مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-07-08

تأملات في التحدي الصيني والحرب الباردة الثقافية

يحتفظ الصينيون بهذه الوصية عن الزعيم الإصلاحي دينغ شياو بينغ، "فلنعمل على إخفاء نورنا وانتظار مجيء وقتنا”، أي عدم جذب كثيرٍ من الانتباه، وفي الوقت نفسه، العمل على تراكم نقاط القوة الصينية.
 
بقلم: منصور النقيدان
   واليوم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها صعود قوة عالمية عظمى هي الصين، وجاءت جائحة كورونا لتكشف قدرة كلتا الدولتين العظميين على مواجهة الأزمة وتبعاتها، ويبدو أن أميركا وحلفاءها الأوروبيين يعانون من إنهاك ويتمتعون بلياقة أقل وألق أضعف ومرحلة من انحسار الإلهام وتضعضع الحلم الأمريكي أكثر من أي وقت مضى. وبالتوازي مع هذا التحول الجيوسياسي الهائل تبدو روسيا اليوم في لحظة من الانبعاث لايمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بما كانت عليه هذه الدولة عام 1999،  حيث ورثت إمبراطورية الاتحاد السوفيتي وتحملت النتائج المدمرة لتفككه.
 
    كانت الأجندة الثقافية في صدارة برامج  وكالة المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية في فترة الحرب الباردة التي سادت قرابة أربعين عاماً حتى سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي. فهل يمكننا تصور حرب باردة ثقافية أمريكية صينية على غرار ماعرفه العالم بين المعسكرين الشرقي والغربي؟ وتبدو الصين التي كانت على مدى قرون طويلة أشبه بحضارة مستقلة، شبه مكتفية بذاتها، أمة من أكثر من مليار إنسان بمساحة جغرافية تفوق الولايات المتحدة الأمريكية، ولاتزال الصين منذ 1949 يحكمها حزب شيوعي. ومع ثورة المعلوماتية  نهجت الصين الشعبية الانفتاح النسبي والقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية على الإنترنت والمؤتمرات التي تخاطب فيها الصين العالم بلغاته المتعددة، وتغرقه في الوقت نفسه بمنتجاتها،  إلا أنها لاتزال أكثر غموضاً وإثارة للريبة والشكوك، كما تسببت إدارة الحكومة الصينية لجائحة كورونا منذ اليوم الأول، وصمتها أسابيع كان ملايين الصينيين يجوبون فيها العالم، بتخوف وقلق عالمي إزاء الغموض والتشافي المبكر الذي عملت الدعاية الصينية على التباهي به.
 
       وبالرغم من أن الصين اليوم هي أكثر انفتاحاً على العالم من أي وقت مضى في التاريخ، إلا أن عدم ازدراد الصين وعسر هضم ثقافتها يشيد سوراً نفسياً يحول دون الارتياح من أن تأخذ هذه القوة الكونية مكانها لقيادة العالم في العقود المقبلة، وهو حاجز تمتد جذوره إلى عشرات القرون من التجربة الإنسانية، وسمحت هذه الشكوك بخلق ذريعة من الأوهام تنسج في وجه طوفان من الاكتساح للعرق الأصفر الذي أطبق على العالم اقتصادياً وأمسك بمفاصله ممثلاً شرياناً وجودياً لعالم كسول مريض بالاستهلاك، وثدياً من التدفق الصناعي العارم يبدو أن البشرية غير مهيئة بعد على فطامه، حتى لتلك المجتمعات التي ترى في نفسها ضحية لسوء إدارة الصين في التعامل مع الجائحة، مع شعور متناقض يتلاطم في مخيالها السياسي  يمثل مزيجاً من الإعجاب والخوف والشعور بالخيانة، والعجز عن الاستغناء فضلاً عن المنافسة. 
 
     وفي الوقت نفسه تجد مجتمعات تنتمي إلى الفضاء الإبراهيمي، وهو كتلة بشرية تتجاوز نصف سكان العالم تقريباً، ممتد من إندونيسيا حتى الأمريكتين صعوبة في فهم هذه الثقافة. 
    بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عرف العالم حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقادت أميركا حربها الطويلة ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي. خرجت أميركا من الحرب قوة عظمى عسكرياً واقتصادياً. ولد  “الكونجرس/ المنظمة الدولية للثقافة والحرية” بتمويل هائل من المخابرات الأمريكية CIA، واحتوى هذا المشروع مئات المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين، وأصدر عشرات المجلات والدوريات والمعارض، بخمسة وثلاثين مركزاً حول العالم، وتكونت شبكة محكمة من البشر الذيـــــن يعمــلـــــون بالتـــــوازي مــع الـــ«CIA» لـ”تمحـــو من الأذهــــان فكــــــرة أن أمريكا صحراء ثقافية وتزرع فيها فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة الى سلام أمريكي والى عصر تنوير جديد وأن ذلك كله سيكون اسمه القرن الأمريكي”. عاش هذا المشروع قرابة عشرين عاماً. ولكن الحرب الباردة لم يعلن انتهاؤها رسمياً حتى أوائل التسعينيات لحظة تفكك الاتحاد السوفيتي. وتواجه الولايات المتحدة الأمريكية نسخا جديدة محوَّرة من اليسار تعم العالم وتنتعش في أوقات الأزمات. 
في عالم يعاني من هذه العلل كيف يمكننا أن نتصور أن يخوض العالم الغربي حربا باردة ثقافية ضد الصين؟! هل يمكن تكرار ماحصل؟ هل يمثل ذلك مأساة أومهزلة؟
 
     اليوم بعد ثــلاثــة عقود، تــواجــــه الولايــــــــات المتحــدة الأمريكيــة صعود قوة عظمى أكثر تحدياً اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، كما تواجه تحدياً آخر أقل خطورة يتمثل بصعود جديد لروسيا التي باتت الآن على مرمى حجر من حدود أوروبا شرق المتوسط وجنوبه. عقب الحرب العالمية الثانية نهضت أمريكا بأوروبا وأعادت إعمارها ، لتكون أكثر قوة وصلابة أمام الاتحاد السوفيتي، غير أن المفارقة اليوم أن أوروبا هي الآن في أكثر حالاتها ضعفاً وهشاشة، وكانت مواجهة إيطاليا للجائحة وتخلي أوروبا عنها، ومد الصين وروسيا يدها إليها لحظة كاشفة معبرة عن مستقبل أوروبا، كما مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضربة قاصمة أكثر إيلاماً.
 
   ويبدو الروس مع بوتين أكثر خشونة وأكثر اعتداداً بأنفسهم واكثر فخراً قومياً، غير أن الأهم أنهم أكثر تقارباً مع الصينيين وتنسيقاً، مع  قناعة تزداد رسوخاً بأنهم في حاجة ملحة لشراكة إستراتيجية مع الصين وعقد تحالف معهم في مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على النظام المالي، وضرورة خلق عالم سايبراني تقصر دونه اليد الطولى للعم سام. وفي السنوات الأخيرة تكثر المناسبات التي يحذر فيها خبراء روس عبر حوارات متعددة وفي محافل دولية ولقاءات صحفية بأن أميركا قادرة على أن تشل النظام المصرفي الروسي، وإدراك الروس لهذا العجز يجعلهم قلقين للغاية، “فما جدوى أن تنافس عسكرياً في الوقت الذي يمكنك أن تواجه شللاً في عصب الاقتصاد وتدفق المعلومة؟!”  حسب خبير روسي في مقابلة مع صحيفة روسية في ديسمبر الماضي مشيراً بشكل ساخر إلى أن “روسيا قوة عظمى ولكن ضعيفة”. وفي هذه اللحظة فإن الصراع الصيني الأمريكي يلقي بظلاله الكئيبة على حلفاء الولايات المتحدة  في الشرق الأوسط والخليج أسوة بأوروبا الواهنة، الذين وجدوا أنفسهم أمام ضغوط أمريكية لاسابق لها لتحديد موقفهم من الصين واتخاذ خيارات سيكون لها نتائج مدمرة على شراكاتهم الاقتصادية مع الصين.
 
      اليوم يبدو أنه ليس بيد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا  ذلك العنفوان والعلو والكبرياء الذي تلبسها قبل سبعة عقود، كما أن الألق والإغواء الذي مثلته الرأسمالية وعقر دارها متجسداً في الحلم الأمريكي ليس سهل المنال اليوم ولا من اليسير ابتكاره كرة أخرى. قبل قرابة تسعين عاماً كان الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون لايخفي إعجابه  بالعرق الأنجلوساكسوني، جاعلاً من الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً على عظمة الأمة اليافعة  المتوثبة، مقارناً بينها وبين الإيطاليين المهاجرين الذين يمكنهم أن يموتوا جوعاً وهم يواجهون التحديات الوجودية الهائلة للمهاجرين الإنجليز الأوائل إلى العالم الجديد.
 
 ومع أن التاريخ أحياناً  يكون كريماً محابياً للحضارات التقليدية الكبرى، إلا أنه على الدوام يكاشفنا بأنه لايمكنك «أن تأخذ زمانك وزمان غيرك». مثلت الصين لقرون لغزاً وعالماً غرائبياً، نستقي الحكمة من عظمائها، مستأنسين باعتقاد جامد ومتخشب بأن الصين ليست سوى أمة خاملة نائية منكمشة على ذاتها، وكان هذا الاعتقاد بمثابة الإغواء الخاطيء الذي تدفع اليوم القوة العظمى وحلفاؤها ثمنه.  واليوم تمثل رؤية الصين للشراكة العالمية عبر طريق الحرير والحزام ذروة التجلي لعظمة هذه الأمة. وفي يونيو الماضي قالت أوريانا سكايلر ماسترو، الأستاذة المساعدة في جامعة جورجتاون التي تدرس السياسة الأمنية الصينية في تعلىق لوول ستريت جورنال « إن الصين “تحرز الكثير من التقدم؛ لأن لديها الكثير من الموارد”؛ لكن نهجها لم يكسبها الكثير من الأصدقاء».
 
    كتب نيال فيرجسون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد في مقالة نشرها في الفورن إفيرز العام 2015   أن  كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي «قد فهم أنه على الرغم من طابعها الثوري الواضح، فإن جمهورية الصين الشعبية قد تدخل في ميزان القوى وأن العداء الصيني السوفييتي يمكن استغلاله من خلال تقريب الولايات المتحدة من كل طرف من الأطراف المتنافسة أكثر من تقاربها من بعضها البعض». 
 
  وبالنظر إلى خمسة عقود تصرمت، فإن الصين وروسيا هما اليوم أكثر تفاهماً وتنسيقاً من أي وقت مضى.
 
    في القرون الوسطى قال صوفي عظيم هو الشيخ الأكبر ابن عربي : « إن التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لايعول علىه». من المستبعد أن يستمر العالم الغربي بقيادة أمريكا مهيمنا في العقدين القادمين، أو يعيد خلق نفسه طوداً شامخاً دون المارد الذي يبدو أنه يعيش لحظته، كما أن التاريخ نفسه يمنحنا دروساً كبيرة ومُمِضَّة مثيراً جرحاً نرجسياً عميق الغور حول معنى التاريخ ومجراه، مختزلاً دروسه بوعينا لمعنى لحظات الغسق والغرق في مجاهل التاريخ، وساعة الحظ والانبعاث والاجتيـاح البطيء الـذي يشـابـه أثــــره النفســــي الهـائــــل جســداً أصيـــب بالشـــلل مرتكــــن إلى منســـأة تأكلهــا دابـــة الأرض،  وهـي دروس لاتعرف المحاباة.
 
    وفيما يخصنا نحن، فإن كون العرب والمسلمين لقرون عديدة منذ فجر الحضارة الإسلامية وعصر الفتوح حتى ذروة ازدهارها كانوا «أقلية في المناطق الشاسعة التي خضعت لهم» حسب الفيلسوف المغربي عبدالله العروي، يعطينا إجابة من جوف التاريخ أن الانسجام واستيعاب وفهم ثقافة أمة صاعدة وقوة عظمى ناهضة والانجذاب إليها هو كالجهل بها أو أو تجاهلها وعدم ازدرادها حينما تجد الشعوب والمجتمعات نفسها طمياً في مجرى طوفان هـذه القـوة  وفيضـــــانهـــا المكتسح. 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره