مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2014-01-01

معركة وادي المخازن 986هـ / 1578م

يزخر التاريخ الإسلامي بالعديد من المعارك الفاصلة التي شكلت نتائجها منعطفات هامة أثرت ولا تزال في بناء الحاضر الذي نعيشه ولولا تضحيات السابقين من زعماء عظماء مجاهدين تصدوا للحملات المغرضة ضد بلاد الإسلام لما انتشر الإسلام في بقاع الأرض يوماً، ومعركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة هي معركة قامت بين بلاد المغرب الأقصى والبرتغال.
 
إعداد: حنان الذهب
 
وحكام المغـرب هم من الأشراف السعديون من آل البيت النبوي، فبعد دولة المرابطين قامت دولة الموحدين ثم دولة بني مرين ثم دولة وطاس، ثم قامت دولة الأشراف السعديين، وكان من حكامهم محمد المتوكل على الله وكان فظاً مستبداً ظالماً قتل اثنين من إخوته عند وصوله إلى الحكم وأمر بسجن آخر فكرهته الرعية، فرأى عمه عبدالملك أنه أولى بالملك من ابن أخيه، فأضمر المتوكل الفتك بعميه عبدالملك وأحمد ففرا منه مستنجدين بالعثمانيين، الذين كتبوا إلى واليهم على الجزائر ليبعث مع عبدالملك خمسة آلاف من عسكر الترك يدخلون معه أرض المغرب الأقصى ليعيدوا له الحكم الذي سلبه منه المتوكل الظالم وعندها دخل عبدالملك المغرب مع الأتراك، وانتصر في معركة قرب مدينة فاس، وفر المتوكل من المعركة، ودخل عبد الملك فاس سنة 983 هـ وولى عليها أخاه أحمد ثم ضم مراكش، ففر المتوكل إلى جبال السوس، فلاحقته جيوش عمه حتى فر إلى سبتة، ثم دخل طنجة مستصرخاً بملك البرتغال سبستيان، بعد أن رفض ملك أسبانيا معونته.
 
تطور الأمر من نزاع على السلطة بين محمد المتوكل والسلطان أبو مروان عبد الملك إلى حرب مع البرتغال بقيادة الدون سبستيان الذي كان يحكم البرتغال، وأبوه الأمير يوحنا البرتغالي وأمه ابنة الإمبراطور شارلكان وأخت فيليب الثاني ملك أسبانيا، نشأ في كنف اليسوعيين في جو متعصب ضد الإسلام فملأت مخيلته سير الفرسان الصليبيين، وفتنته الأحاديث حول شجاعة الأبطال البرتغاليين ضد مسلمي الشمال الأفريقي، وكان مغروراً معتداً بنفسه خصوصاً وأنه جلس على العرش قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، وحلم بامتلاك الدنيا كلها وطمح لاستخلاص الأماكن المسيحية المقدسة في المشرق من أيدي المسلمين، ورأى أن يبدأ بالمغرب لتكون منطلقاً للمشرق العربي.
 
بداية المعركة
حاول الملك سبستيان القيام بحملة صليبية للسيطرة على جميع شواطئ المغرب، وكي لا تعيد الدولة المغربية بمعاونة العثمانيين الكرّة على الأندلس. انتصر المغاربة، وفقدت الإمبراطورية البرتغالية في هذه المعركة سيادتها وملكها وجيشها والعديد من رجال الدولة، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد ثم عادت الإمبراطورية البرتغالية بعد 93 سنة من سيادة إسبانيا عليها.
 
وكان على السعديين قبل أن يخلص لهم الحكم أن يقودوا حركات النضال في ثلاثة جبهات: الأولى هي جبهة النضال ضد الاحتلال البرتغالي حيث أدى استرداد أغادير سنة 947 هـ على يد محمد ابن الشرف القائم إلى التفاف المغاربة حول السعديين وجلاء البرتغاليين عن عدد من الثغور المغربية، الجبهة الثانية كانت ضد دولة الوطاسيين حيث نجح السعديون في القضاء عليهم والاستيلاء على عاصمتهم عام 955 هـ، أما الجبهة الثالثة فهي ضد الأتراك العثمانيين حيث انتهى الصراع بهدنة ورضخ العثمانيون لاستقلال المغرب عن حكمهم. 
 
تربع سبستيان عام 1557 م على عرش الإمبراطورية البرتغالية التي يمتد نفوذها على سواحل إفريقيا وآسيا والأمريكيتين، فاتصل بخاله فيليب الثاني ملك إسبانيا يدعوه للمشاركة في حملة صليبية جديدة على الدولة السعدية كي لا تعيد الكرّة، بمعاونة العثمانيين، الأندلس، أراد ملك البرتغال الشاب محو ما وصم به عرش البرتغال خلال فترة حكم أبيه من الضعف، كما أراد أن يعلي شأنه بين ملوك أوروبا بالقيام بمساعدة المتوكل، ربما مقابل أن يتنازل له عن جميع شواطئ الدولة المغربية، فوعده خاله ملك أسبانيا أن يمده بالمراكب والعساكر وأمده بعشرين ألفاً من عسكر الأسبان، وكان سبستيان قد عبأ معه اثني عشر ألفاً من البرتغال، كما أرسل إليه الإيطاليون ثلاثة آلاف ومثلها من الألمان وغيرهم، وبعث إليه البابا بأربعة آلاف أخرى، وبألف وخمس مائة من الخيل، واثني عشر مدفعاً، وجمع سبستيان نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى أراضي الدولة المغربية، وقد حذر ملك أسبانيا ابن أخته عاقبة التوغل داخل أراضي المغرب ولكنه لم يلتفت لذلك.
 
دهاء ودبلوماسية
أعد عبدالملك نفسه للمواجهة الحاسمة، خصوصاً بعد أن اتضح نجاح إصلاحاته الاقتصادية الإدارية والعسكرية معيداً شعور المغاربة بالوحدة والأمان والثقة، مستفيداً من الوعي الوطني الذي كانت تبثه الحركات الدينية في نفوس المغاربة  تعدهم للاستماتة في سبيل الله والوطن، وقامت الحركة الدينية الجزولية بمساندة عبد الملك السعدي بكل ما أوتيت من قوة، استخدم عبد الملك دهاءه وحنكته السياسية لكشف عدوان ملك البرتغال الصريح على بلاده ومطامع الملك الشاب التوسعية والاستعمارية، فبادر بتوجيه رسالتين إلى الدون سبستيان هذه مقاطع منهما: "إن ما تعتزمه من محاربتي في قعر داري ظلم وتعد غير مقبولين، وأنا لا أضمر لك شراً، ولم أقم بشيء ضدك لا تظنن أن الجبن هو الذي يملي علي ما أقول فإن فعلت فإنك تعرض نفسك للهلاك وإني مستعد للتفاهم معك رأساً لرأس في المحل الذي تريده إني لأفعل كل هذا سعياً في عدم هلاكك المحقق عندي، وأعلم أنك شاب لا تجربة لك، وأن لك في حاشيتك نبلاء يشيرون عليك بآراء فاشلة"، وقصد عبد الملك من هذه الرسائل أن يماطل ويكسب وقتاً للتحضير والاستعداد للمعركة، كانت تلك الرسائل تصب لصالح عبد الملك في كل الأحوال، فلو أصر الملك البرتغالي على المضي قدماً انكشف موقفه العدواني وقوي موقف الملك السعدي في الميدان الدولي، وعندما لم تجد محاولات عبدالملك السعدي الدبلوماسية أيقن أنه لا بد من خوض غمار المعركة.
 
التجهيزات المغربية
كان عبد الملك السعدي في عاصمة دولته بمراكش يولي الاستعداد لمواجهة الخطر الصليبي الزاحف بكل ما يملكه شعبه من طاقات دفاعية وعسكرية وما يتمتع هو نفسه من خبرات ومواهب في القيادة والقتال، وجهز جيشه على النحو التالي: الجيش النظامي المدرب الذي سهر السنتين الماضيتين من حكمه على تكوينه وإعداده على الأساليب العسكرية التركية، وزاد عدد محاربيه على الأربعين ألفاً، صار الجيش المغربي يمتلك أربعة وثلاثين مدفعاً وآلاف كثيرة من الخيل وتجهيزات حربية وافرة، وتدفقت سيول المجاهدين من أتباع الحركة الدينية الجزولية - والذين كانوا أغلبية الشعب المغربي - بقيادة شيخهم أبو المحاسن يوسف الفاسي حتى أصبح جيش عبدالملك السعدي مئة ألف بينهم ثلاثين ألف فارس.
 
كانت مدينة القصر الكبير هي المركز الرئيسي في المغرب للحركة الجزولية وقد اختيرت لقربها من الثغور المغربية التي كان البرتغاليون يوالون احتلالها ولذلك اختارها عبدالملك السعدي مقراً للقيادة العليا لتسيير العمليات الحربية، وطلب من أخيه ونائبه على فاس الأمير أحمد أن يسبقه إلى القصر الكبير على رأس جيوش من رماة أهل فاس، وتحرك هو نفسه مغادراً مراكش على رأس جيشه في الطريق إلى الشمال، وكان جيشه يزداد كثرة طوال الطريق بما ينضم إليه من جموع الوافدين من المجاهدين المتطوعين، وكانت التقارير تصل إلى عبد الملك السعدي عن طريق جواسيسه.
 
التحركات البرتغالية 
غادر جيش الحملة الكبرى العاصمة البرتغالية في 24 يونيو 1578 م يحمله عدد كبير من القوارب والسفن قاصدة مرفأ "لاكوس" على بعد مئتي كيلومتر من لشبونة، وأقام الجيش أربعة أيام واندس إليه بعض جواسيس الملك السعدي، تحركت السفن نحو "قادس" ومنها تم عبور الحملة إلى مدينة "طنجة" حيث رست السفن في اليوم الثامن من يوليو وكان المتوكل بانتظار وصولها، تابعت السفن إبحارها إلى ميناء أصيلة حيث كان المتوكل قبل خلعه قد مكن البرتغاليين من الاستيلاء عليها.
 
نزل الجيش إلى البر المغربي وانتشرت قطعانه في اتجاه القصر الكبير حيث أقام معسكراته في الفحص، على مسيرة يوم واحد من القصر، كل هذا والسلطان السعدي عبدالملك ما يزال في مراكش، استبطأ الناس وصوله وعم بعضهم الخوف من مداهمة الجيوش الزاحفة لهم وعزم بعضهم على مغادرتها إلى الجبال للتحصن، ولكن الشيخ يوسف الفاسي طاف على السكان وحضهم على الثبات والصبر.
 
تأخر الملك السعدي بسبب مرض داهمه، وتخوف من انقضاض جيش الحملة على المدن والقرى شمالي المغرب وخشي أن تتوغل جيوش سبستيان في الأراضي المغربية، فيكسب سكانها الذي سيحاربون إلى جانبه بالإكراه، فكتب له المرة تلو المرة يستثير نخوته الفروسية وتمسكهم بأخلاق الفرسان، وكتب له: "ليس من الشجاعة ولا من روح الفروسية أن تنقض على سكان القرى والمدن التي في طريقك وهم عزل دون أن تنتظر أن يقابلك أمثالك من المحاربين، فإن كنت نصرانياً صادقاً فتريث ريثما أقصدك"، اقتنع الدون سبستيان بمضمون الرسالة رغم مخالفة حاشيته ومخالفة الملك المخلوع المتوكل لرأيه، فلم يتحرك من أصيلة وقضى فيها تسعة عشر يوماً.
 
أخيراً وصل الملك السعدي بجيوشه إلى القصر الكبير محمولاً على محفة بسبب المرض الذي منعه من ركوب فرسه، وكان يكتم آلامه لكيلا يؤثر على معنويات من حوله من القادة، إلى أن حط في القصر الكبير، ومن هناك كتب رسالة تشهد بعبقريته ودهائه حيث قال له فيها: "إني سرت ست عشرة مرحلة لملاقاتك، فهلا تسير أنت مرحلة واحدة لملاقاتي؟" وكان مشيرو الملك البرتغالي قد نصحوه بالبقاء في أصيلة لتصل الجيوش السعدية إليه فيتلقاها منهوكة القوى، ولكن الدون سبستيان أصر على رأيه وسقط في الشرك.
 
المكيدة في اختيار الميدان
نجح عبد الملك السعدي في أن يستجر خصمه إلى الحرب في الميدان الذي اختاره بنفسه، في سهل مثلث منبسط من الأرض، تكثر فيه الأنهار وتحيط به من ثلاث جهات: وادي "لوكوس" الذي ينصب في العرائش يمده من الضفة اليمنى وادي "ريسانة" ووادي المخازن، والوادي هنا معناه النهر، ووادي المخازن يمده من الضفة اليسرى وادي "وارور" ففي هذا المثلث المحاط بالماء من كل جانب، في ناحية من مدينة القصر الكبير، يمكن حصر الجيوش الغازية بحث لا تجد مكاناً للفرار إذا هزمت،  لو عبرت الماء سالمة فستجد البحر من جهة العرائش وهي بيد المسلمين ولا مدد للهاربين من قبلها ولا سفن لهم في مرساها لو هربوا من ميدان القتال، وهو ما كان مستشارو الملك سبستيان يخشونه، ولكن الملك البرتغالي بغروره ما كان يفكر في إمكانية وقوع الهزيمة وكان يتشوق إلى الحرب في ميدان فسيح يستطيع أن يصول فيه الفارس ويجول، ولذلك رحب باقتراح الملك السعدي.
 
تحركت طلائع الجيش البرتغالي إلى الميدان المرتقب للمعركة حيث أمر الملك سبستيان بعبور وادي المخازن عابرة قنطرة الوادي وهي الجسر الوحيد على ذلك النهر، وعسكرت قواته على ضفة الوادي اليسرى، في المثلث الذي تتألف زاويته الغربية من التقاء النهرين: وادي المخازن ووادي وارور، وكانت الجيوش السعدية قد وصلت أيضاً إلى هذا المثلث واتخذت مواقعها وراح الفريقان يستعدان لخوض المعركة صبيحة اليوم التالي.
 
وقائع المعركة الفاصلة
أمر عبد الملك السعدي أخاه الأمير أحمد بالسير في جنح الليل على رأس كتيبة من الفرسان لنسف قنطرة وادي المخازن، ونجحت المهمة بدون أن يشعر معسكر النصارى بما جرى، وبذلك تم حصار جيش الحملة إذا ما تقهقرت قواته، وفي صبيحة الإثنين 30 من جمادى الثانية 986 هـ، 4 الموافق أغسطس 1578 م اتخذت كل فئة مواضعها مقابل الفئة الأخرى، فأما الجيش المغربي فقد اصطف على صورة هلال في وسطه مضرب القائد العام عبد الملك السعدي، وكان على محفة مرضه وقد بلغ المرض منه مبلغه لكنه كان يتجلد ويتماسك ليقوي عزيمة رجاله، وكان يصدر التوجيهات والأوامر رغم عجزه الجسدي، وعند رأسي الهلال اتخذت كتائب الفرسان مواقعها، ونصبت المدافع في المقدمة وخلفها المشاة، وقد درب الرماة على النمط الإنكشاري.
 
أما الجيش المسيحي فقد اصطفت قواته على شكل مربع جعل في مقدمته جماعة الأفاقين البرتغاليين، وهم جماعة من أوباش الناس المغامرين المتشردين، واصطف المحاربون الألمان في اليمين، والأسبان والطليان يساراً، واتخذت الخيالة مواضعها في الجناحين، وانضم إليهم أتباع الملك السعدي المتوكل وهم ما بين الثلاثمئة والستمئة، أما الوسط فكان خاصاً بالرهبان والقسس إلى جانب عدد من النساء اللواتي يأخذهم الجيش المسيحي في حروبه كما جرت عادته.
 
وبعد أن أدى المغاربة صلاة الفجر وابتهلوا إلى الله أن يمنحهم النصر، صدر أمر الملك السعدي لجيشه بإطلاق النار وفي الوقت نفسه أطلق المسيحيون نيران مدافعهم وبدأت المعركة، وتقدمت جماعة الأفاقين في مقدمة الجيش المسيحي بهجوم كاسح على الجناح الأيسر للمسلمين، مما أصاب المسلمين بارتباك وتزحزحوا عن مصافهم، وكان الشيخ أو المحاسن الفاسي في ذلك الجناح فصمد ومن حوله، ولكن الضربات توالت قوية على الجيش المسلم، خشي الملك السعدي أن يسفر ذلك الهجوم على الطرف الأيسر عن انكساره فقام من محفته واستل سيفه شاقاً طريقه للجناح الأيسر، ورآه المحاربون المسلمون فاشتدت حماستهم وجرت معركة شديدة للغاية مالت لصالح المسلمين شيئاً فشيئاً.
 
عندما اطمأن عبدالملك لثبات مسيرة جيشه رجع لمحفة مرضه وهو في ذروة الإنهاك ليلفظ أنفاسه الأخيرة وقد وضع إصبعه على فمه موصياً خادمه رضوان بكتمان خبر موته لئلا يتسرب الوهن لنفوس المسلمين، فكان الخادم يوالي الخروج والدخول من خيمة السلطان ليعطي الأوامر باسم الملك السعدي، اشتدت ضراوة المعركة واستشهد ألوف المجاهدين حتى أدرك النصارى عقم محاولاتهم لتدمير المقاومة، كان جناحا الهلال الذي تشكل به جيش المسلمين يتقاربان ويتجمعان ويلتفان حول مقاتلي النصارى ويسحقان ما بينهما سحقاً، وتراجع الجيش النصراني حتى عندما أشرفوا على وادي المخازن لم يجدوا القنطرة التي عبروا عليها منذ يوم واحد، فألقى الكثيرون بأنفسهم في مياه النهر وعامت آلاف الجثث على سطحه.
 
أما اللورد سبستيان فالمؤرخون يؤكدون أنه قاتل بشجاعة منقطعة النظير قبل أن يسقط مضرجاً بدمائه، وأما المتوكل السعدي المخلوع فقد شوهد غريقاً  ونقل لخباء الملك السعدي الجديد السلطان أحمد المنصور، أخو عبد الملك، فأمر بسلخ الجثة وحشوها تبناً ليطاف بها في أرجاء المملكة المغربية، ومنذئذ أصبح اسم المتوكل "المسلوخ"، وبهذا انتهت معركة وادي المخازن بموت ثلاثة ملوك وبإبادة شبه كاملة لجيش الحملة العدوانية، حيث قدر عدد قتلاه بثمانين ألفاً، وحصل المسلمون على غنائم لا تحصى  لم يكن قط مثلها في المغرب إذ لم يسبق للنصارى أن داهموا المغرب بمثل هذه التجهيزات والعتاد، وتم أسر أربعة عشر ألف أسير كسبت الدولة من افتدائهم أموالاً لا حصر لها، أما جثة الملك سبستيان فقد سلمها الملك السعدي أحمد المنصور للبرتغاليين دون مقابل.
 
هلاك الملوك الثلاثة
سميت هذه المعركة بمعركة "الملوك الثلاثة" حيث لقي فيها ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد الملك، وسبستيان ملك البرتغال، والمتوكل، ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال في هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد، تدخلت القوات الإسبانية في اليوم الثالث من المعركة بدعوى حماية القواعد البرتغالية الأربع: سبتة وطنجة وأصيلا ومازكان من الهجومات السعدية، كما استغل فيليب الثاني ملك إسبانيا الفرصة وقام باحتلال الإمبراطورية البرتغالية سنة 1580 م وورث أحمد المنصور العرش السعدي في فاس.
 
أسباب النصر
هناك أسباب أدت للنصر في المعركة منها قضاء عبد الملك السعدي على التمزق والفوضى والاضطراب، وجمعه شمل القبائل تحت رايته، وإعانة الحركات الدينية بتوعية الناس والدعوة للجهاد، وبذلك أصبح المغرب يداً واحدة، كذلك تكوين الجيش (السعدي) والسهر على تنظيمه وتدريبه، وتزويده بأحسن السلاح حيث أنشأ معامل للسلاح والذخيرة في فاس ومراكش وتارودانت، معتمداً في إنتاجها على معادن البلاد لاسيما النحاس وذلك ما يدل على محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، يضاف إلى ذلك جموع المجاهدين الزاخرة وشجاعة المغاربة المعروفة حتى اليوم، وكذلك تعزيز القوة العسكرية التي تفوق سلاح الفرسان في كثرته وسرعة حركته، وأيضاً التخطيط الدقيق لكل مراحل المعركة وعملياتها، واستفادة الملك السعدي من خبراته الكثيرة ودهائه وفهمه لنفسية الملك البرتغالي الشاب المتهور، بالإضافة إلى شخصية الملك البرتغالي الدون سبستيان حيث كان شاباً صغير السن ذو ذهنية متعصبة، حالمة غير واقعية، مفتونة بأخلاق الفروسية وتقاليدها، كما أن حظه من الخيال كبير ومن العقل فقير، لم يخض أي تجارب.
 
نتائج المعركة
كانت معركة وادي المخازن من المعارك الحاسمة في تاريخ العروبة والإسلام، وقد حفظت انتصاراتهم فيها عروبة الشمال الأفريقي وإسلامه، ولولا أنهم سحقوا مطامع البرتغاليين لانحسر الإسلام عن المغرب العربي وسقط تحت الاحتلال المسيحي، ولهذا فالمؤرخين المغاربة يشبهون نصر المسلمين في وادي المخازن بنصر المسلمين في بدر الكبرى.
 
والحق أن انتصار المغاربة من حيث نتائجه يشبه نصر المسلمين الأوائل على المشركين في معركة بدر لأن معركة وادي المخازن أوقفت الحملة الصليبية التي أرادت اكتساح العالم الإسلامي، فعم الفرح أوساط العالم الإسلامي كله، وأرسل الملك السعدي الجديد كتباً للملوك يزف إليهم هذا الخبر، وتلقى الأتراك العثمانيون الخبر بالرضى والابتهاج، وكانت مكاسب المغرب كبيرة فقد أعاد للشعب المغربي ثقته وقدرته على تدمير كل الحملات، واستقبل المغرب تحت حكم المنصور السعدي فترة من النهضة وعم الرخاء بانتشار التجارة والصناعة وبرزت حركة عمرانية تشهد مآثرها الباقية إلى اليوم برقي الفن المغربي في ظل السعديين.
 
وأدرك الأتراك العثمانيون أن المغاربة حريصون على استقلالهم السياسي فلم يحاولوا بعد معركة وادي المخازن مد سيطرتهم للمغرب، لذلك ظلت الأصالة العربية في جميع المجالات حية في المغرب،  احتفظت اللغة العربية بكل مقومات صفائها ولم تشبها العجمة والركاكة.
 
وبانهزام البرتغاليين في وادي المخازن بدأت كتائبهم تنهار في الخليج العربي إذ منذ (القرن العاشر الهجري /السادس عشر الميلادي) حاول البرتغاليون الاستعماريون سد البحر الأحمر في وجه السفن العربية على مداخله تمهيداً لغزو الخليج العربي، ولكن بعد مرور سنتين على انهزام البرتغال في معركة وادي المخازن، أي عام 1580 م، بدأ وجود البرتغال يتقلص في مستعمراته في المحيط الهندي بعد أن تلقت قطعه البحرية ضربات قاضية من طرف الأسطولين الإنجليزي والهولندي، وكانت صلاته بلشبونة قد انقطعت فتوقف ما كان يتلقاه منها من عدة وعدد؛ كما تضعضعت قواعده بالقارة الإفريقية التي كانت جيوشه تنحدر إليها من الخليج عن طريق بحر القلزم (البحر الأحمر) وشعر المغرب بخطورة احتواء فلول البرتغاليين لحدود المغرب الجنوبية، وأهمها مالي، فاحتلها حماية لها وقطعاً لدابر البرتغال وبذلك انقطع عن فيالقها في الخليج ما كانت تتزود به من مستعمراتها الإفريقية. 
 
وتم بعد هذه الفترة إجلاء البرتغاليين عن منطقة البحرين التي احتلوها قرناً كاملاً إلى (عام 1032 هـ/ 1622 م)، أي بعد معركة وادي المخازن بأربع وأربعين سنة، كما طرد البرتغاليون عن مجموع مستعمراتهم على الشط العربي عام 1059 هـ / 1649 م، وبذلك تحرر العالم العربي من هيمنة البرتغال الذين لطخوا تاريخ العروبة والإسلام طوال أربعة قرون.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره