مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-10-03

الانسحاب الأمريكى من أفغانستان والعراق ومستقبل النظام الدولى

تلخص كلمة وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن قبيل زيارته لليابان وكوريا الجنوبية فى مارس 2021 والتى أشار فيها: بينما كانت الولايات المتحدة تركز على مكافحة الجهاديين في الشرق الأوسط، كانت الصين تُحدث جيشها في سرعة عالية. تلخص لنا الأسباب الحقيقية وراء قرار الانسحاب الأمريكى من أفغانستان والذى تم فى نهاية شهر أغسطس الماضى، كذلك الانسحاب من العراق المزمع بنهاية هذا العام وفق الاتفاق الذى جرى بين الحكومتين العراقية والأمريكية خلال زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى لواشنطن لإجراء الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجى بين البلدين، إضافة إلى إعادة انتشار القوات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وكذلك فى أوروبا خاصة فى ألمانيا.
 
بقلم: د. أحمد سيد أحمد
خبير العلاقات الدولية والشؤون الأمريكية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
 
الصين كلمة السر:
تعد الصين كلمة السر وراء هذه الانسحابات الأمريكية، فالمؤسسات الأمريكية العميقة خاصة البيت الأبيض  ووزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات ومجلس الأمن القومى ووزارة الخارجية وكذلك الكونجرس، تعتبر أن الصين هى الخصم والمهدد الاستراتيجى الرئيس للولايات المتحدة، وأنها تهدد الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والسياسية بل والعسكرية العالمية، فهذه المؤسسات ترى أن نظام الأحادية القطبية الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود وتحديداً منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى السابق وحلف وارسو، مهدد الآن من قبل الصين وروسيا، واللتان تسعيان لإقامة نظام دولى متعدد الأقطاب، حيث يعتبرون أن النظام الأحادى القطبية الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة أدى إلى اضطراب العلاقات الدولية وشيوع الفوضى وزيادة التدخل فى شؤون الدول الأخرى وانتهاك السيادة تحت شعارات نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، فمن وجهة نظرهم أن دعم أمريكا للثورات المختلفة مثل الثورات البرتقالية فى جورجيا وأوكرانيا ثم ثورات الربيع العربى أدت إلى الفوضى وانهيار الدول ومؤسساتها الوطنية وتصاعد الإرهاب واندلاع الحروب ومن ثم ملايين المهاجرين واللاجئين.
 
الصراع الاستراتيجي
ولذلك يعد الصراع الاستراتيجى الآن فى العالم أو ما يسمى الحرب الباردة الجديدة، هو الصراع  بين أمريكا وحلفائها من ناحية، والصين وروسيا من ناحية أخرى، على طبيعة وهيكل النظام الدولى، فأمريكا تريد الحفاظ على الأحادية القطبية، بينما تسعى الصين وروسيا لنظام دولى متعدد الأقطاب، وهو ما يفسر قرار الانسحابات الأمريكية من مناطق الصراع فى العالم خاصة فى أفغانستان والشرق الأوسط للتفرغ أو التركيز بشكل أساسى على مواجهة واحتواء الصعود الصينى والروسى.
 
فقدد تضمنت استراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى صدرت فى عهد الرئيس السابق ترامب وكذلك فى الإستراتيجية المؤقتة للأمن القومى الأمريكى التى صدرت فى شهر مارس الماضى فى عهد الرئيس بايدن، أن الصين، قبل روسيا، هى المهدد الاستراتيجي للولايات المتحدة، خاصة أن الصين نجحت فى أن تصبح القوة الاقتصادية الثانية فى العالم بعد الولايات المتحدة لتتجاوز اليابان، بل وتشير التوقعات إلى أنها قد تتجاوز أمريكا خلال العشرين عاما المقبلة، حيث تشكل الصين 19% من حجم الاقتصاد العالمى, كما أن الصين تسعى لامتلاك كل مقومات القوة الشاملة لتصبح قوى عالمية، فالصين زادت من إنفاقها العسكرى خلال عام 2020 ليصل إلى 300 مليار دولار ، وهى ثانى أكبر ميزانية عسكرية بعد الولايات المتحدة،  760 مليار دولار, كما أنها تجاوزت روسيا، 70 مليار دولار، وتمتلك الصين حاملات طائرات وسفن نووية وصواريخ باليستية بعيدة المدى، كما دخلت الصين إلى مجال الفضاء العسكرى لتزاحم أمريكا وروسيا. وعلى الجانب السياسى أصبحت بكين تلعب دوراً سياسياً عالمياً خاصة فى مجلس الأمن الدولى واستخدام الفيتو بشكل متزايد خاصة فى الأزمات التى لدى الصين فيها مصالح مباشرة أو انخراط غير مباشر مثل سوريا وإيران وميانمار وغيرها وهو أمر جديد على السلوك الصينى فى الأمم المتحدة، حيث كانت بكين تنتهج مبدأ الحياد فى التصويت على قرارات مجلس الأمن.
 
نظام متعدد
وبالتالى تسعى الصين وروسيا، لإقامة نظام دولى متعدد من خلال مسارين، الأول بناء قوتهما الذاتية، الاقتصادية والعسكرية، والثانية بناء الشراكات بين البلدين لمواجهة النفوذ الأمريكى. كما تجنبت الصين الانخراط العسكرى المباشر فى مناطق الصراعات، والذى كلف الولايات المتحدة كثيراً، حيث عملت على بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية بهدوء دون استفزاز أو تدخل عسكرىة خارجى واعتمدت على منهج القوة الناعمة فى الخارج عبر المساعدات الاقتصادية وتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال مبادرة الحزام والطريق، كما حدث فى  أسيا وأفريقيا.
 
وقف النزيف الأمريكى:
تعتبر الولايات المتحدة أن انسحابها من أفغانستان والعراق ومناطق أخرى يأتى لتحقيق عدة أهداف أولها وقف النزيف الاقتصادى والبشرى، فالحرب الأمريكية فى أفغانستان على مدار عشرين عاماً كلفت الولايات المتحدة ترليون دولار ومقتل أكثر من 2600 جندى، كذلك الحرب فى العراق منذ عام 2003 كلفت أيضا ترليون دولار وألاف القتلى والجرحى من الجنود الأمريكيين، وإجمالا فإن التكلفة المباشرة وغير المباشرة للتواجد العسكرى الأمريكى فى أفغانستان والعراق وسوريا وأفريقيا وغيرها يصل لستة ترليونات دولار، وبالتالى تهدف أمريكا إلى إعادة توجيه تلك الأموال لمواجهة تداعيات جائحة كورونا وإنعاش الاقتصاد، كذلك تقوية القوة الاقتصادية الأمريكية التى تعرضت لهزات كثيرة وفاقمتها جائحة كورونا. والذى من شأنه أن يساهم فى مواجهة الصعود الاقتصادى الصينى القوى وتقليل حجم الفارق فى المبادلات التجارية لصالح الصين والذى يصل ل600 مليار دولار، وهو ما دفع ترامب لشن حرب الرسوم الجمركية على الصين لتقليل هذا الفارق  بعد اتهام الصين بانتهاك حقوق الملكية الفكرية.
 
وإلى جانب بناء القوة الاقتصادية الأمريكية، تقوم الولايات المتحدة ببناء الشراكات الاقتصادية والإستراتيجية مع الحلفاء التقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا لمواجهة الصين، ولذلك كانت أول زيارة خارجية لوزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن وانتونى ووزير الخارجية بلينكن للخارج كانت لكوريا الجنوبية واليابان، لترميم الشروخات فى العلاقات بسبب سياسة ترامب السابقة  وفرضه نظرية الحماية مقابل المال، كما استقبل الرئيس بايدن رئيس الوزراء اليابانى يوشيهيدا سوجا كأول زعيم خارجى يزور الولايات المتحدة وكذلك الرئيس الكورى الجنوبى مون جاى إن فى واشنطن ليؤكد أن إدارة الرئيس بايدن تعطى الأولوية فى سياساتها الخارجية لمواجهة الصين عبر تقوية العلاقة مع الحلفاء فى أسيا، والتى عكستها أيضا القمة الافتراضية التى جمعت الرئيس بايدن وزعماء اليابان واستراليا والهند حول الصين، وهو نفس المنهج مع روسيا حيث تقوم إدارة بايدن ببناء الشراكات وإصلاح العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وحلف الناتو لمواجهة النفوذ الروسى.
 
ما بعد الانسحاب الأمريكى:
لكن هل تؤدى الانسحابات العسكرية الأمريكية من مناطق الصراعات مثل العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها إلى تحقيق الأهداف الأمريكية خاصة مواجهة الصين والحفاظ على الأحادية القطبية؟
 
11 سبتمبر
فى الواقع أنه بعد عشرين عاماً على أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان فى عام 2001 ثم غزو العراق فى عام 2003 والانخراط العسكرى الأمريكى فى سوريا واستخدام الطائرات المسيرة ضد قادة وعناصر التنظيمات الإرهابية فى مناطق مختلفة مثل اليمن والصومال وغيرها، لم تنجح أمريكا فى القضاء على الإرهاب بل على العكس انتشر الإرهاب فى مناطق مختلفة من العالم وتوسعت خريطة التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وتنيظم داعش وبو كو حرام وحركة شباب المجاهدين وغيرها فى دول ومناطق كثيرة فى أسيا وأفريقيا، وذلك بسبب اعتماد الولايات المتحدة فى حربها على الإرهاب على البعد العسكرى فقط وتجاهل الابعاد الأخرى مثل المواجهة الفكرية والمواجهة التنموية وتبادل المعلومات الاستخباراتية ومواجهة الدول التى ترعى وتمول الإرهاب والتنظيمات لإرهابية، واتسمت الرؤية الأمريكية الغربية بالازدواجية فى التعامل مع التنظيمات الإرهابية، تحت زعم التفرقة بين التنظيمات الإسلامية المعتدلة والأخرى المتشددة بينما كلهم يحملون نفس الأفكار، كما ركزت على التنظيمات الإسلامية المتشددة السنية وتجاهلت التنظيمات الشيعية المسلحة التى تمارس العنف والإرهاب كما هو الحال فى العراق وسوريا واليمن. كما فشلت أمريكا فى بناء ما أسمته العراق الديقراطى المزدهر حيث ساءت أحوال العراق، كذلك فشلت فى بناء الدولة الأفغانية وتحقيق التنمية، بل على العكس استشرى الفساد وانهارت القوات الأفغانية وهو ما أدى لعودة طالبان مرة أخرى.
وفى المقابل فإن قيام أمريكا باستبدال الصين وروسيا بالشرق الأوسط يمثل خطأ استراتيجى أمريكى لأن لديها مصالح إستراتيجية متشابكة فى منطقة الشرق الأوسط خاصة فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب وكذلك التدخلات الخارجية المهددة للاستقرار من بعض دول الإقليم مثل إيران. 
 
رسالة سلبية
كما أن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان أعطى رسالة سلبية لحلفاء أمريكا بأنها حليف لا يمكن الوثوق فيه، إضافة إلى ان الصين وروسيا بالفعل موجودون فى المناطق التى تنسحب منها أمريكا خاصة أفغانستان والشرق الأوسط، والذى يعد ساحة رئيسية لصراع النفوذ الأمريكى الصينى الروسى. ولذلك فإن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان والعراق والشرق الأوسط سيولد فراغا استراتيجيا ستملئه كل من الصين وروسيا وهو ما يعزز مكانتهما فى النظام الدولى على حساب النفوذ والمكانة الأمريكية، خاصة أن الصين لديها مداخل ناعمة ودبلوماسية وتعتمد على مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل فى شؤون الدول الأخرى، إضافة إلى المدخل الاقتصادى الذى يؤدى لتشابك المصالح ومن ثم يقوى علاقاتها ونفوذها بدول الشرق الأوسط وكذلك أفغانستان، حيث اتخذت الصين موقفا مرنا تجاه طالبان وتسعى لتعظيم مصالحها وتعاونها الاقتصادى مع الحركة، وذات الحال بالنسبة لروسيا، على عكس الموقف الغربى والأمريكى الذى ربط العلاقات والاعتراف بطالبان بتنفيذ عدد من الشروط مثل احترام حقوق الإنسان وإقامة حكومة شاملة والسماح للأفغان بحرية السفر والخروج من البلاد وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وهو ما قد لا تتجاوب معه طالبان خاصة فيما يتعلق بالحكومة التمثيلية.
 
نحو نظام دولى متعدد الأقطاب:
وبالتالى فإن الانسحاب العسسكرى الأمريكى المباشر من مناطق الصراعات رغم أنه سيوفر النفقات المالية الباهظة وتقليل الخسائر البشرية، إلا أنه سيترتب عليه تداعيات إستراتيجية سلبية على أمريكا، لأن أمريكا كقوة عظمى تقف على رأس النظام الدولى ولديها مسؤوليات عالمية لتعزيز مكانتها، كما أن التواجد فى مناطق الصراعات يعزز من المصالح القومية الأمريكية ويساهم فى تحقيق الأهداف الأمريكية فى محاربة الإرهاب ومواجهة خصوم أمريكا، وبالتالى فإن هذا الانسحاب سيعزز من سياسة العزلة الأمريكية والانكفاء على الداخل، وهو ما يضعف القوة الأمريكية فى العالم، كما أنه سيدفع الحلفاء فى أوروبا والشرق الأوسط إلى التخلى عن العباءة الأمنية الأمريكية وإيجاد بدائل أخرى أو تعزيز العلاقات مع القوة المنافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، إضافة إلى  أن الانسحاب الأمريكى سيؤدى إلى تصاعد الإرهاب  والذى أصبح أحد الفاعلين البارزين فى النظام الدولى وتفاعلاته حيث أضحى الإرهاب أحد المصادر الرئيسية لتهديد السلم والأمن الدوليين.
 
إن سياسات الولايات المتحدة سواء التى بدأت مع عهد ترامب برفع شعار أمريكا أولاً  أو التى اتخذها بايدن بالانسحاب الأمريكى  المتسرع وغير المدروس من مناطق الصراعات والانكفاء على الداخل، ستؤدى إلى التعجيل بتحول النظام الدولى من نظام أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة  إلى نظام دولى متعدد الأقطاب تكون فيها الصين روسيا أقطاب منافسة لأمريكا، وهو ما يدخل العالم فى مرحلة جديدة من التفاعلات التى سيكون لها تداعيات وأثار عديدة على القضايا العالمية.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره