق المعركة القادمة، ومن المرجح أن يصبح سطح القمر منصة لإطلاق الصواريخ بهدف تفتيت الكويكبات الساقطة على الأرض أو حرفها عن مسارها. وبالتالي فإن عسكرة الفضاء سيكون لها آثار عميقة على طبيعة الحروب المستقبلية. ورجح الكاتب إمكانية تزويد الأقمار الصناعية حول الأرض بمدافع كهرومغناطيسية تستهدف جميع المواقع داخل دولة معادية أو تستهدف مواقع محددة وفقاً لحجم المدافع المستخدمة. 
 
4. صواريخ كروز التي تفوق سرعة الصوت
يرى الكاتب أن الولايات المتحدة منتصف التسعينيات من القرن الماضي لم تكن تملك صواريخ كروز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وإلا لكانت قد تمكنت من التخلص من أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة في وقت مبكر، وحققت عملاً بطولياً في أفغانستان بدلاً من باكستان. وفي ضوء قدرة هذه الصواريخ على نقل الرؤوس الحربية عبر المسافات البعيدة وإصابة أهدافها بدقة، فإن تأثيرها سيكون استثنائياً في الحروب المستقبلية، لكن في العصر الذي تلعب فيه الدقائق دوراً كبيراً في تحقيق النصر أو التعرض للهزيمة فإن تلك الصواريخ تبدو بطيئة، حيث استغرقت صواريخ كروز التي أطلقت من بحر العرب عام 1998 باتجاه أفغانستان لاستهداف معسكرات التدريب التابعة لتنظيم القاعدة 80 دقيقة لبلوغ أهدافها. وتقوم البحرية الأمريكية حالياً بتطوير صواريخ كروز التي يتم إطلاقها من الغواصات.
 
5. الطائرات الآلية
يرى الكاتب أن التوسع في تصنيع الطائرات الآلية وانتشارها قد يؤدي مستقبلاً إلى الاستغناء عن الطيارين العاديين، لكن تلك الطائرات الآلية تبقى بحاجة إلى القليل من التدخل البشري في أداء مهامها، فهي صامتة، وقد تخطئ أهدافها. وأوضح الكاتب أن العلماء يعملون على تطوير الطائرات الآلية لتكون ذراعاً استخباراتية، ومن ثم يكون لها القرار في تنفيذ عملية القتل أو عدم تنفيذها، وقد تتحول تلك الطائرات إلى أسلحة «اضرب وانسَ»، حيث تتميز الطائرات بقدرتها على التحليق فوق الأهداف لساعات طويلة، والقدرة على اتخاذ القرارات تباعاً عندما تحين الفرصة للضرب. ويرى الكاتب أن تكاليف استخدام تلك الطائرات ستزداد وتزداد أعداد القتلى والعائلات الثكلى في المناطق التي تعمل بها تلك الطائرات، مثلما تزداد التكاليف بالنسبة لعمليات التدريب والمحافظة على القوات.
 
هل انتهي دور الدبابات؟
تواجه القوة العسكرية للولايات المتحدة في الوقت الراهن الكثير من التحديات، وعلى رأسها ضرورة تكييف الصناعات الدفاعية والعسكرية كي تتلاءم مع الحروب الحديثة، إضافة إلى التمويل الداخلي. ويرى خبراء أن الجيش الأمريكي ليس بحاجة للدبابات، برغم أن الشركات المصنعة ترغب في مواصلة إنتاجها. وتنقل تقارير إعلامية عن مسؤولين عسكريين قولهم أن تصنيع الدبابات أمر عظيم لكنه صعب ولم يعد أساسياً، فالدبابة أصبحت رمزاً للأسلحة القديمة في ضوء الحروب الحديثة التي تتطلب انتشاراً سريعاً واستخداماً للقوة عبر مسافات كبيرة وبعيدة، والتي تزداد فيها الحاجة إلى الغواصات والقاذفات بعيدة المدى والطائرات الآلية الخفيفة والتكتيكية.
 
وقد شهدت صناعة المركبات العسكرية التي بدأت شركة «براون ماكلوكلين» تصنيعها في منشأة «يورك» الأمريكية طفرة امتدت لعدة سنوات، وقامت شركة «بي. إيه. سيستمز» على مدار عقود بتصنيع العديد من المركبات العسكرية والدبابات مثل «هيركوليس» و «بالادين» ومؤخراً مركبة «برادلي» القتالية، التي تتسع لعشرة من الجنود وتسير بسرعة 40 ميلاً في الساعة وتحوي مدفعاً لإطلاق النيران، ومدفعاً رشاشاً، لكن هذه الطفرة شهدت تباطؤاً منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ما أدى إلى اندماج عدد من الشركات الدفاعية لتأسيس شركة «الدفاع المتحد». وفي عام 1997 قامت مجموعة «كارليل» المساهمة المحدودة بشراء شركة «الدفاع المتحد». وفي عام 2005 قامت شركة «بي إيه سيستمز» بشراء «الدفاع المتحد» بمبلغ يقارب 4 مليارات دولار. 
 
وقد تلقت «شركة بي إيه سيستمز» ومنشأة «يورك» ضربة من الجيش الأمريكي بعد إلغاء برنامج الأنظمة القتالية المستقبلية الذي تبلغ تكلفة تصنيع المركبات العسكرية فيه 87 مليار دولار، ومن ثم تراجعت مشتريات الجيش من المركبات وقامت منشأة يورك بخفض عدد العاملين فيها، كما أقدمت «بي إيه سيستمز» كذلك على تقليص عدد موظفيها. ومن المعتقد أنه في حال عدم تلقي الشركة طلبيات شراء للمركبات العسكرية فإنها ستوقف خط الإنتاج لهذه المركبات.
 
تحديات صعبة
رغم أن الجدل حول جدوى خفض حجم الجيش الأمريكي ستظل قائمة، فإن من أهم محددات مصير هذه الخطة حجم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة قائدة للنظام العالمي الجديد، حيث وصف البيت الأبيض نهجه في فترة ولاية أوباما الأولى بأنه نهج «البصمة الخفيفة»، وأنهى الحروب العقيمة التي قامت على أساس الاحتلال، وركز على ضربات الطائرات بدون طيار والهجمات الإلكترونية وغارات العمليات الخاصة بوصفها الوسيلة الجديدة لاستعراض القوة العسكرية والسرية للولايات المتحدة. وعندما وافق أوباما أخيراً على مشاركة القوات الأمريكية في قصف ليبيا عام 2011، أصر على أن يكون لحلف شمال الأطلسي دور بارز في هذا المسعى، وهذا في إطار استراتيجية القيادة من وراء ستار التي يفضلها. وعندما أصبح الرئيس الأمريكي بارعاً في تطبيق قواعد اللعبة على المدى البعيد، كانت وزارة الخزانة هي أفضل أداة غير قتالية بالنسبة له، حيث استخدمها في إتقان في الضغط الاقتصادي على إيران ودفع القادة الإيرانيين في نهاية المطاف نحو طاولة المفاوضات. غير أن هذه الأدوات، أو حتى التهديد باستخدامها، أثبتت حتى الآن عدم فعاليتها في التعامل مع الأزمات الأخيرة. فقد فشلت العقوبات والمساعدات المتواضعة للمعارضة السورية في وقف الحرب الدائرة في سوريا، وأصبح العنف أكثر حدة مع استمرار مفاوضات السلام. ويشير التقرير إلى أن البيت الأبيض أصيب بالدهشة من قرارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم شبه جزيرة القرم، وبإعلان الصين الحازم عدم السماح لأحد باستخدام مجالها الجوي والجزر القاحلة المحيطة بها. كما أن الضغوط الاقتصادية والهجمات الإلكترونية التي أرغمت إيران على إعادة النظر في نهجها، فشلت في إقناع كوريا الشمالية بعدم تنشيط برامجها النووية والصاروخية. وباختصار، يضع خصوم الولايات المتحدة الأمريكية ومنافسوها الاستراتيجيون حدود القوة الأمريكية في حقبة ما بعد العراق وأفغانستان قيد الاختبار. ويتساءل كثيرون: هل شجعت سياسة أوباما الحذرة في اختيار المعارك الخصوم الأمريكيين على اختبار حدود سياسته، أم إن ممارسة النفوذ على الدول التي تتحدى الإرادة الأمريكية أو قواعد النظام العالمي الجديد أصبحت الآن أصعب من أي وقت مضى؟ إجابة هذه التساؤلات قد تتضح بمرور الوقت، ولكن العامل الأكثر وضوحاً في الوقت الراهن هو ميل إدارة أوباما إلى تجنب التدخل العسكري، وهو أمر تجلى بقوة في خطة خفض حجم الجيش الأمريكي.
 
خلاصة
بشكل عام، فإن خطة «هيجل» لتقليص النفقات الدفاعية وحجم الجيش الأمريكي تُعدُّ تحولاً تكتيكياً في التخطيط الاستراتيجي، ولا تعني بأي حال انسحاباً للولايات المتحدة من قيادة النظام العالمي الجديد أو عزوفا عن هيمنتها على هذا النظام. والأقرب للتصور هو إعادة تفكيك منظومة القوة السائدة لمصلحة منظومة أخرى، بمعنى التخلي بشكل مدروس عن القوة الصلبة أو الخشنة في تحقيق الأهداف والمصالح الأمريكية لمصلحة تكريس دور القوة الذكية ( الناعمة والخشنة على حد سواء)، بحيث يمكن توظيف التهديد باستخدام القوة العسكرية من دون الذهاب إلى مرحلة التنفيذ، ثم تحقيق الأهداف بوسائل دبلوماسية مثل العقوبات والضغوط القوية وغير ذلك. وبالتالي، فإن الواقع يعني أن هناك توجهاً أمريكياً جديداً لإعادة تعريف مبدأ القوة ودوره في السياسة الخارجية الأمريكية، من دون حدوث تغيير في العقيدة العسكرية القائمة منذ أكثر من ثمانية عقود مضت، والتي تركز على احتواء الخصوم والمنافسين الاستراتيجيين، من خلال القوة الناعمة والدبلوماسية العميقة أو بالاحتواء العنيف من خلال استخدام مبدأ القوة الخشنة، التي استُخدمت في نحو 250 تدخلاً عسكريّاً خارجيّاً أمريكيا في مختلف قارات العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
 
حالات محتملة لاستخدام القوة الأمريكية في الشرق الأوسط
• وقوع هجوم على الأراضي الأمريكية من قبل إحدى الجماعات الإرهابية، حيث إن حماية أرض الوطن هي المبدأ الرئيسي للسياسة الخارجية في أي دولة. كما أن مكافحة الإرهاب هي المجال الذي أبدى فيه أوباما استعداداً للمجازفة من خلال تبني موقف أكثر حزماً وقوة من سلفه.
• منع إيران من الحصول على سلاح نووي. فقد بذل الرئيس الأمريكي جهوداً شاقة لتجنب الاضطرار إلى القيام بعمل عسكري، ولكنه قد لا يستطيع السماح لخصم أمريكي آخر بتجاوز خط أحمر جديد.
• غلق إيران لمضيق هرمز، ففي حالة نشر إيران للألغام أو ضرب الناقلات في مضيق هرمز، من شبه المؤكد أن ترد واشنطن على ذلك بحملة جوية وبحرية تهدف إلى التصدي لذلك.
 
تطور نوعي
أجرت وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً تجربة إطلاق ناجحة لقنبلة طائرة تتحرك بسرعة تفوق كثيراً سرعة الصوت لضرب أي هدف في العالم في أقل من ساعة. وقال بيان للبنتاجون أن السلاح من طراز القنابل الأسرع من الصوت، وقد أطلقه صاروخ من هاواي ثم انساب محلقاً في الطبقات العليا من الغلاف الجوي فوق المحيط الهادئ «بسرعة تجاوزت سرعة الصوت»، قبل أن يصيب هدفه في جزر مارشال. ولم يكشف البنتاجون السرعة القصوى التي بلغتها القنبلة المحلقة التي يمكنها المناورة، وهو ما لا تستطيعه صواريخ الدفع الذاتي الباليستية. ويحدد العلماء السرعات الفائقة للصوت بتلك التي تتجاوز سرعة الصوت خمس مرات، أي 3728 ميلاً (6000 كيلومتر) في الساعة. ويأتي مشروع القنابل التي تفوق سرعة الصوت في إطار برنامج الضرب السريع عبر أجواء الأرض، والذي يهدف إلى منح الجيش الأمريكي القدرة على إيصال الأسلحة التقليدية في أي مكان في العالم في غضون ساعة. وكان البنتاجون قد أجرى تجربة إطلاق في أغسطس الماضي على قنبلة محلقة أخرى فائقة للصوت سميت «إتش تي في-2»، قادرة على الطيران بسرعة 27 ألف كيلومتر في الساعة، غير أن تلك التجربة لم تنجح. ويُعدُّ مدى القنابل الفائقة للصوت أقل من مدى القنابل «إتش تي في-2»، حسبما ذكر تقرير لهيئة بحوث الكونغرس. وقالت الهيئة إن البنتاجون أنفق 239.9 مليون دولار على برنامج الضرب السريع عبر أجواء الأرض، بينها 69 مليوناً على القنبلة المحلقة التي قامت وزارة الدفاع الأمريكية باختبارها مؤخراً.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره