مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-03-01

حنبعل: أعظـم الجنـرالات في العصـور القديمة وقائد استراتيجي موهوب

من أعظم القادة العسكريين اكتسح شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا، وحاصر روما 15 عاماً وكادت تسقط لولا أن قامت عليه ثورة في قرطاج في القرن الأول قبل الميلاد، هو من عائلة بونيقية عريقة يُنسب إليه اختراع العديد من التكتيكات الحربية في المعارك والتي وضعها من مئات السنين قبل الميلاد حيث ما زالت بعضها تستخدم حتى اليوم بل إنها كانت حاسمة فى حروب كثيرة في العصر الحديث. 
قاد جيش قرطاجة لعبور جبال الألب، وابتكر تكتيكاً عسكرياً مكنه من هزيمة جيش روما في تطويقه ومهاجمته من الخلف وهو التكتيك الذي إذا تمكن أي جيش في العالم حتى الآن من تنفيذه فهو يلحق كارثة عسكرية بخصمه بلا شك، وتعتبر المعلومات الأولية عن شخصيته هي كتابات الرومان الذين كانوا يحترمونه ويخشونه، وبل يكرهونه كعدو لدود في الوقت نفسه.
 
 إعداد: حنان الذهب
 
هو حنبعل بن أميلكار برقا الشهير بهانيبال أو حني بعل كان أبوه حملقار برقا وتعني "حملقار الصاعقة" قائداً للقرطاجيين في الحرب البونيقية الأولى، ولد في عام 247 ق.م بمدينة قرطاج (إحدى ضواحي مدينة تونس حالياً)، ورافق والده إلى هسبانيا وكان لا يزال طفلاً عندما شارك أباه وصدربعل العادل والملك النوميدي نارافاس زوجيّ شقيقتيه في الحرب ضد المرتزقة وفي الغزو القرطاجي لأيبيريا، وقد اختاره الجنود قائداً بعد اغتيال صدربعل العادل زوج أخته في عام 221 ق.م، فتمكن من بسط نفوذ قرطاج على كامل شبه الجزيرة الأيبيرية بما في ذلك ساغونتو إحدى المعسكرات الرومانية، لذا فقد رأت روما ذلك خرقاً للمعاهدة التي عقدت إثر الحرب البونيقية الأولى، وطالبت بتسليمها حنبعل، وقد كان رفض هذا الطلب سبباً في اندلاع الحرب البونيقية الثانية بين عامي 218 ق.م. و201 ق.م.
 
نشأته
عاش حنبعل خلال فترة من التوتر في البحر المتوسط، عندما حاولت روما فرض سطوتها على القوى العظمى في المنطقة مثل قرطاجنة ومملكة مقدونيا الهلستينية وسرقوسة والإمبراطورية السلوقية، كانت أكبر إنجازاته خلال الحرب البونيقية الثانية، عندما سار بجيش يضم فيلة حربية، من أيبيريا عبر جبال البرانس وجبال الألب إلى شمال إيطاليا، التي حقق فيها ثلاثة انتصارات مثيرة في معارك تريبيا وبحيرة تراسمانيا وكاناي، وخلال 15 عام احتل حنبعل معظم إيطاليا مع ذلك اضطر إلى أن يعود لمواجهة الغزو الروماني لشمال أفريقيا، وهناك هزمه سكيبيو الإفريقي في معركة طاحنة.
 
بعد هزيمة قرطاج في الحرب البونيقية الأولى، تفرّغ أميلكار لرعاية أسرته وتنمية ثروات الامبراطورية، مدعوماً من قادس، بدأ أميلكار في إخضاع قبائل شبه الجزيرة الأيبيرية، كانت قرطاج في ذلك الوقت دولة فقيرة لدرجة أنها لم تتمكن من نقل قواتها عبر البحر إلى شبه الجزيرة الأيبيرية؛ بدلاً من ذلك قاد أميلكار جيشه نحو أعمدة هرقل ونقلها عبر مضيق جبل طارق، توسّل حنبعل إلى والده للذهاب معه، وعندئـــذ طلب منه والده أن يقسم بأنه لن يكون صديقاً لروما، طالمـــا كان على قيد الحياة، وأثناء غزو هسبانيا، لقي والـــده مصرعه في المعركة، وخلفه زوج شقيقـــة صدربعل العادل في قيادتهــا للجيش، وخــدم معه حنبعل كضابط تحت قيادته.
 
عمل صدربعل على توطيد المصالح القرطاجية في أيبيريا، فوقّع على معاهدة مع روما تنص على ألا تتوسع قرطاجنة شمال نهر أبرة، طالما لن تتوسع روما إلى الجنوب منه، كما سعى أيضاً إلى تعزيز قوة القرطاجيين من خلال تقوية علاقاتهم الدبلوماسية مع القبائل المحلية، وكجزء من تلك التحالفات رتب صدربعل الزواج بين حنبعل وأميرة أيبيرية اسمها "إيميليس".
 
بعد اغتيال صدربعل العادل في عام 221 ق.م.، اختار الجيش القرطاجي حنبعل قائداً له، وأقرت حكومة قرطاج ذلك. وبعد توليه القيادة، أمضى حنبعل عامين في تعزيز مواقعه واستكمال احتلال هسبانيا في المنطقة إلى الجنوب من نهر أبرة.
 
خشيت روما من تنامي قوة حنبعل في أيبيريا، التي تحالف مع مدينة ساغونتو التي تقع على مسافة كبيرة إلى الجنوب من نهر أبرة، وادعت أن المدينة تحت حمايتها، اعتبر حنبعل ذلك خرقاً للمعاهدة التي وقعها صدربعل العادل مع الرومان، وقرر حصار المدينة التي سقطت بعد ثمانية أشهر، مما اعتبرته روما انتهاكاً واضحاً للمعاهدة، وطالبت القصاص من قرطاجنة، ونظراً لشعبية حنبعل الجارفة لم تستنكر الحكومة القرطاجية قراراته، عندما أعلن الحرب في نهاية العام، وعندئذ قرر نقل الحرب إلى قلب إيطاليا بحملة سريعة عبر هسبانيا وجنوب بلاد الغال. 
 
يقول المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس: " سوف أروي الحرب التي علقت بالذاكرة أكثر من كل الحروب، إنها الحرب التي خاضها القرطاجيون بقيادة حنبعل ضد الشعب الروماني، ذلك أنه لم يحصل قط أن تصارعت مدن أو شعوب أكثر قوة وعتاداً ولم يحصل أن توفر لروما وقرطاج قدراً أكبر من القوة والعظمة، أضف إلى ذلك أن كلا من الدولتين لم تكن تجهل ما كان يقدر عليه خصمها من الناحية العسكرية ذلك أن كلتيهما أعادتا الكرة بعد أن قيمتا بعضهما خلال الحرب البونية الأولى".
 
غزو روما وعبور جبال الألب
قرر حنبعل في سنة 654 ق.م التقدم بجيشه بعد أن ترك شقيقه صدربعل على رأس ولاية قرطاجنة بهسبانيا التي كانت تابعة لامبراطورية قرطاج، وقد قرر حنبعل الإسراع في بدء حملته البرية، بعد أن وصلته أنباء من جواسيسه بأن الرومان يستعدون لتطبيق خطة بنقل الحرب إلى أفريقيا في عقر دار قرطاج.
 
كان حنبعل يقول لقادة أركان جيشه: "في حالة وصولنا لنهر البو قبل فوات الأوان، نستطيع أن نمسك بتلابيب جيوش الغزو الرومانية داخل إيطاليا نفسها، فلا تصبح مدينة قرطاج ميداناً للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب ولأول مرة على الرومان وعلى بلادهم فيكتوون بآلامها، ويحرقون بنارها، فالسرعة ثم السرعة".
 
معركة تسينو
وخاض حنبعل أول معركة وهي معركة تسينو التي دارت على شواطئ نهر تسينو، حسمها حنبعل لصالحه بخطة سريعة لعب فيها الفرسان البونيقيون دوراً حاسماً عندما طوقوا من الخلف كتائب الرومان الثقيلة بحيث لم تصمد برماحهم الطويلة أمام حراب القرطاجيين القصيرة والخفيفة والنافذة، وما هي إلا لحظات حتى سقط القنصل ببليوس قائد الجيش تحت سنابك خيل هؤلاء الفرسان المردة، عاد هذا القنصل لروما جريحاً وهو يردد لخاصته كيف وقع من صهوة جواده وسط فرسان غرباء لم ير مثلهم في حياته من قبل في سرعة الكر والفر، ويقصد الفرسان.
 
معركة تريبيا
ووجهت روما جيشاً ثانياً ضخماً بقيادة قنصل جديد هو تيبيريوس سامبرونيوس لمسح هزيمة معركة تسينو، وأعد حنبعل له فخاً على ضفاف نهر تريبيا حيث دارت معركة تريبيا حسمها حنبعل باختيار مكان المعركة وهو سهل غمره الفيضان فأوحلت تربته ولم يره خصمه، اختاره وهو يردد قول أبيه حملقار برقة: "دع الأرض تقاتل عنك".
 
أمر حنبعل خمسمائة من خيرة الفرسان النوميديين وأصدر توجيهاته لقائدهم فقال له: "توجهوا في بداية الليل إلى معسكر العدو، اقتربوا من خنادقهم راكضين، وعندما يتصدى لكم فرسانه، التحموا معهم في معركة، ثم ولوا هاربين ممثلين اندحاراً، فسيتبعكم العدو، وجهوه عند ذلك السهل الضحل حيث الكمين"، ووقع القائد الروماني في الفخ، وانطلقت المعركة فأعطي القنصل الأمر ببدء المعركة بتعقب النوميديين المراوغين، وهُزم الرومان شر هزيمة.
 
وأهم ما أسفرت عنه هذه المعركة تحالف حنبعل مع شعب غال سيسالبين وانضم له في الشهرين التاليين 14000 من مقاتليهم الأشداء، فاستقبلهم وهو يردد قولته المشهورة: "إذا أحرزت نصراً انضم اليك الجميع حتي خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة تخلى عنك حتى محبوك"، وبعد انقضاء شهري الشتاء قرر التوجه جنوباً نحو روما، ووقع في مستنقعات، وانتشرت الحمى بين جيشه وفقد نتيجة لإصابته بها إحدى عينيه.
 
موقعة ترازايمين
في اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو 217 ق.م. تقدم جيش روماني ضخم تعداده أربعون ألفاً بقيادة جايوس فلامينيوس نيبوس نحو بحيرة ترازايمين تحت رقابة الفرسان البونيقيين، كان يلفه ضباب كثيف، وكان حنبعل قد رصده بواسطة جواسيسه من بعيد، وترصد للمكان الذي سيخرج منه وهو يسيطر على المرتفعات التي تشرف على مكان مروره، وفجأة ومن خلال الضباب هاجم القرطاجيون من مواقع مثالية، فكانت الصاعقة المفاجئة تحل على رؤوس الرومان.
 
وأرسل حنبعل بسائر فرقه لتهاجم في وقت واحد، وكان يراقب من موقع عال فوق الطرف الأقصى من طريق البحيرة، وسد فرسان ماهربعل النوميديون، مصحوبين بمشاة الأفارقة، مدخل شاطئ البحيرة الهلالي الشكل، وهكذا وقع القنصل في نفس المصيدة الذي كان ينوي ايقاع حنبعل فيها، وأطبقت كماشة الجيش القرطاجي من كل ناحية، بحيث لم تجد كتائب الرومان مجالاً للمناورة ولا حتى للهروب، وما كادت تحل الساعة العاشرة صباحاً حتى كانت موقعة بحيرة ترازايمين قد انتهت، وصار بذلك ستة آلاف من الجنود الأشداء أسرى حنبعل، وهكذا تمكن الجيش القرطاجي الذي أنهكته الحمى قبل أيام، بجياد هزيلة من إبادة جيش قوي خارج للتو من معسكراته ينعم بالصحة والعافية، تمكن من هزمه وأسر خمسة عشر ألفا من خيرة جنوده، وأطلق سراح الأسرى من الشعوب الأخرى وهو يقول لهم: "ما جئت لأشن الحرب على الشعوب المستعْمَـرة، بل ولا حتى على الإيطاليين، وإنما جئت لأساعد الجميع ضد حكام روما الظالمين".
 
تجمعت جماهير روما بساحة الفوروم، بعد أن وصلت أنباء كوارث الهزائم، وبقيت أبواب مجلس الشيوخ مغلقة أمام الجماهير، وبعد طول الحاح خرج إليهم القنصل بومبونيوس ماثو بمفرده واعتلى درج مدخل المجلس، وألقى عليهم خطاباً يتكون من اثنتى عشرة كلمة: "لقد قهر العدو جيوش روما في موقعة عظيمة مات فيها أحد القنصلين".
 
موقعة كاناي العظمى
واستمرت القوات الرومانية في تكتيك العرقلة، لكن حنبعل بمجرد أن تأكد أن جنوده أخذوا ما ينبغي أخذه من الراحة، واستوعبوا تدريبات عالية، قرر المرور إلى الاستدراج، وخلق سائر الظروف على مدى أشهر لموقعة كاناي العظمي التي بدأت في فجر اليوم الثالث من شهر أغسطس سنة 216 ق.م. قام حنبعل بمناورات على مدى أشهر جعلت العدو يحرك قوات جبارة إلى كاناي.
 
كان ماركوس روفوس صغير السن، وقام حنبعل بمناورة فهم منها الضابط الروماني أنه صار يخاف المواجهة ويهرب، وهكذا انطلت عليه مناورة حنبعل الذي أظهر تقهقراً منهزماً زيادة في اتقان حبكة الاستدراج الكبير الذي يعده لخصمه المغرور، كان حنبعل يقود جيشاً من أربعين الفاً، بينما كان جيش عدوه يتجاوز المائة ألف، نصفهم من المجندين حديثاً، واعتبر أنه أقوى جيش على الإطلاق جمعته روما في تاريخها، وزيادة في الخديعة قام الفرسان النوميديون في خفة الأشباح بغارة صدتها القوات الرومانية بنجاح، وتقهقر الفرسان مظهرين انهزامهم، فقرر عند ذاك القنصلان فارو وأميليوس مطاردة العدو المنهزم، وتقهقر القائد ماهربعل عبر نهر أوفيدوس هارباً وجيشا القنصلين بتعقبانه، وضيق عليهما الخناق شيئاً فشيئاً فوق سهل كاناي المكشوف، وذلك في اليوم الثالث من شهر أغسطس.
 
عندما التقى الجيشان أعطي حنبعل إشارة البدء، ووجد الرومانيون أنفسهم يقاتلون في ظروف مزدوجة السوء، كانوا منكفئين بعضهم على بعض، محصورين الكتف إلى الكتف، بينما كان أعداؤهم يحومون حولهم بكامل حريتهم، كانوا منهكي القوى، يواجهون عدواً متجدد القوة شديد البأس، كان حنبعل يستعمل من بعيد إشارات معينة بدخان منطلق من حزم أعشاب خاصة تطلق دخاناً عالياً، وكل عدد من هذه المشاعل الدخانية يعني أمراً معيناً، ولم تكد تحل الظهيرة حتى اختفى الفرسان، فلم يبق فارس واحد بين مرتفعات كناي والمقر الصخري المرتفع لقيادة حنبعل، وبقيت في هذا الامتداد كتائب مشاة الرومانيين مكدس بعضها على بعض، في كتلة بشرية هائلة صماء، وانطلق الفرسان النوميديون الخفاف كالبرق وعلى رأسهم قائدهم مهر بعل فسدوا ثغرة فرار العدو المنهزم الهارب إلى النهر، وكانت الأرض في سائر الاتجاهات ضد الرومان، وتمعن حنبعل في هذا الموج البشري، وردد في نشوة وصية والده حملقار برقا: "دع الأرض تقاتل عنك"، وترك قادة وحداته ينفذون حرفياً خطته، وأبيد هذا الجيش الضخم، وعندما طلب منه رجاله أن يستريح أجابهم: ينبغي على الطهاة أن يعدوا وجبة شهية، ويسخروا لها كل فنونهم، وتقدم مصحوبة بالخمر إلى الجنود من سائر الرتب، فقد آن للجيش أن يستريح.
 
وهنا صاح العجوز ماهربعل في غضب: "حنبعل اسمع لي جيداً، في خمسة أيام يستطيع الجيش أن يتناول هذه الوجبة في روما نفسها، سيسبقك فرساني كالبرق إليها، فيكتشف الرومانيون بحلولك بينهم من خلال هؤلاء الفرسان المردة قبل أن يعلموا بخروجك إليهم"، وتطلع حنبعل ملياً في وجه مساعده العجوز، ثم أجابه: "هذا مما يسهل قوله، ويبهج القلب سماعه، يا عمنا البطل، لكن امعان التفكير في الأمر وتقليبه على عدة وجوه، يحتاج إلى وقت طويل"، وهنا لم يتمالك ماهربعل نفسه فصاح فيه في غضب، وقال له قولته الخالدة: "حنبعل لقد حبتك الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنك لا تعرف كيف تستخدمه وتستغله"، واستمع حنبعل لمساعده العجوز رفيق وصديق والده، ومعلمه سائر أنواع القتال والفروسية والرياضة، تمعن ملياً فيه ثم أمر بإطعام الرجال، وعند انتهاء جولته التفتيشية عاد إلى مقر قيادته لينام نوماً عميقاً بين حراسه.
 
ويعقب مؤرخو سيرة حنبعل فيجمعون على أنه لو عمل برأي القائد الفارس ماهربعل لتمكن من احتلال روما وتغيير مجرى التاريخ، بدون حسم سريع ـ مثلما يراه ماهربعل ـ لا أمل في أن يكسب القرطاجيون الحرب في النهاية، لأنهم يقاتلون عدواً في بلاده، يملك تحت يده الشعب والغذاء والمال، بينما هو بعيد عن قرطاج، قطعت عنه الامدادات من هسبانيا التي تمكن سكيبيو من السيطرة عليها، وعبر البحر المتوسط الذي تسيطر عليه الأساطيل الرومانية سيطرة مطلقة، ولا أمل في أن ترسل قرطاج نجدات عبره لحنبعل، يذكر أنه بعد هذه المعركة أرسل حنبعل إلى قرطاج بثلاثة مكاييل من الخواتم الذهبية التي انتزعها من جثث خمسة آلاف فارس روماني كغنيمة حرب ولتكون رمزاً لانتصاره.
 
كان حنبعل مدركاً لكون الرومان يكونون في أفضل حالاتهم عندما يحاربون على أرض أعدائهم، ولهذا السبب قام بهذه الخطوة الجريئة بنقل الحرب إلى بلاد الرومان، من هذا المنطلق كانت رحلته إلى إيطاليا، استطاع حنبعل استخدام كل الموارد والتكتيكات الحربية لتحقيق النصر، دون أن يترك جانباً واحداً للصدفة، وامتاز حنبعل بقدرته على جمع المعلومات عن الرومان قبل المعارك مما مكنه من وضع خططه العسكرية المحُكمة، كما كان حنبعل قادراً على فرض زمان ومكان المعركة اللذان يمكنانه من تحقيق النصر على عدوه، وظل لستة عشر عاماً في إيطاليا، قبل أن تستدعيه حكومة قرطاج لحماية المدينة من حملة الرومان الإفريقية، وكانت معركة "زامة" التي هُزم فيها حنبعل في النهاية من سكيبيو الإفريقي.
 
عودته إلى قرطاج
انتهت هذه الملحمة البطولية ملحمة الدفاع عن قرطاج، وإذا كانت هذه الحرب أسفرت عن وفاة مدينة، فقد أكدت أن الإنسان أقوى من القهر، وأن إرادته لا تردع بسهولة، ولقد تأثر لهذه المأساة حتى بعض المؤرخين الأوروبيين، يقول وارمنغتون: ألقى سكيبيو أميليانوس نظرة على المدينة التي ازدهرت أكثر من سبعمائة سنة منذ انشائها، والتي حكمت مناطق كثيرة، جزراً وبحاراً، وكانت ثرية في السلاح والأساطيل والفيلة والمال، مثل الامبراطوريات العظمى، بل والتي فاقتها في الإقدام والشجاعة الفائقة، فبالرغم من أنها جردت من كافة أسلحتها وسفنها، فقد صمدت أمام حصار شديد، ومجاعة دامت ثلاث سنوات، ووصلت إلى نهايتها بالتدمير الكلي.
 
ويروي المؤرخ اليوناني بوليبيوس الذي رافق القائد الروماني في عملية التدمير، فيقول: "أن سكيبيو أمليانوس بكي تأثراً بما آل له عدوه، فاستعرض أمامه الحقيقة المتمثلة في أن الأفراد والأمم والامبراطوريات نهايتها محتومة، وكذلك نصيب مدينة طروادة العظيمة، ونهاية الامبراطوريات الأشورية، والميدية، والفارسية، والتدمير الأخير لامبراطورية مقدونية الكبيرة، تمعن في هذا كله ثم ردد بقصد أو بدون قصد، كلمات هكتور في الياذة هوميروس: "سيأتي اليوم الذي تسقط فيه طروادة المقدسة، وكذلك الملك بريام وجميع رجاله المسلحين معه"، وعندما سأل المؤرخ بوليبيوس، سكيبيو، ماذا تقصد بهذا؟، التفت اليه القائد الروماني وقال بتأثر: هذه لحظة عظيمة يا بوليبيوس، إن الخوف يتملكني من أن نفس المصير سيكون لوطني في يوم من الأيام".
 
معركة زاما
لما وطئت قدما حنبعل أرض بلاده بعد أن غاب عنها ستة وثلاثين عاماً بادر إلى حشد جيش جديد وسار على رأسه لملاقاة سكبيو عند زاما Zama على بعد خمسين ميلاً جنوبي قرطاجنة، وتقابل القائدان في بداية المعركة مقابلة ودية، فلما وجدا أن لا سبيل إلى الاتفاق بينهما أصدرا أمرهما ببدء القتال.
 
وهـُزم حنبعل للمرة الأولى في حياته، فقد تضعضع القرطاجنيون، وكان معظمهم من الجند المرتزقة، أمام مشاة الرومان وفرسان مسينسا Massinissa ملك نوميديا المجازفين الأبطال، وقاتل حنبعل وهو في سن الخامسة والأربعين كما كان يقاتل وهو في نضرة الشباب، فهجم على سكبيو بنفسه وجرحه، ثم ثنى بمسينسا، وأعاد تنظيم قواه بعد أن اختل نظامها أكثر من مرة، وقادها في هجمات مضادة شديدة على الأعداء، فلما لم يبق له أمل في النصر أفلت من الأسر وسار على ظهر جواده إلى قرطاجنة، وأعلن أنه لم يخسر الموقعة فحسب بل خسر الحرب كلها معها، وأشار على مجلس الشيوخ بأن يطلب الصلح، وعامل سكبيو القرطاجنيين معاملة الكرام فرضى أن تحتفظ قرطاجنة بأملاكها في إفريقية ولكنه طلب إليها أن تسلم لروما جميع سفنها الحربية عدا عشر من ذات الثلاثة الصفوف من المجدفين، وألا تشتبك في حرب خارج إفريقية أو داخلها إلا بعد موافقة روما، وأن تؤدي إليها غرامة حربية سنوية مقدارها 200 تالنت مدى خمسين عاماً، وأعلن حنبعل أن هذه الشروط عادلة وأشار على مجلس الشيوخ بقبولها.
 
حنبعل وسكيبيو الإفريقي
امتاز حنبعل عن سكيبيو الإفريقي بشخصيته الماكرة وتفوقه الاستراتيجي، والمرونة أثناء المعارك، وسجله الخالي من الهزائم أمام الرومان لفترة طويلة، أيضاً كان حنبعل يميل إلى التأكد من أن قواته مجهزة تجهيزاً جيداً وكان يعتني بهم وهو ما لم يكن قط من أولويات سكيبيو، إلى جانب رحلته إلى إيطاليا عبر جبال الألب والتي تعتبر مغامرة عسكرية كبرى، فطوال ستة عشر عاماً في إيطاليا، قاد حنبعل قواته محققاً ثلاث انتصارات كبرى، جعلت روما في حالة من الفوضى والخوف، كما كانت معارك تريبيا وبحيرة تراسمانيا وكاناي دليلاً آخر على كون حنبعل أفضل قائد أثناء الحروب البونيقية. 
 
هيئة أركان جيشه
كانت هيئة أركان جيشه تتكون من: هانو بن هاملقار، وهيرت، وسينهالوس المصري كبير الأطباء، والإغريقيين سوسيلوس، ووسلينوس، وبوح الهندي منجم الحملة، والاسبرطي سوسيليوس الذي علم حنا بعل اليونانية، و مهربعل "ماربال" الأمازيغي البربري قائد سلاح الفرسان النوميديين المسن، الذي تقلد هذه القيادة منذ عهد والد حنا بعل هملقار برقه، ويكنّ له حنبعل حباً فائقاً.
 
تكتيك وحنكة عسكرية
تميز حنبعل بتفكير استراتيجي وحنكة عسكرية حيث عمد إلى استخدام الكثير من الأفكار والخطط والحيل في الحروب والمعارك، فعندما حاول حنبعل قطع جبال الألب عمد إلى تدفئة أجساد رجاله أمام النار ثم دهنها بالزيت كي تبقى دافئة، وكان قد قطع جبال الألب راكباً على فيل وبجانبه حصان وعندما سأله أحد مرافقيه "لماذا معك" أجاب إن الفيل قوي ولكنه بطيء أما الحصان فيتسم بالسرعة وهو أنسب لحال الكر والفر في وقت المعارك، وكان أثناء عبوره لجبال الألب إذا اعترضت سيره صخرة كبيرة تسد أمامه الطريق عمد إلى تسخينها بالنار ثم صب الخمر فوقها حتى تتصدع وتتفتت، ومن حيله الشهيرة أنه في إحدى الليالي أراد الجيش الروماني تطويق القرطاجيين ليلاً وأخذهم على حين غرة ولكن حنبعل تفطن للشرك الذي كان يقع تحضيره فأمسك بقطيع من الأغنام وربط في قرونها المشاعل الملتهبة ثم أطلقها فلما رأى الرومان المشاعل ظنوا أن الجيش القرطاجي يتحرك ليلاً فذهبوا وراءهم بينما كان حنبعل وجيشه يعبرون الطريق بسلام، وقد كان أحياناً يتموه بشعر مستعار ويذهب لاستقصاء أخبار العدو بنفسه وكان يملك شبكة كبيرة من الجواسيس.
 
نفيه ووفاته
بعد الحرب أصبح حنبعل حاكماً لقرطاجنة، وعندئذ قام بسنّ العديد من الإصلاحات السياسية والمالية ليتمكن من دفع تعويضات الحرب المفروضة على قرطاجنة لروما، كانت هذه الإصلاحات لا تحظى برضا الطبقة الأرستقراطية القرطاجي فوشت به لروما ففرض عليه النفي، خلال منفاه عاش في الإمبراطورية السلوقية، حيث قام بدور المستشار العسكري لأنطيوخس الثالث في حربه ضد روما، بعد هزيمة أنطيوخس إضطر إلى قبول شروط روما، وفر حنبعل مرة أخرى إلى مملكة أرمينيا، واستقر في بيثينيا، حيث ساعدهم لتحقيق فوزاً بحرياً بارزاً على أسطول من بيرجامس، بعد ذلك تعرض للخيانة وكان من المفترض أن يسلم إلى الرومان، إلا أنه آثر تناول السم الذي قيل انه احتفظ به في خاتم لبسه لوقت طويل على أن يموت أسيراً في يد الأعداء، يعزى إليه المقولة الشهيرة: "سوف نجد حلاً، أو سنصنع واحداً".


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره