مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2016-05-11

التحــالفــات العسـكريـة: من تــوازن القــوى إلى الدفــاع عن القــيم

بقدر ما كان نابليون بونابرت رمزاً عسكرياً واستراتيجياً ملهماً، بقدر ما كانت الحروب النابليونية، التي أشعلها بطول القارة الأوروبية وعرضها، مصدراً للدروس والعبر.
 
إعداد: ياسر عبد العزيز
يختلف المؤرخون والباحثون في تحديد الموعد الذي انطلقت فيه الحروب النابليونية بدقة، لكن أغلب التقديرات ترى أن تلك الحقبة بدأت مع نهايات القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، ويعتقد أصحاب تلك التقديرات أن هذه الحروب استمرت على مدى نحو 15 عاماً، لتنتهي في فبراير من العام 1815، بهزيمة مروعة لنابليون، أفضت إلى تخليه عن منصب الإمبراطور، ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانة.
 
يعرف الكثيرون أن نابليون الذي غزا دولاً أوروبية عدة، وطوّر استراتيجيات عسكرية، مكنته من كسب المعارك الصعبة، واستخدم عبقريته وجسارته الحربية في تعويض الفوارق اللوجستية وجبر فجوات الموارد بينه وبين أعدائه، انهزم أمام “الجنرال طقس” في روسيا، ليبدأ مسلسل الانحدار، عندما أخفق في تحقيق نصر حاسم على الجيش الروسي، برغم نجاحه في احتلال موسكو.
إن هذه الوقائع صحيحة؛ فقد نالت أوضاع الطقس السيئة من الجيش الفرنسي آنذاك، وتم الفتك بزهرة شباب جنود نابليون وفرسانه في طريق العودة إلى باريس في العام 2013، لكن “الطقس” وحده لم يكن السبب في إنهاء أسطورة نابليون العسكرية وكسر جيشه وإذلاله، وإنما أيضاً التحالف الدولي الذي انعقد ضده، تحت اسم “التحالف السادس”، وهو التجمع العسكري والسياسي الذي مكن أعداء نابليون من هزيمته وإسقاطه من عرشه وإخراجه من بلاده.
 
سيمكن القول لاحقاً إن تاريخ الحروب الكبيرة يرتبط بتاريخ التحالفات الكبيرة، خصوصاً عندما تنشأ التحالفات العسكرية عشية الحربين العالميتين الكبيرتين، وتتطور وتتأصل وتتكرس على إيقاع المدافع، قبل أن تنقسم أوروبا وغيرها من دول العالم إلى معسكرين كبيرين، يمثلان تحالفين رئيسيين، ينخرطان في حرب باردة طويلة، تنتهي بفوز أحد الحلفين، وتشظي الآخر.
 
لم يكن من الممكن كسر شوكة نابليون، الذي كان يتمتع بموارد ضخمة، وجيش قوي، ووضع استراتيجي جيد، وطموح وعبقرية عسكرية نادرة، سوى من خلال تحالف يعوض فارق القوة بين نابليون وجيوشه من جانب والدول والجيوش المفردة التي يستهدفها من جانب آخر.
ولذلك، فقد بدأت ملامح هزيمة الفرنسيين تظهر مع تشكل “التحالف السادس” في العام 1813، وهو التحالف الذي ضم كلاً من روسيا، وبريطانيا، والنمسا، والسويد، وإسبانيا، والبرتغال.
لقد كسر نابليون هذا التحالف في أول منازلة واسعة بين الجانبين، حين فاز في معركة دريسدن التي جرت في أعقاب تشكيل التحالف مباشرة، لكن الدول الست عادت إلى النزال مرة أخرى، بعدما نظمت جيوشها، ووحدت قيادة العمليات الميدانية، وحشدت ضعف عدد الجنود الذين يمتلكهم نابوليون، وكثفت قدرة نيران المدفعية وعززت تركيزها، لتحقق انتصاراً تاريخياً في “معركة الأمم”، التي وقعت في 11 إبريل من العام 2014، وهو الانتصار الذي فتح الباب لإنهاء أسطورة نابليون.
 
بعد نحو قرن من هذا التاريخ، لم يكن أمام أوروبا، ومن ورائها الولايات المتحدة أن تحد من طموحات ألمانيا للهيمنة على القارة العجوز سوى من خلال تحالف من جديد، وهو التحالف الذي قاد إلى الحرب العالمية الأولى. وقد تكرر الأمر ذاته مرة أخرى عشية الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن بمقدور دولة واحدة بمفردها أن توقف زحف هتلر، بعدما احتل النمسا وبولندا وفرنسا وغيرها من دول القارة.
تنشأ التحالفات عادة لمعالجة خلل في توازن القوى، وهي قادرة تماماً على تغيير وقائع المعارك، وبالتالي فهي قادرة تماماً على تغيير التاريخ. 
 
خيار ضروري 
تعد ظاهرة التحالفات العسكرية ظاهرة قديمة قدم التاريخ، وقد تم رصد أنماط من التحالف العسكري في فترات بعيدة، وخصوصاً تلك الأنماط التي تتصل بتحالفات بين القبائل وجماعات السكان في مرحلة ما قبل الدولة.
لكن مفهوم التحالفات العسكرية يتكرس في معاهد الاستراتيجية اليوم باعتباره مفهوماً يتعلق بالدولة والمنظمات الدولية، ويمكن تلخيصه ببساطة في أنه “اتفاق بين دولتين أو أكثر على تدابير عسكرية وأمنية معينة لحماية دولة التحالف من تهديد أو عدوان ما”.
 
ويُعرف التحالف العسكري أيضاً بأنه “اتفاق رسمي، معلن أو غير معلن، تتعهد بموجبه دولتان أو مجموعة من الدول بالتعاون في ما بينها في مجال الاستخدام المشترك لقدراتها العسكرية ضد دول أو دولة معينة”.
أو هو “اتفاق تلتزم بمقتضاه الدولتان، أو الدول، الموقعة عليه باستخدام القوة أو التشاور في شأن استخدامها في ظروف معينة”.
 
ويرى بعض الباحثين أن التحالف ليس سوى “التزام مشروط ذو طابع سياسي أو عسكري، بين دولتين أو مجموعة من الدول، تتعهد خلاله باتخاذ تدابير تعاونية في مواجهة دولة أو مجموعة من الدول”.
ويشرح أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير هانز مورجنثاو Hans Morgenthau أسباب اللجوء إلى التحالفات العسكرية بقوله: “نفترض أن الدولتين (أ) و(ب) متنافستان أو متصارعتان. بسبب هذا التنافس أو التصارع ستسعى الدولتان إلى تعزيز مراكز قواهما، وفي هذه الحال لن يكون أمام كل منهما، إذا اختل التوازن، إلا ثلاث طرق؛ أولاها تعزيز التسلح، وثانيتها إضافة قوة أخرى إلى قوة الدولة، وثالثتها سحب قوة دول أخرى من رصيد الدولة الخصم/ العدو. وبالتالي فإن الخيارين الثاني والثالث سيقودان مباشرة إلى تكوين التحالفات العسكرية”.
 
يفسر هذا الشرح ما اتفق عليه الباحثون الاستراتيجيون من كون التحالفات العسكرية ليست مبدأ من مبادئ العلاقات الدولية بقدر ما هي وسيلة من وسائل الملاءمة.
وسيشرح لنا هذا الأسباب التي دعت بريطانيا إلى النأي بنفسها عن التحالف مع الولايات المتحدة، حتى نشأ التحدي النازي، ولماذا لم تنضم اليابان إلى تحالف دول المحور عشية الحرب العالمية الثانية إلا بعد ظهور التهديد لمصالحها في جنوب شرق آسيا، ولماذا لجأت جنوب أفريقيا (في ظل الفصل العنصري) إلى التحالف مع إسرائيل، في ظل شعور الدولتين بالعزلة والاستهداف، ولماذا لم يتم تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، بعد توقيعها في العام 1950، بسبب عدم توافر الشروط الموضوعية اللازمة.
 
مصالح دائمة
بالعودة إلى “التحالف السادس” الذي التأم ضد فرنسا النابليونية في مطلع القرن التاسع عشر، سنتذكر أن روسيا وبريطانيا كانتا قوتين أساسيتين في هذا التحالف، ومن دون التنسيق والحشد والتوافق التام بين قيادتي البلدين آنذاك، لم يكن من الممكن أبداً تحقيق النصر على جيش بونابرت، لكن المفارقة تكمن في أن روسيا (ضمن الاتحاد السوفييتي السابق) بعد هذه الوقائع بنحو قرن ونصف القرن كانت عضواً في حلف “وارسو”، بينما كانت بريطانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي المعادي لموسكو (ناتو).
 
يقودنا هذا إلى تورط بريطانيا في تحالف محدود المدة مع كل من فرنسا وإسرائيل، في العام 1956، لشن عدوان على مصر، عقاباً لها على تأميم قناة السويس، وهو التحالف الذي لم يكن يتصور أحد أن يحدث على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين تأجج التنافس والصراع بين لندن وباريس.يسري الأمر ذاته على التحالف الذي جمع بين كل من ألمانيا وفرنسا في “حلف شمال الأطلسي” (ناتو)، بعد سنوات قليلة من احتلال هتلر لباريس.
 
وتثبت تلك التطورات حقيقة أن التحالفات العسكرية عملية ظرفية موقتة في العلاقات الدولية مهما طال أمدها، وأنها تنطلق من الملاءمة بأكثر مما تتصل بالمبادئ، وأن “توافق المصالح في السياقات المحددة هو الرباط الأكثر قوة لإنشائها وإدامتها”.
 
التحدي والاستجابة
ستفسر لنا السطور السابقة الأسباب التي أدت إلى ظهور تحالفات عسكرية عدة في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة.
فمع اندلاع الانتفاضات العربية في مطلع العقد الجاري، زادت حدة التدخلات الأجنبية والإقليمية، ونشأت أوضاع أقرب إلى الفوضى، وتعمقت هشاشة الدول والمجتمعات التي ضربتها الانتفاضات، ما أنتج حالة من عدم توازن القوى، وهي الحالة التي أغرت الفاعلين السياسيين بتعظيم مصالحهم والقيام بأدوار أوسع وأكثر تأثيراً.
 
يشير هذا الطرح إلى أن التحالفات العسكرية التي شهدتها المنطقة كانت في مجملها “تحالفات دفاعية”، حتى وإن اتخذت طابعاً هجومياً في بعض الأحيان، وهو الطابع الذي يمكن رده إلى مفهوم “الهجمات الاستباقية”، و”الدفاع خارج العمق الجغرافي”.
مع اندلاع الانتفاضة في سورية في مارس من العام 2011، بدأت إرهاصات تكوين تحالف عسكري بين روسيا، وسورية، وإيران، وبعض المليشيات العراقية والمليشيات اللبنانية.
 
لقد استمر هذا التحالف في أداء الدور المرسوم له في محاولة لإحداث حالة من التوازن في القوة بين قدرات الجيش النظامي السوري من جانب والقوى المعارضة والثورية التي تستهدفه من جانب آخر.
ويبدو أن هذا التحالف لم ينجح في حسم المعركة لمصلحة نظام بشار الأسد، لكنه في الوقت ذاته نجح في تجميد الأوضاع، وفرض منطق تفاوضي محدد على أوضاع التسوية المطروحة، وإيقاف الهزائم والتراجعات الميدانية، لكن بتكاليف كبيرة.
على صعيد موازٍ، لم يكن من الممكن التصدي للتحدي الإرهابي الذي فرضه تنظيم “داعش” إلا من خلال عمل منسق بين عدد من الدول من داخل المنطقة وخارجها.
وكاستجابة للتحدي الذي فرضه هذا التنظيم الإرهابي، سعت مجموعة من الدول من خارج المنطقة وداخلها إلى تكوين “تحالف دولي ضد داعش”، وهو التحالف الذي ضم نحو 20 دولة، وتم تدشينه في سبتمبر من العام 2013.
 
وفي مارس من العام 2015، نجحت المملكة العربية السعودية، في تدشين تحالف عربي تحت اسم “عاصفة الحزم”، اعتمد على مشاركة فعالة من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، وتسع دول أخرى، ضد جماعة “أنصار الله” (الحوثيين)، وأنصار الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.
 
ولقد أنجز هذا التحالف نجاحات عسكرية واضحة، أدت إلى تغيير موازين الصراع السياسي على السلطة، وحافظت على صيانة الهوية العربية لليمن، وحماية حق الشعب اليمني في تقرير مصيره، قبل أن يتم إنهاء العملية، لتدشين عملية جديدة تحت اسم “إعادة الأمل”، في أبريل من العام 2015.
وإضافة إلى تلك التحالفات التي تتفاعل في المنطقة، أعلنت السعودية أيضاً عن تدشين تحالف إسلامي ضد الإرهاب، في ديسمبر من العام 2015، وهو التحالف الذي حظي بإعلان 35 دولة إسلامية انضمامها له، إضافة إلى تأييد عشر دول إسلامية أخرى.
 
إن ارتفاع وتيرة إنشاء التحالفات العسكرية في المنطقة العربية دليل على اختلال توازن القوى في هذه المنطقة من جانب، وزيادة حدة التغيرات والتدخلات الخارجية في أمنها من جانب آخر.
وستكون قدرة هذه التحالفات على تحقيق مصالح المنطقة في الاستقرار والسلام والأمن مرهونة بقدرة الدول السائدة في تشكيلها على تحقيق مصالح متوازنة لكافة الدول الأعضاء.
يبقى أن التاريخ أخبرنا أيضاً أن التحالفات المستندة إلى ذرائع أكثر انتصاراً لقيم السلام والعدل والاستقلال الوطني ومقاومة المذهبية والإرهاب والغزو كانت أقرب إلى تحقيق النصر.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره