2022-07-01
البجعة السوداء: السيناريوهات الخمسة للحرب الروسية الأوكرانية
تُرى هل بإمكان أوكرانيا التمرُّد على كل الحسابات العسكرية وتحقيق النصر؟ هذا السيناريو يراه البعض خارج حدود المنطق، لكن متى كانت الحرب منطقية؟ إنها نتاج قرار عبثي بالأساس، ومحض مغامرة جنونية قد تكون نتائجها غير محسوبة على الإطلاق.
بقلم/ جهاد عمر الخطيب
باحثة في العلاقات الدولية
مائة يوم ونيْف مضت على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وهي حرب عبثية بدأها الرئيس الروسي “فيلاديمير بوتين” بإعلان ما وصفه بـ “العملية العسكرية الخاصة” في منطقة دونباس الواقعة شرقي أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/ شباط الماضي. وبيْن نهجي “الصبر الاستراتيجي” و”الضغط الأقصى”، تظل الساحة الأوكرانية مفتوحة على السيناريوهات والاحتمالات كافة، بما فيها سيناريو “البجعة السوداء”، وفي المقال، محاولةٌ لبلورة أبرز تلك السيناريوهات، وما تستند عليه من فرضيات بغية مناقشة احتمالات تحقيقها، وكذا العراقيل التي قد تحول دون ذلك.
السيناريو الأول: حرب استنزاف ترتكز على «الصبر الاستراتيجي»
يستند هذا السيناريو على فرضية رئيسة مفادها أن الحرب الروسية – الأوكرانية قد تمتد لشهور عديدة – وربما لسنوات – فهي حرب «استنزاف» تخوضها القوات الروسية والأوكرانية، تؤجِّجها رغبة الطرفيْن في الصمود، واتباعهما نهج «الصبر الاستراتيجي» Strategic Patience، وكذا إحجامهما عن إعلان الاستسلام مهما كان حجم الخسائر.
ويُعزِّز تلك الفرضية جملة من المؤشرات والوقائع العملياتية؛ لعل في طليعتها المراوحة وتبدُّل حالة الزخم صعودًا وهبوطًا بين الجانبيْن؛ فكلاهما يحقق قدرًا من المكاسب الميدانية تارة ويُمنى بخسائر أو يتجه للانسحاب من أحد ميادين المعركة تارةً أخرى، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى فشل روسيا (الطرف الأقوى وفقًا للحسابات العسكرية) في السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف أو مدينة خاركيف، وهي ثاني أكبر المدن الأوكرانية من حيث المساحة، ومركز ثقافي وصناعي وأكاديمي على درجة كبيرة من الأهمية فضلًا عن دلالاتها الرمزية كونها استمرت عاصمة لأوكرانيا تحت الحكم السوفيتي طيلة الفترة الممتدة من 1920 حتى .1934
واعتبر البعض أن الانسحاب الروسي من المدينتيْن السابقتيْن برهانًا على أن الحرب لا تسير وفقًا لخطط موسكو التي فقدت نحو ثُلث قواتها البرية منذ بدء الحرب في فبراير/ شباط المنصرم، وفقًا لتقديرات بعض المسؤولين الغربيين، وبالتبعية، وجدت نفسها مضطرة لتركيز ضرباتها على الشرق الأوكراني حيث منطقة دونباس بغية السيطرة الكُليَّة على لوجانسك ودونيتسك.
ويُعَوِّل الجانبان الروسي والأوكراني على ثنائية “الصبر الاستراتيجي - الضغط الأقصى”؛ فالرئيس الروسي “فيلاديمير بوتين” يراهن على انهيار المقاومة الأوكرانية، وفقدان الدول الغربية – في مقدمتها الولايات المتحدة – شغف استمرار تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، والعودة مجددًا للتركيز والانكفاء على تهديدات أخرى مثل الصعود الصيني، وتعزيز النفوذ في منطقة الإندو – باسيفيك أو إشكاليات وأزمات الداخل.
وفي المقابل، تراهن كييف على استمرار انتهاج سياسة “الضغط الأقصى” Maximum Pressure والتي تتمثَّل في سلسلة العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي تفرضها الدول الغربية على موسكو، وقد تدفع الاقتصاد الروسي ونظام “بوتين” لحافة الهاوية، ويتزامن مع تلك السياسة، استمرار تدفقات الأسلحة والمساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا من أجل مساعدتها على الصمود في وجه الترسانة الروسية.
وتأسيسًا على ما سلف، قد تتحوَّل الحرب الراهنة إلى صراع دائم بوتيرة منخفضة، وتصبح “حربًا أبدية” Endless War لا تشهد تغييرات جذرية، وإنما تظل مستمرة طالما ظلت حالة الإخفاق في حسم الحرب بتوجيه ضربة استراتيجية حاسمة.
بيْدَ أن هناك أمرًا قد يُغيِّر قواعد اللعبة بشكل جذري وحاسم، ألا وهو انتهاء حالة التوافق الراهنة بين الدول الغربية إزاء دعم القوات الأوكرانية (بشكل مطلق) ليحل الشقاق محلها، وقد بدأت بوادر هذا الشقاق في التجلي على مدار الأيام المنقضية؛ واتضح ذلك – على سبيل المثال – في رفض سويسرا طلبيْن تقدَّمت بهما الحكومة الألمانية لإعادة تصدير ذخيرة - سويسرية الصنع - إلى كييف، ويُعتقد أنها من النوع المستخدم في مدرعات ألمانية الصنع من طراز “ماردر”، وكانت حُجتها في ذلك أن إعادة تصدير منتجاتها العسكرية لدولة منخرطة في صراع يُعَد إخلالًا بمبدأ حيادها العسكري.
إضافةً لذلك، رفضت الحكومة الألمانية مطالب كييف بتسليمها أسلحة ثقيلة ألمانية الصنع من بينها مدرعات من طراز “ماردر” أيضًا، وكلها مؤشرات تؤكِّد أن الدعم الغربي لأوكرانيا ليس مطلقًا أو دائمًا، ويبدو أن “بوتين” يدرك هذا الأمر جيدًا قبيْل إعلانه “العملية العسكرية الخاصة” ضد أوكرانيا؛ فالانسحاب الفوضوي المهين لواشنطن وحلفائها بالناتو من أفغانستان بعد حرب دامت عقديْن من الزمن يعني أن هذه الدول لن تغامر مجددًا بالتورط في أي صراع جديد، وربما تضغط على أوكرانيا من أجل القبول بتسوية الحرب، وقد تكون صيغة “مينسك الثانية” منطلقًا رئيسًا لعملية الوساطة، ومن شأنها أن تسمح باستقلال ذاتي محدود لكلٍ من لوجانسك ودونيتسك داخل أوكرانيا، والاتفاقية الأخرى التي يمكن استلهام بنودها أيضًا هي معاهدة الدولة النمساوية لعام 1955، والتي نصَّت على حياد تلك الدولة.
السيناريو الثاني: جمود الصراع
ينصرف مفهوم «جمود الصراع» أو «الصراع الجامد» frozen conflictإلى انتهاء الصراع القائم دونما التوصُّل إلى اتفاقية سلام أو تسوية تحظى بقبول وتوافق أطراف الصراع، وهذا السيناريو وثيق الصلة بسلفه؛ ذلك لأنهما نابعان من غياب قدرة كلٍ من روسيا وأوكرانيا – حتى اللحظة الراهنة – على حسم الحرب، وهو ما قد يدفعهما لوقفها دونما بذل أي جهد من شأنه تعزيز إجراءات الثقة بينهما، أو بناء السِّلم باجتثاث جذور الصراع.
ويستند سيناريو “جمود الصراع” على فرضية أساسية مفادها توصُّل كلٍ من موسكو وكييف لقناعة مفادها أنه ليس باستطاعتهما تقديم المزيد – من الناحية العسكرية – واستنفاد قدراتهما العسكرية والبشرية. وحينئذ، ستدرك روسيا أن خسائرها الاقتصادية والبشرية لا يمكن تعويضها، وستشعر أوكرانيا بأنها قد سئمت الحرب، وأن شعبها غير مستعد للمخاطرة بمزيد من الأرواح من أجل نصر قد يستحيل – وفقًا للمعطيات الراهنة – تحقيقه، وأن الدعم الغربي لا يمكن التعويل عليه دائمًا.
وعلاوةً على تلك القناعات، قد لا تلوح أي محاولات للحوار أو التسوية السياسية أو التوصُّل لمعاهدة سلام في الأفق المنظور – وفقًا لهذا السيناريو - وهذا مرجعه بالأساس غياب الثقة بين الجانبيْن، ولعل هذا السيناريو يدعمه ما حدث بالفعل منذ أواخر مارس/ آذار المنقضي؛ إذ توقَّفت محادثات السلام بين الجانبيْن منذ ذلك الحين، ورفضت كييف أي مقترح لهدنة أو وقف لإطلاق النار يشمل تنازلها عن السيادة عن أيٍ من أراضيها لصالح روسيا في نهاية مايو/ آيار الماضي.
لكن هذا الجمود – إذا حدث بالفعل - قد لا يستمر طويلًا، وسرعان ما يعاود الصراع الاشتعال وبكثافة؛ فقد يحدث مثلًا أن يشهد الصراع جمودًا بإعلان “بوتين” وقف إطلاق النار في مطلع عام 2023 دونما التوصُّل لمعاهدة سلام، وتواصل الدول الغربية دعمها العسكري لأوكرانيا، التي تستمر على موقفها الرافض لإعلان وقف إطلاق النار من قِبل روسيا، وهنا يجد الرئيس الروسي نفسه مدفوعًا نحو كسر حلقة الجمود تلك بالتوسُّع في المناطق المستهدفة بأوكرانيا، وربما مهاجمة دول الجوار الأوكراني التابعة للناتو مثل بولندا أو المجر أو سلوفاكيا أو رومانيا، مما قد يؤدي لتحقيق سيناريو “البجعة السوداء” Black Swan، وهو ما سيتطرَّق إليه المقال لاحقًا.
السيناريو الثالث: انتصار روسيا و»نظام الدُّمية»
لعل واحدًا من أبرز السيناريوهات المطروحة لمستقبل الحرب الروسية الأوكرانية هو نجاح موسكو في حسم الحرب لصالحها؛ فهي الطرف الذي بدأ الحرب، وتعي جيدًا حجم قواتها طبقًا لحسابات الورقة والقلم، وهي في ذلك تراهن على تراجُع الدول الغربية عن موقفها الداعم لأوكرانيا، ويُعزِّز احتمالات تحقيق هذا السيناريو عدد من الانتصارات الميدانية لروسيا منذ بدء الحرب؛ وأبرزها السيطرة على مدينة ماريوبول التي تقع على الطريق الواصلة بين منطقة دونباس وشبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها روسيا منذ عام 2014، والسيطرة عليها تُعَد خطوة على طريق السيطرة الكُليِّة على لوجانسك ودونيتسك، وربما الشرق الأوكراني بأكمله، وهو أمر قد ينتهي بتقسيم أوكرانيا إلى نصفين؛ شرقي وغربي، أو إسقاط حكومة كييف الموالية للغرب وتشكيل نظام «دُمية» تهيمن عليه موسكو، أو النتيجتيْن معًا.
لكن من الناحية العملية، يبدو أن هذا السيناريو بعيد عن الواقع ويصعب تحقيقه – في الأشهر القليلة المقبلة على الأقل – فالطريق لحسم الحرب تمامًا ليست معبَّدة أمام «بوتين»؛ فالمرحلة الأولى من الحرب كانت مكلفة للغاية، والمقاومة الأوكرانية كانت حاضرة وبقوة. ومن ثم، يصبح من الصعب على روسيا تحقيق أي انتصار عسكري مهم أو حسم الحرب دونما زيادة عدد قواتها، وهذا يتطلب عملية تعبئة واسعة النطاق لأفراد الشعب الروسي من أجل الانضمام لصفوف القوات الروسية التي تحارب أوكرانيا، الأمر الذي يعني تحوُّل الحرب من مجرد «عملية عسكرية خاصة» إلى «حرب شاملة» قد تمتد لسنوات، وقد يُقابل ذلك بمعارضة شديدة من الروس، وربما يُشكِّل تهديدًا وجوديًا لنظام «فيلاديمير بوتين».
السيناريو الرابع: انتصار أوكرانيا
تُرى هل بإمكان أوكرانيا التمرد على كل الحسابات العسكرية وتحقيق النصر؟ هذا السيناريو يراه البعض خارج حدود المنطق، لكن متى كانت الحرب منطقية؟ إنها نتاج قرار عبثي بالأساس، ومحض مغامرة جنونية قد تكون نتائجها غير محسوبة على الإطلاق، ويرتكز هذا السيناريو على فشل موسكو في السيطرة على دونباس، واستمرارها في تكبُّد المزيد من الخسائر وفرض مزيد من العقوبات الغربية التي تنهك اقتصادها، ونجاح القوات الأوكرانية في توجيه هجمات مضادة محدودة لكنها متواصلة وتقود لإنهاك القوات الروسية. وإذ ذاك، قد تتحول أوكرانيا من الدفاع إلى الهجوم. لكن هذا السيناريو يُنذر بعواقب وخيمة؛ فـ «بوتين» لن يقبل بأي هزيمة عسكرية تقليدية، وقد يستخدم الورقة الأخيرة؛ ألا وهي «السلاح النووي»، وهي بجعة سوداء أخرى قد تلوح في الأفق.
البجعة السوداء )التصعيد الرأسي أو الأفقي)
تشير نظرية «البجعة السوداء» Black Swan إلى معتقد غربي خاطئ بعدم وجود بجع أسود، واسْتُخدمت في العلوم السياسية للدلالة على الحدث المفاجئ الذي قد يقلب الأمور رأسًا على عقب، ومن الأهمية بمكان التفكير في سيناريو “البجعة السوداء” عند بلورة سيناريوهات الحرب في أوكرانيا حتى لو استحال حدوثه، والبجعة السوداء هنا تعني التصعيد “الأفقي” أو “الرأسي” للحرب؛ فالتصعيد “الأفقي” يعني امتداد الحرب إلى دول الجوار الأوكراني، لا سيما الدول الأعضاء في الناتو، وهي بولندا أو المجر أو سلوفاكيا أو رومانيا، وعندئذ، سيضطر الناتو للتدخل من أجل الدفاع عن أعضائه ليصبح في مواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة مع روسيا.
ويُقْصَد بالتصعيد “الرأسي” في هذا الصدد استخدام أسلحة الدمار الشامل، لتصبح الحرب الراهنة حربًا نووية، ورغم استبعاد البعض حدوث هذا السيناريو، وحُجتهم في ذلك نظرية “توازن الرعب النووي” Balance of Terror، وتستند على فرضية الخوف المسيطر على القوى النووية من اندلاع حرب نووية مما يجعلها لا تفكر البتَّة في شنّ أي هجوم نووي. بيْدَ أن هذه النظرية لا يمكن التعويل عليها كثيرًا هذه الأيام، لا سيما في ظل اتجاه قادة عالم اليوم – سواء في الدول التي تمتلك ترسانة نووية أو تلك التي لا تمتلك، للتصرف بشكل غير عقلاني دونما التفكير في العواقب.
وختامًا، فإنه تظل الحرب الروسية الأوكرانية ساحة مفتوحة على كل السيناريوهات والاحتمالات بما فيها تلك التي تتنافي ومقتضيات العقل والمنطق السليم أو الحسابات الراهنة، ومهما تعدَّدت تلك السيناريوهات، تظل هناك حقيقة واحدة لا تقبل الشك؛ وهي أنه من السهل دائمًا إشعال الحرب لكن إخمادها يتطلَّب ويُكلِّف الكثير، والكل فيها خاسر، ومحصلة الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن أكثر من 14 مليون لاجئ ونازح أوكراني، فضلًا عن التكلفة الباهظة لإعادة إعمار أوكرانيا التي دمَّرتها الحرب، وتُقدَّر بحوالي 220 – 540 مليار دولار.
لا يوجد تعليقات