مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-10-03

أسامة بن لادن لا يزال حيًا

للوهلة الأولى، قد يظن قارئ عنوان المقال أن «أسامة بن لادن» لا يزال حيًا يُرزق، وأن جُلّ التفاصيل والملابسات التي أحاطت بالعملية العسكرية «رمح نبيتون» (Operation Neptune Spear) بقيادة الاستخبارات المركزية الأمريكية في مطلع مايو 2011 بمدينة أبوت آباد الباكستانية، وما تلا ذلك من إلقاء جثته بالبحر- للحيولة دون تحوُّل مراسم عملية استلام جثته إلى جنازة حاشدة للإسلامويين التكفيريين حول العالم، أو تحوُّل قبره لقبلة للراديكاليين أو المتعاطفين مع هذا الفكر أو شخص «بن لادن» أو جعل قبره شاهدًا على فشل الاستخبارات الأمريكية الأقوى في العالم في إحباط مثل تلك الهجمات-  من نسج الخيال، وأُريد بها فقط تخليد اسم الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما» باعتباره الرئيس التي استطاع أن يأثر لبلاده واحد من أخطر الإرهابيين الإسلامويين، إنْ لم يكن الأخطر على الإطلاق آنذاك.
 
إعداد: جهاد عمر الخطيب 
باحثة في العلاقات الدولية
 
وتلك المزاعم اتسقت وحياة «بن لادن» التي زخرت بالإثارة والغموض والمغامرة؛ لذا تطل علينا تقارير بين الفينة والأخرى تؤكِّد أن «بن لادن» حي يرزق، وأن كل ما أُشيع حول ملابسات مقتله محض هُراء، وكل ما هنالك أنه يخضع للاعتقال أو الإقامة الجبرية، وهي ذات التقارير وربما يرددها ذات الأشخاص بشأن إعدام الرئيس العراقي السابق «صدام حسين»، وكثيرًا ما تصدَّرت عناوين صحفية ومقاطع فيديو بشأن العثور على شبيه لـ «صدام»، وربما يُعزى هذا الأمر سيكولوجيًا إلى حالة من الإنكار تكتنف أولئك - المروِّجين لمثل تلك المزاعم- إزاء فكرة موت من يتصورونهم «أيقونات» للقوة والسلطان، وكأنهم بمنأى عن المصير الحتمي الذي قُدِّر للخليقة جمعاء، أو ربما جاء ذلك رغبةً في إثارة الرأي العام العالمي على غرار تغريدة سابقة للرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، والتي شكَّكت في رواية الاستخبارات الأمريكية بشأن قتل «بن لادن»، باعتبارها مُختلقة. 
 
وليس المقال بصدد مناقشة تلك المزاعم أو حتى دحضها؛ ذلك لأنه ينطلق من فرضية رئيسة وحاسمة مفادها أن «أسامة بن لادن» قد قُتِل، وأن الأحداث الدرماتيكية التي تابعها العالم عن كثب في أغسطس الماضي حينما سقطت العاصمة الأفغانية كابول في يد طالبان، وذلك بالتزامن مع الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومن قبلها الذكري العاشرة لمقتل «أسامة بن لادن» تدفعنا بالاتجاه نحو العودة ربما لخطوات إلى الوراء، وتدبُّر الإرث الذي خلُّفه «بن لادن»، وهو إرث جد ثقيل، يجعلنا نقول صراحةً أن «أسامة بن لادن» لا يزال بيننا، تقتات على فكره أجيال وأجيال من التنظيمات الجهادية الإرهابية.  
 
أسامة بن لادن.. أيقونة المشهد الجهادي التكفيري
حينما تحل الذكرى السنوية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر كل عام، دائمًا ما تثور التساؤلات بشأن العوامل التي أفضت إلى تخليد تراث «أسامة بن لادن»، ولعل تلك التساؤلات قد بلغت ذروتها هذا العام – على وجه الخصوص- إثر الانسحاب الأمريكي النهائي من أفغانستان، وسقوط كابول المدوِّي في قبضة طالبان، الأمر الذي اعْتُبر إيذانًا بنهاية الحرب الأمريكية على الإرهاب العالمي؛ إذ لم توتِ هذه الحرب أُكلها في إنهاء أسطورة «بن لادن» أو وضع حد لاستنساخ تنظيمات مشابهة لتنظيم القاعدة، حتى وإن تباينت معها في الأيديولوجية أو كفَّرت بعضها البعض. 
 
وتبيانًا لما سلف، نجد أن ثمَّة عوامل قد دفعت بالاتجاه نحو استمرار تداوُل الإرث الثقيل لـ «بن لادن» - رغم مقتله منذ ما يربو على العشر سنوات - حتى يومنا هذا باعتبار صاحبه «الأب الروحي» للتنظيمات الجهادية الإرهابية التي أفرزتها ظاهرة «الأفغان العرب» ممن حاربوا الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن المنصرم، ولعل أبرز هذه العوامل ما يلي:
 
جاذبية النموذج: لا يزال النموذج الذي قدَّمه «أسامة بن لادن» ملهمًا لمعتنقي الفكر الإسلاموي الإرهابي؛ إذ استطاع «بن لادن» طوال حياته – وبعد مقتله – إثارة الحماسة لدى عناصر التنظيمات الجهادية بحقيقة كونه الملياردير الذي رغب عن حياة الدعة والرفاه، وزهد في ثروته الطائلة التي بلغت حوالي 300 مليون دولار وفقًا لعدة تقديرات، ووهبها لتسليح المحاربين من الأفغان العرب ضد السوفيت حتى بزوغ نجم التنظيم الذي أسَّسه (تنظيم القاعدة)، ليتحول الملياردير «أسامة بن لادن» - الذي درس الهندسة المدنية - إلى حياة الكهوف والمطاردات، واستطاع «بن لادن» بهذا النموذج أن يتمكَّن من تجنيد الأتباع في دول أخرى غير أفغانستان من قبيل البوسنة والهرسك والشيشان والصومال وغيرها ممن أبهرهم نموذجه، وحشدهم لمعركته ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يُقدِّم نموذجًا للشجاعة والبطولة وإنكار الذات في سبيل هدف أسمى وهو الجهاد العالمي.
 
الكاريزما والحضور الطاغي: حرص «أسامة بن لادن» على الظهور من خلال مقاطع الفيديو بمظهر يدل على الهدوء والرزانة، وهو أمر مغاير تمامًا للصورة الدموية المروعة الذي درج تنظيم داعش – على سبيل المثال – على تسويقها حينما نعيد متابعة مثل تلك المقاطع مجددًا. فـ «بن لادن» الذي كان يظهر في كهف مرتديًا سترة (جاكيت) مموهة كان يتمتع بقدر كبير من الثقة والجاذبية، وهي الصورة التي علقت في أذهان الكثيرين، وحرص «أسامة بن لادن» في خطاباته إلى توجيه حديثه للمجتمع الإسلامي العالمي «الأمة»، وتسليط الضوء على مظالم عانى منها هذا المجتمع إبَّان الحقبة الاستعمارية – اتفاقية سايكس بيكو على سبيل المثال- وعلى مر العصور، وذلك بوضعها في سياق الحرب الأيديولوجية بين الإسلام والغرب. هذه الكاريزما النادرة لأسامة افتقدها خليفته «أيمن الظواهري»، والتي وُصف دائمًا بالفتور وغياب الكاريزما. 
 
تحدي القوة الأولى في العالم: لعل أبرز الأسباب التي منحت «بن لادن» شهرة واسعة هي قدرته على تحدي السوفييت أثناء غزوهم لأفغانستان ثم الولايات المتحدة بتدبيره لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو الهجوم الإرهابي الأكبر في التاريخ الأمريكي، والذي راح ضحيته نحو 3 آلاف أمريكي دفعة واحدة. 
 
ورغم أن بعض منظري الفكر الجهادي المتطرف أمثال «أبو مصعب السوري» ارتأوا أن تلك الهجمات إنما تمثِّل «حماقة استراتيجية»، وإحجام التنظيمات الإسلاموية عن تكرار مثل تلك التجربة، لكنها شكَّلت – ولا تزال – نموذجًا ملهمًا لتحدي «بن لادن» الولايات المتحدة في خضم تفرُّدها بقيادة العالم، وضربها في عقر دارها، فضلًا عن نجاحه في جرِّها إلى حرب «أبدية» أثبتت الأيام أنها خاسرة لا محالة، وكلَّفت واشنطن ما يربو على 2 تريليون دولار على مدار عقدين من الزمن، وكذا نجاحه في تحويل الإرهاب الإسلاموي إلى هاجس أصاب الإدارات الأمريكية المتعاقبة، كما أن التحركات الأمريكية التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر من قبيل غزو أفغانستان ثم العراق أفضت إلى تعزيز شعبية «بن لادن» وخلق مزيد من المتعاطفين معه. 
 
توافُق يتجاوز التنظيمات والأجيال: تأسيسًا على العوامل السابقة، استطاع «أسامة بن لادن» أن يحظى بتوافق نادر من قِبل الأجيال المختلفة من الجهاديين الإرهابيين قلَّما تحظى به شخصية جهادية، واللافت أن شخصية «بن لادن» تحظى بشهرة واسعة لدى الجيل Z (المصطلح الذي يُطلق على مواليد أواخر التسعينيات، والألفينيات) ممن عاصروا «بن لادن» في صغرهم أو لم يعاصروه على الإطلاق. وعلاوةً على ذلك، فإن التنظيمات الإسلاموية أمثال تنظيم داعش وغيره – ورغم خلافاتها الأيديولوجية وصراعاتها الميدانية مع تنظيم القاعدة- لكنها لا تزال تُبَجِّل «بن لادن» بل وكفَّر عناصرها الظواهري - الذي دعا للرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي- بأن يفك الله أسره لإنحرافه عن الفكر الذي أرسى قواعده الزعيم «أسامة بن لادن».
 
ولا أدل على ذلك من الكتيب الذي نشرته مؤسسة «أشهاد الإعلامية» التابعة لداعش بعنوان «الرد القاصف على شيوخ القاعدة الخوالف»، والذي أورد مؤلفه «أبو البراء اليماني» التباينات بين تنظيم القاعدة تحت إمرة «أسامة بن لادن» والتنظيم ذاته بقيادة «الظواهري»، مؤكدًا أن السواد الأعظم من عناصر داعش كانوا من أتباع القاعدة في عهد بن لادن، لكن القاعدة بعده باتت تخدم «الكفر لا «الجهاد» العالمي.
 
حرب بالسلاح لا الأفكار: بجانب العوامل سالفة الذكر، والتي أبقت على إرث «أسامة بن لادن» رغم مقتله، يتراءى أمامنا عاملٌ آخر لا يقل في تأثيره وخطورته عمَّا سبق التطرُّق إليه من عوامل ارتبطت بشكل وثيق بشخصية «بن لادن» ألا وهو إخفاق الحرب على الإرهاب العالمي، والتي شنَّتها إدارة «جورج دبليو بوش» كرد فعل مباشر وفوري على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وقسَّمت العالم آنذاك لمعسكرين؛ المعسكر المؤيد لتلك الحرب (من معنا)، ومن ليس معنا، فهو ضدنا أي ضد الإدارة الأمريكية.
 
وظلَّ الإرهاب هاجسًا مصاحبًا لإدارتي «بوش الابن» و»باراك أوباما» بصفة خاصة، ودارت في فلكه السياسة الخارجية الأمريكية التي ارتأت أن حماية الأمن القومي الأمريكي من وقوع تلك الهجمات مرة ثانية إنما تنصرف إلى شنّ حملة عالمية واسعة النطاق على الإرهاب، بل ونشر «الديمقراطية» وبناء الدولة الوطنية في الشرق الأوسط؛ ومن هنا جاء التدخل العسكري المباشر في كلٍ من أفغانستان والعراق ثم سلسلة الانخراط والتدخلات الأمريكية المباشرة التي أعقبت ما سُمي «الربيع العربي» في كلٍ من سوريا، وليبيا، واليمن، وهي تدخلات لم تؤدِ إلى نتيجة إيجابية سوى تفكيك الدول، وانزلاق المنطقة إلى الفوضى. وبالإمكان إجمال الأسباب التي قادت لإخفاق الحرب الأمريكية على الإرهاب في جني ثمارها المرجوة.
 
التركيز على الأداة العسكرية وحدها: استندت واشنطن على التدخلات العسكرية لمحاربة الإرهاب في أفغانستان والعراق، وعدد من الدول الشرق أوسطية، وتجاهلت أن دوران تلك الدول في حلقة مفرغة من الفقر والجهل وتردي الظروف المعيشية وتهميش بعض المكونات الاجتماعية يخلق مناخًا ملائمًا للركض وراء مشروع كإقامة خلافة إسلامية، واستنساخ نسخ عديدة من فكر وتراث «أسامة بن لادن» – وربما بشكل أكثر دموية ووحشية مثل داعش- سواء كان ذلك محاولة للتهرب من الواقع أو سعيًا لكسب الأموال.
 
سوء تقدير لحدود القوة الأمريكية: رافق حالة الغضب التي اعترت الأمريكيين - شعبًا وقيادة – عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر سوء تقدير للقوة الأمريكية، واعتقد صناع القرار أن بإمكانهم محاربة التنظيمات الإسلاموية الإرهابية في العالم أجمع في نفس الوقت، وبالتكتيك ذاته رغم أن لدى كل دولة خصوصية اجتماعية وتاريخية، ولا يمكن تجاوز السياقات التي في إطارها وُلِد التنظيم الإرهابي، ولكن بعد نحو عقديْن من الزمن، هدأت الغضبة الأمريكية، ووصلت واشنطن لحالة من التوازن دفعتها للعودة للوراء والتريث، وإعادة ترتيب أولوياتها في الداخل والخارج.
 
غياب استراتيجية واضحة ومحددة لحرب الأفكار: وهي نتاج منطقي للعامليْن السابقيْن، رغم الأحاديث الأمريكية التي ترددت بين الحين والآخر بشأن «حرب الأفكار» (War of Ideas)، فكان الارتكان وحده إلى الأدوات والتحركات العسكرية دفعت إلى إرهاب واشنطن لنفسها حيث تصاعد في الداخل الأمريكي سلسلة من الإسلاموفوبيا، ورُهاب الأجانب (Xenophobia)، والنزعات الشعوبية واليمينة المتطرفة.
 
وصفوة القول، يتعيَّن أن تكون الحرب على الإرهاب حرب «أفكار» لا «بنادق» تستهدف تقويض إرث «أسامة بن لادن» وغيره من الشخصيات الجهادية التكفيرية بتفنيده ودحضه وتفكيك هذا الفكر وإجتثاث جذوره من الأساس، وهي حرب تتقاسم الدول جميعًا المسؤولية في إنجاحها، وإلا فإن الحرب على الإرهاب لن يُكتب لها سوى الفشل الذريع، وهذا ما أثبتته التجربة الأفغانية.
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره