مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2016-03-01

الإعلام والحرب... من الدعاية الفجة إلى الاستراتيجية المتكاملة

غداة إعلان دولة إسرائيل، بدأ رئيس الوزراء آنذاك ديفيد بن جوريون، بتأسيس عدد من الهيئات والمنظمات، التي رأى أنها ضرورية وحيوية لتعزيز الدولة الوليدة، التي تعيش في محيط من العداء، وتواجه التحديات الجسام.
من أولى الهيئات التي حرص بن جوريون على تأسيسها آنذاك «هيئة رؤساء تحرير الصحف»، وهي الهيئة التي ألزمت السلطات من خلالها جميع رؤساء التحرير في صحف الدولة كافة بالاشتراك في عضويتها، والامتثال لقراراتها.
 
بقلم : ياسر عبد العزيز
تحدث بن جوريون، في اجتماع تدشين الهيئة لرؤساء تحرير الصحف، ليعطيهم ما يمكن وصفه بالتوجيه الاستراتيجي لعملهم، فقال: «يجب علينا أن نزن أقوالنا، ولا نعطي العدو معلومات، ولا نزرع الفتنة والفوضى في شعبنا».ستستمر إسرائيل بعد ذلك في الامتثال لتوجيه بن جوريون الاستراتيجي، وستسخر آلة الدعاية والإعلام من أجل الإعلام الحربي، حتى إن رئيس الوزراء اللاحق شارون سيضم إلى صلاحياته سلطة «الرقابة على أنظمة البث»، في العام 2001.
لكن التطورات التي طرأت على أنظمة الاتصال، وحالة الانفتاح والتعدد التي ميزت الوسط الاتصالي الدولي والإقليمي والمحلي لاحقاً، ستجبر الدولة العبرية على إجراء تغييرات جوهرية في تلك الاستراتيجية.سيأتي المنظرون الإسرائيليون لاحقاً ليطالبوا إعلام الدولة العبرية بـ»كسب العقول والقلوب»، بموازاة «تحطيم معنويات الأعداء والخصوم، ورفع الروح المعنوية للمقاتلين والشعب».في مارس من العام 2010، سيخاطب وزير الدفاع آنذاك إيهود باراك جنوداً وقادة وإعلاميين، وسيطلب منهم أن «نجعل العدو يفهم من رسائلنا الإعلامية أنه لا يقوى على حربنا، وليس أمامه سوى السلام».
تشير التجارب التي مرت بها إسرائيل في هذا الصدد إلى تحول جوهري، سيمكن وصفه بأنه أخذ آلة الدعاية والإعلام المصاحبة للحرب من موقع «الدعاية الفجة» إلى مساحة واسعة تعتمد «استراتيجية متكاملة»، وهي تجربة جديرة بالدراسة بكل تأكيد.
 
حاجز النار 
بدأ السياسيون العقائديون بلفت أنظارنا إلى مدى تأثير الإعلام في صياغة الرأي العام وبلورته أثناء الصراعات والحروب؛ فها هو هتلر يقول في كتابه «كفاحي»: «إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها».
وقد كان الزعيم السوفييتي الشيوعي نيكيتا خروتشوف أكثر وضوحاً في ذلك؛ إذ قال بدوره: «الصحافة سلاحنا الفكري والأيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والأيديولوجي بغير سلاح الصحافة».
وحين حاول البروفسير الأمريكي الشهير في جامعة هارفارد، جوزيف ناي، أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأي العام في كتابه المهم: «القوة الناعمة: سبل النجاح في عالم السياسة الدولية»، الذي صدر في العام 2004، قال إن «المعارك لا يمكن أن تُربح فقط في ميادين القتال، وأن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تكسب قصته في الإعلام».
إنها حرب إذاً تلك التي تخوضها بعض وسائل الإعلام من أجل إحداث تأثير معين في نفوس جمهور معين لخلق رأي عام بعينه؛ أو هي إحدى أدوات تلك الحرب.
يحدث هذا في الشرق كما يحدث في الغرب تماماً، ففي يونيو من العام 2005، أراد أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» آنذاك أن يقدم النصح إلى زعيم التنظيم في العراق في ذلك الوقت أبي مصعب الزرقاوي، فبعث إليه برسالة جاء فيها قوله: «وتذكر دائماً يا أخي أن نصف معركتنا في الإعلام».
 
تؤكد غالبية الدراسات والأبحاث التي أجريت في الواقع السياسي والاجتماعي العربي في العقود الخمسة الأخيرة أن وسائل الإعلام تؤدي دوراً مهماً في بلورة الرأي العام وتشكيل اتجاهاته خلال فترات الحرب والصراعات.
تقول الباحثة هالة بغدادي في دراستها التي حصلت بها على درجة الدكتوراه من كلية الإعلام، جامعة القاهرة، عام 2007، تحت عنوان: «التغطية الإخبارية للفضائيات العربية»، إن «القنوات الإخبارية تحدث تأثيراً بالغاً في اتجاهات الرأي العام العربي تجاه الأحداث الجارية».
 
وتشير الباحثة في رسالتها، إلى أن نتائج أبحاثها التطبيقية أظهرت أن بعض القنوات الإخبارية تمتلك القدرة على «إقناع الجمهور العربي بتبني وجهة نظر جديدة تجاه القضايا العربية». 
وفي دراستها المعنونة بـ «دور الإعلام الفضائي العربي في الثورات العربية»، المقدمة إلى مؤتمر جامعة «فيلادلفيا» السابع عشر، بعمان، الأردن، في نوفمبر 2012، توصلت الدكتورة مي العبدالله إلى أن «الفضائيات العربية مكنت الجمهور من متابعة القضايا الحيوية بصورة أفضل، وباقترابها من الشارع العربي أصبحت ذات تأثير أكبر على الناس، وبالتالي باتت داعماً حقيقياً لنجاح أي ثورة أو انتفاضة تحدث في المنطقة».
 
مدى التأثير
يقول الكاتب الأمريكي فيليب سيب، معلقاً على أحداث الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003: «لا تخاض معركة كسب العقول والقلوب في منطقة الشرق الأوسط في شوارع بغداد فقط، بل في نشرات الأخبار وبرامج الفضائيات الحوارية»، فقد رأى سيب أن الأساليب التقليدية لصنع السياسة الدولية أوقات الأزمات «قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد والبث الفضائي وأدوات أخرى عالية التقنية».
لكن القدرة على إحداث التأثير المطلوب في أوقات الصراع المحتدمة باتت تتطلب تكنيكات جديدة، وهي تكنيكات تنطلق من ضرورة التخلي عن فكرة «الرسائل المباشرة البسيطة»، التي يتم توجيهها من آلة الدعاية الحكومية؛ مثل تلك التي قامت بها الدعاية الناصرية في مواكبة هزيمة يونيو 1967، أو تلك التي اعتمدتها الحكومة العراقية خلال حرب الخليج الأولى مع إيران (1980-1988)، وما تلاها خلال أزمة احتلال الكويت، وصولاً إلى تحريرها، الذي انتهى باحتلال العراق نفسه، وكان عنواناً لهزيمة فكرة الدعاية الحربية المباشرة الفجة.
 
الاستراتيجية الجديدة
هناك عدد من الخطط الاستراتيجية الدعائية والإعلامية التي يمكن وصفها بأنها تتماشى مع الاستراتيجية الجديدة لاستخدام الإعلام والدعاية في حماية الأمن القومي وتعزيز فرص كسب الحروب والنزاعات؛ لعل أهمها المواكبة الإعلامية لعملية تحرير الكويت، وغزو العراق، وكوسوفو، وحرب «فوكلاند»، وإطاحة القذافي، والحرب الراهنة في سوريا.
 
وقد اعتمد الاقتراب الاستراتيجي الجديد على محاور محددة؛ منها ما يلي:
 
توسيع المجال:
لن يكون الإعلام الحربي مجرد إدارة تابعة للجيش، تصدر بيانات، وتبث صوراً وأفلاماً من إنتاج الحكومة أو القوات المسلحة فقط، لكنه سيتسع ليشمل وسائط الإعلام العاملة على هامش الصراع كافة، بما فيها تلك التي تتبع العدو نفسه، أو التي تقف على الحياد.
سيتم تطوير الرسائل الاتصالية لتبدو مواد خبرية وتحليلية مهنية، وسيتم إتاحتها وتوزيعها وبثها عبر جميع الأقنية، باعتبارها أخباراً وتقارير ومقالات غير دعائية.
وستكون هناك مئات الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي صفحات وحسابات لا تعود للمتحدثين العسكريين ورجال السلطة وتنظيماتها، لكنها ستكون منسوبة لشخصيات مشهورة، أو منظمات مجتمع مدني، أو ناشطين عاديين.
سيضمن ذلك اتساع رقعة التأثير، وسيتلقى الجمهور الرسائل باعتبارها مواد صحفية وإعلامية، وسيكون أقرب إلى تصديقها والاقتناع بها، مقارنة بتلك التي تحمل الأختام الرسمية.
 
رقابة مرنة:
وعوضاً عن سلطات الرقابة الصارمة، التي تدقق في البيانات والأخبار، وتمنع معظمها، أو تجبر وسائل الإعلام على استقاء المعلومات الخاصة بالحرب من مصدر محدد، ستكون الرقابة أكثر مرونة.
ستعتمد السلطات وسائل الإقناع الناعمة، وستتوقف عن قتل الصحفيين أو سجنهم أو منعهم من مزاولة عملهم أو مصادرة أدواتهم المهنية، لكنها مع ذلك، ستحدد لهم مجال عملهم، وستخبرهم بعواقب نشر بعض المواد التي تخل باعتبارات الأمن الحربي، وستشركهم في صياغة بعض القواعد والالتزامات التي تضمن لهم القيام بمهامهم من دون تعريض المصالح العليا للخطر.
وبدلاً من سياسة «أقفاص الدجاج»، التي كانت تعتمدها الأنظمة المغلقة، سيتم استخدام سياسة «الحدائق المفتوحة المُسيجة»، حيث ستحرص إدارات الإعلام الحربي على تنظيم الزيارات المقننة لمنسوبي وسائل الإعلام لبعض المواقع، بصحبة القوات.
وستوفر لهم مجالاً خصباً واسعاً لصنع القصص والتصوير والتسجيل ولقاء المصادر وكتابة التحليلات، لكن كل هذه الفرص ستكون تحت إشراف ومتابعة صارمين، بحيث يتم ضمان السيطرة على المحتوى الناتج عن مثل تلك الزيارات واللقاءات.
 
الرصد:
لا يمكن أن يقوم الإعلام الحربي الناجح بمهمته على النحو الأمثل من دون رؤية واسعة ودقيقة لكل ما ينشر بشأن الصراع في وسائل الإعلام المؤثرة.
يستلزم هذا تطوير وحدات رصد ذكية ومتكاملة، وعلى هذه الوحدات أن تبدأ بتحديد نطاق الرصد، بحيث يشمل جميع الرسائل ذات الصلة، وأن توفر الراصدين المؤهلين، لكي يستطيعوا رصد المواد المهمة، وتصنيفها، وتحليلها، وإطلاع القادة والمسؤولين عليها، وتقديم أوراق السياسات والتوصيات اللازمة، التي لا تكتفي بتحليل المرصود فقط، ولكن تقترح أيضاً سبل التعامل معه، عبر أنشطة اتصال ناجعة.
 
المبادرة:
سيعتمد الإعلام الحربي في ثوبه الجديد على امتلاك زمام المبادرة في معظم الأخبار والقصص التي تخص العمليات الحربية أو المواكبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لها.
يعني هذا أن تكون أول من يعلن، وأول من يبادر بنشر الصور والفيديوهات بقدر الإمكان.
في حال كان العدو، أو أي من وسائل الإعلام الأخرى، هو المبادر بكشف معلومات أو وقائع، فإن السرعة في إطلاق الرواية الخاصة بالدولة والجيش الوطني، ستكون عاملاً مهماً وحيوياً، لتطويق آثار الإعلان الأولي.
إن التباطؤ والانتظار لحين تدبيج الرواية المضادة، سيعني سيادة المفهوم المبدئي، لذلك، فإن وجود وحدات مدربة على الرد السريع سيكون ضرورياً، ومن ضمن الآليات التي تساعد على تحقيق ذلك، وجود وحدات ذكية لإدارة الأزمات، وهي الوحدات التي تطور سيناريوهات للتعامل مع أحداث طارئة، بحيث تتفادى عنصر المفاجأة، وتكون قادرة على صياغة الرسائل المضادة في أسرع وقت.
 
الكتائب الإلكترونية:
لأن العدو يمتلك «ميليشيات» إلكترونية، قادرة على بث الرسائل والصور والفيديوهات، وتأطير الرأي العام في اتجاه محدد، عبر الإلحاح والرسائل المصطنعة، فإن وجود «كتائب إلكترونية» داعمة، سيسهل استيعاب مخاطر تلك العمليات.
ستكون المعركة سهلة، إذا كانت تلك الكتائب تمتلك أدوات تقنية وفنية احترافية، وتتحلى بقدر كبير من الانتشار على وسائط التواصل الاجتماعي.
وستكون المعركة أسهل إذا كان هؤلاء المتعاونون نشطاء عاديين، من الذين يؤمنون بضرورة الدفاع عن دولتهم وأمنهم القومي عبر تلك الوسائط.
 
غسل الأخبار والقصص:
سيطور الإعلام الحربي أذرعاً إعلامية غير تابعة مباشرة له، في صورة وسائل إعلام، وفضائيات، ومواقع إلكترونية، ومدونات، بعضها يعمل داخل الدولة وبعضها الآخر يعمل خارجها.
ستكون مهمة تلك الوسائط نشر بعض القصص والأخبار، التي تخدم استراتيجية الدفاع، لكنها لن تكون منسوبة مباشرة للإعلام الحربي، وهو الأمر الذي سيزيد من صدقيتها، وسيعظم أثرها.
وبشكل عام، فإن براعة الإعلام الحربي واحترافيته لن تكون قادرة وحدها على حسم المعارك، لكنها ستكون، بكل تأكيد، عاملاً حيوياً مساعداً وضرورياً، لكسب المعركة، التي لن يحسمها سوى الانتصار على الأرض.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره