مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-08-06

إضاءات حول إستراتيجية المعرفة العسكرية

لقد ملأ المؤرخون العسكريون رفوف المكتبات بكتب ومؤلفات عن (ثورات في شؤؤن الحرب) وتستخدم كلمة (ثورة) غالباً بالنسبة للتغييرات التكنولوجية، وعلي سبيل المثال دخول البارود والطائرة والغواصة، وباعتراف الجميع أدت تلك الأمور إلي تغيير حقيقي في الحرب، وفي حياة البشرية. 
 
 
 بقلم: اللواء الركن (م) / خالد محمد عابدين 
ولقد ظهرت الثورات العسكرية مرتين في التاريخ من قبل، وهناك أسباب قوية للاعتقاد بأن هذه (الثورة الثالثة) التي بدأت منذ النصف الأخير من القرن العشرين بأنها أعمق هذه الثورات العسكرية، حيث نرى أن العوامل المتغيرة في الحرب أوما يسمى بـ (أرومترات الحرب)  قد وصلت إلي أقصي نهاياتها في لحظة واحدة من التاريخ (النصف الأخير من القرن العشرين)، وهذه العوامل المتغيرة هي (المدى، درجة ومستوي القتل والسرعة) فالجيوش التي تصل أبعد وتضرب بقوة تنتصر، والجيوش الأبطأ والأقل تسليحاً تهزم.
 
ركز الجهد الابتكاري لعمل الإنسان والمفكر العسكري علي مدي السلاح وزيادة السرعة وقوة النيران،  وهذه الحقيقة التي تصوغ لنا مصطلح (الثورة) في شؤون الحرب والمعلومات التي تحدث والتحول للأسلحة الذكية. 
 
تزايدت أهمية المعرفة في (الحرب والحياة المدنية) علي حد سواء في هذا العصر، حيث دخلت المعرفة بصورها المختلفة المجال العسكري وأحدثت تغيراً في العقيدة العسكرية وفي طرق وأساليب التدريب والتعليم،  فإذا كان (إقتصاد المعرفة) يتطلب عمالة علي درجة عالية من الذكاء والمعرفة،  فإن أسلحة المعرفة وذخائرها ومعداتها الذكية التي ينتجها (إقتصاد المعرفة) بالتوازي تحتاج إلي  ضباط وجنود يستخدمون عقولهم ويقاتلون بطرائق جديدة.
 
إحتلت المعرفة دوراً أساسياَ في المؤسسات والمنظمات في كل الدول في القرن الحادي والعشرين تمثل في تفكير إستراتيجي تحليلي معرفي معلوماتي كإطار وميزة تنافسية كموضوع،  فتقليص الحجم يعني تقليص العمال،  ويعني تقليل التضخيم والتكثيف الذي يوازي تقليل القتل والتدمير في الحرب العسكرية بالأسلحة الذكية،  فالقيمة الأساسية لأي منظمة أو شركة ليس في رأس مالها ولا في موجوداتها المادية وخطوط تجميعها،  إنما في قيمها غير الملموسة والمحسوسة .
 
تعلقت المعرفة (بمعالجة المعلومات) وهذه المعالجة أحد عوامل المعرفة العسكرية،  ومما يدهش أن عوامل المعرفة موجودة داخل دورة الإستخبارات في جانب المعلومات،  فالمعالجة تتم بالربط بين المعلومات والحقائق الماثلة بتفكير مستقبلي وبالتالي هي عملية تحسين وتطوير للتفكير والتخطيط والتحليل الإستراتيجي.
 
ما يجعل إقتصاد المعرفة الذكي سريع الخطي وإقتصاد ثوري حقيقي هو أن الأرض،  العمل،  المواد الخام ورأس المال يمكن اعتبارها محدودة،  أما المعرفة فليست محدودة ويمكن إستخدامها بواسطة عدة منظمات،  كما يمكنها إنتاج معارف أخري،  معرفة مكثفة،  معرفة مضادة،  معرفة مرنة ومعرفة منشقة .... الخ،   وبالتالي قيمة الشركات والمؤسسات الناجحة للموجة الثالثة من التغير الاقتصادي الكوني تكمن في قدرتها علي الحصول علي المعرفة وتوليدها وتوزيعها وتطبيقها إستراتيجياً وعملياً، لذا فالأفكار الخلاقة ونفاذ البصيرة والمعلومات في رؤؤس العاملين وبيانات البنوك وبراءات الإختراع هي المحور الأساسي للمعرفة.
 
يتجه العالم نحو نظم تسليح ذكية ونوعية لها قوة تأثير أكبر،  وتعمل بعدد أقل من العناصر،  كما تتجه العسكرية إلي القوي النوعية غير الملموسة،  كما في الإقتصاد القيم غير النوعية،  فلقد إقترب كثيراً اليوم الذي سيحمل فيه الجنود حاسبات إلكترونية أكثر من عدد البنادق،  فاليوم (تربة المعرفة) مهمة لجيوش الحاضر تماماً،  كما كانت جغرافية وطبوغرافية أرض المعركة مهمة لجيوش الماضي . 
 
ماهية ومفهوم المعرفة  
المعرفة هي الدراية،  أن تدري بكنه الشئ وجوهره الآية الكريمة ((وما يُدريك لعله يزكّى)) سورة عبس . الآية (3)،  فهي قديمة قدم الزمان وليس كما يدعي الغرب لها (بالحداثة)،  فالغرب نسي أو تناسبي خلال جيلين من الزمان المعارف القديمة للشعوب السابقة،  فلقد إكتسبت المعرفة الخاصية الثورية فهي ثورة عسكرية حدثت في شؤون الحرب،  ونقلت الحرب من الحرب التقليدية إلي الحرب في شؤون المعلومات.  
 
الخاصية الثورية للمعرفة
إكتسبت المعرفة الخاصة الثورية حيث يمكنها أن تمنحك (القوة) ويمكنها أن تسلبك (القوة) في نفس الوقت،  فهي اليوم يمتلكها الأقوياء والضعفاء علي حد سواء،  وهي بالتالي أكثر المصادر ديمقراطية لبناء قوة الدولة في كافة المجالات العسكرية والمدنية،  فالمعرفة قد تكون معرفة عادية،  وقد تكون معرفة مكثفة أو مضادة أو مرنة أو معرفة منشقة ولها ميادين ومجالات مفيدة للبشرية إن أحسن إستخدامها. 
 
مثلما جاءت الإستراتيجية من ثورة في (فن الحرب) وألهمت المجال العسكري والمدني ولا زالت ملهمة، جاءت ثورة المعرفة من ثورة شؤون الحرب،  وأخذت تلهم اليوم المجال العسكري والمدني بجانب الإستراتيجية العسكرية. وهنالك أسئلة مهمة قد تشغل بال القراء من العسكريين بقدر ما قد تشغل صناع القرار في الدولة والإجابة علي تلك الأسئلة قد تمكن الدولة من :  
 
أ. مواجهــــة متغـــــيرات وتداعـيات عصر مدنيــة المعرفـــة في كافـــــة مجالات الدولة.
ب. تصمــيــم أدوات الدفـاع والأمـن في أفــق المستقبل.
ج. معرفة التحول الذي حدث للتفكير والتحليل الإستراتيجـــي نتيجــة لهـذه الثورة .
د. معرفة التحول الذي حدث في القوة العسكرية والحرب غلي المستوي العالمي .
هـ. تحول القوي الإعلامية الإتصالية إلي قوة مؤثرة وفاعلة تفوق تأثير قوى الدولة الشاملة الأخري مجتمعة .
و. معرفة التغيير في نظام بناء القوة في النظام العالمي علي كل الأصعدة ومعرفة كيفية التعامل معه .
ز. في عصر المعرفة من الممكن تفادي الكثير من الأخطاء في التفكير والتحليل الإستراتيجي، لأن التفكير ولتحليل سيتبع إستراتيجيات المعرفة،  وطبيعة وأشكال الحروب اختلفت والأزمات إختلفت في أنواعها ومصادر تهديدها،  فصناعة السلام والإستقرار لن تكون بإتباع نفس الطرق الحيوية القديمة لصناعة السلام،  فهناك طرق حيوية جديدة لصناعة السلام المستدام تتوافق مع طبيعة وحقائق المدنية،  فكل مدنية جاءت ومعها صور سلامها وحربها.
 
عوامل المعرفة 
 إن مجتمعات المعرفة للموجة الثالثة لها خصائص عديدة تميزها،  يقف علي رأسها انها مجتمعات تستند علي قاعدة تكنولوجية عالية في مجال الاتصالات والإعلام ومجالات أخري،  كما أنها مجتمعات متسامحة وتقبل الآخر،  ونظمها السياسية والاجتماعية هي الاكثر تسامحاً من المدنيات التي سبقتها،  إضافة الي قوة حراكها وقناعاتها الكبيرة والشفافية العالية التي تميزها،  وهي بالتالي أقوي بكثير من الدول التي تتمني زوالها، ولهذا فان إستراتيجيات المعرفة التي يتم بناؤها للدولة يجب أن تقف علي رأسها إستراتيجية المعرفة العسكرية،  وأي إستراتيجية معرفة عسكرية جديرة بالاهتمام يجب أن تخاطب مسائل الأمن الوطني (القومي)،  مع تساؤلات عن (إكتساب المعلومات،  معالجة المعلومات،  توزيع المعلومات ووقاية المعلومات)،  وأن إستراتيجية المعرفة الشاملة لأي جيش ما ستتعامل مع كل العوامل الحيوية الأربعة للمعرفة وهي الإكتساب للمعلومات والمعالجة والتوزيع والوقاية.
 
القوة الاساسية لعسكرية الموجة الثالثة في القرن الحادي والعشرين تستند علي قوة النظام القائم الذي تخدمه هذه العسكرية،  والنظام بدوره يستند علي إستراتيجية المعرفة الخاصة بمجتمعه،  وبناء عليه في الحقب المقبلة من القرن الحالي قد تكلف أحسن العقول العسكرية بالآتي : 
أ.  مهمة تحديد مكونات حرب المعرفة .
ب.  التعرف علي علاقاتها المعقدة والمتبادلة والمتشابكة .
ج.  كيفية التعايش مع النزاعات الجديدة والمتناقضات وإحتوائها.
د.   بناء نماذج للمعرفة
هـ.   نقل بدائل إستراتيجية
 
حضارة الحرب Civilization Of War
يتجه المجتمع الصناعي العسكري الذي قام بإنتاج أسلحة كثيفة للقتل والتدمير إلي التحول لمجتمع صناعي عسكري مدني ينتج تكنولوجيات مزدوجة ومنشقة تقلل من القتل والتدمير وسفك الدماء،  إلي أسلحة ذكية تفرق بين المدنيين والجنود،  اما حضارة الحرب وإقتران الحرب بالسلام فهي (مصاهرة جديدة) تظهر في أفق المستقبل . 
 
لقد بدلت ثورة المعرفة في الشؤون العسكرية حالة وشكل وطبيعة الحرب التقليدية الدموية إلي حرب بلا دماء،  جنودها البرامج والتطبيقات،  حرب جديدة للقرن الحادي والعشرين (حرب المعرفة)،  وفي المدنية تعني حضارة الحرب تغيير أو تحويل العمل الوثيق الصلة بالعسكرية الذي كانت تقوم به صناعة عسكرية محددة إلي صناعة مدنية،  فقد قامت عدة شركات في الدول المتقدمة صناعياً بتحويل صناعاتها العسكرية إلي صناعة مدنية (تليكوم) في فرنسا نموذجاً.
 
جنود البرامج
تغير البرامج (سوفت وير) التوازن العسكري في العالم،  ويمكن تركيب نظم تسليح ذكية علي أسلحة غبية أو ممعنة في الغباء لتصبح ذكية،  فالمنصات رخيصة التكنولوجيا يمكنها حمل وإطلاق وتوصيل قوة نيران ذكية عالية التكنولوجيا تتم صناعتها بأفكار وجهد عقلي (فالذكاء الصناعي) يقابله (الغباء الصناعي)، فالاسلحة المزودة ببرامج ذكية قد تركب فيها أجزاء ذكية من الأسلحة المدمرة والقاتلة .
التطور العلمي والمرونة والأمن لقاعدة البرامج العسكرية أمر حيوي للغاية في التصنيع العسكري والسياسات التي توجه لتطوير أنظمة الدفاع والأمن في الدولة،  والتي تستخدم تكنولوجيا المعلومات بوجه عام والبرامج بوجه خاص،  فهي عنصر حيوي لبناء أي إستراتيجية معرفة للتصنيع العسكري لمواجهة متغيرات المستقبل وحقائقه الجديدة.
 
الوقت الحقيقي وغير الحقيقي
يغزي التطور الذي حدث في الإتصالات  ثورة المعرفة العسكرية بقدرات ضخمة،  كما يغذي إقتصاد المعرفة ويساهم في تعليم البشرية،  فوسائل الإعلام المكثفة في عصر الموجة الثانية (العصر الصناعي) حولت الأماكن البعيدة والوقت إلي بؤرة أقرب،  وخلقت ما يعبر عنه كيفاً،  وبعكس ذلك مبدأ وسائل إعلام الموجة الثالثة من التغيير في خلق إحساس غير حقيقي لأحداث حقيقية،  حيث يقوم نظام الإعلام الجديد بخلق عالم جديد إفتراضي تماما تتجاوب معه الدول والحكومات والشعوب والجيوش والمجتمعات كما لو كان حقيقياً.
 
السماوات المفتوحة والعقول المنفتحة
في عصرنا هذا أصبحت السماوات مفتوحة أرادت الدول أم أبت،  وليس مجرد السماوات فقط،  بل أعماق البحار والأرض ذاتها ستصبح أكثر شفافية،  وقد يحتاج العالم إلي إتفاقيات صلبة لا تشبه الإتفاقيات القديمة للمشاركة الواسعة في المعلومات التي توفرها وفي تكاليفها،  حيث تكون الاسواق التجارية القابلة للنمو غير كافية لوضع تطورها،  خاصة بعد أن تحول نظام بناء القوة في النظام العالمي من القوة العسكرية والحرب إلي قوة الإقتصاد والتجارة،  ودفع عملية التطور قد يكون بصورة خيالية عبر الحدود الدولية،  وربما مزيج من العام والخاص يمكن صنعة لدفع عملية التطور،  وبالتالي فإن عملية تبادل المعلومات والبيانات والمعرفة في عالم تتنافس فيه سياسات التسليح قد يكون أحد أدوات صناعة السلام لعصر الموجه الثالثة الحالي في أفق المستقبل.
 
أضاف الفضاء بعداً رابعاً للحرب أدي إلي تطور سريع في حرب المعرفة حيث ظهر نوعين أساسيين:
النوع الأول -_الحرب السيبرانية ٍSypher war fare. يطلق عليها الحرب المشفرة،  ويشمل هذا النوع التهديدات التي تتعلق بتكنولوجيا المعلومات والإتصالات الإكترونية .
النوع الثاني – حرب الشبكات Net War Fare  يشمل هذا النوع التهديدات النوعية المتعلقة بالإرهاب وتجارة المخدرات وتجارة السلاح.
 
تاريخ الحرب هو تاريخ العقيدة العسكرية،  ونحن ككل الجيوش لدينا عقيدة عسكرية،  ولدينا الإبرار البحري،  وعقيدة للقصف الجوي وعقيدة للمعركة البر- جوية،  والعقيدة التي تغيب عنا هي عقيدة المعلومات وهذه  العقيدة إن جاز لي التعبير لن تغيب عن الجيوش طويلاً في عصرنا هذا،  وهي عقيدة لواقع أوسع وأرحب لإستراتيجية ذات مستوي عالي تؤثر بشكل قوي علي تغيير القرارات والمواقف عالية المستوي للخصـم العسكـري أو الإقتصـــادي أو التجــــــاري، حيـث يـدور الحديـث اليوم عن (حرب المعرفة) والتي سيحاول فيها كل جانـب تشكــيل أعمــال الخصم والعـــدو،  بالتأثــير علي تيـــار المخابـرات والمعلومات في المستــوي القيادي الأعلي للدولة. 
 
الخاتمة
تتطلب حرب المعرفة بناء مخابرات وإستخبارات تتفــــق مــع المتغـــــيرات المتسارعة في البيئة الإستراتيجية والإنتبــــاه لانعكاس الـدور الجـديـد للاتصالات والمعلومات والمعرفة في المجتمع مع جذب المعلومات الممكنة والمتاحة للإستفادة منهــا،  فالمجتمــع اليــوم هو النقطة المركزية للأمن الوطني للدول،  ومن الأهمية الإستفادة من إستراتيجية المعرفة العسكرية في إعادة النظـر في الإستراتيجيـة (الأم)، فالإستراتيجيون العالميون وضعوا إستراتيجيات لعصر غير العصر الذي نعيش فيه اليوم،  فهناك تسارع في الوقت والأحداث والأزمات أفرزت معطيات ومفاهيم جديدة غير التـــي كانــــــت سائدة سابقاً. 
 
بعــد هـذا التغيــير والتحـول الذي أحدثتـه ثورة المعرفة العسكريـة يصبــح الآن كل ما نعرفه عن الحرب وصناعة الســلام متقادم جداً وبصورة خطيرة،  فالخبرة الحديثة تعطي دائماً نظرة خاطئة عن الطرق الجديدة التي نصنع بها الحرب والســلام،  فالطريقــة التي نصنـــع بها الســلام تعكس الطريقة التي نصنع بها الحــرب،  والحـــرب والسلام وجهان لعملة واحدة هي الإقتصاد.
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره