مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-01-02

التعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في تعزيز الأمن الفكري: تجارب وتحديات وأفاق

مما لا شك فيه أن الحروب بشكلها التقليدي الواضح قد أصبحت نادرة الحدوث، وإن هناك أشكالا جديدة من الحروب، اتفق علي تسميتها حروب الجيلين الرابع والخامس. وهي تشترك في غالب الأمر بتفجير الدول من الداخل، باعتباره الوسيلة الأمثل لإخضاع العدو دون قتال وبأقل تكلفة كما نظر كتاب «فن الحرب» الشهير وبسهولة أكثر من أي وقت مضى باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الجديد الحديثة التي أدت فيما أدت إليه لارتفاع معدل ظهور ما يستجد من أفكار وسرعة انتشارها. الحروب لم يعد يتم الفوز فيها فقط في الميدان، ولكن قبل كل شيء في عقول الناس.
 
بقلم: د. وائل صالح
 
في هذا السياق لا يمكن إلا إعتبار أن  الأمن الفكري الحجر الأساس في أي مسعى لمكافحة العنف بشتى أشكاله التي تمارسه بعض الجماعات وللمساهمة في حماية مواطني الدولة من التطرف والغلو والأفكار التي تتنافى مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك، وتأصيل مبادئ الدعوة إلى التسامح والأمن والسلام.  فالأمن الفكري من شأنه أن يحفظ مكتسبات الأمن والاستقرار من شر الاختراقات الفكرية الهدامة التي تدعو إلى العنف وفك أواصر التكافل والتضامن والتراحم بين أفراد المجتمع الواحد وبين الثقافة الواحدة والثقافات الأخرى المغايرة لها.
 
الأمن الفكري
لذا ترى معظم الأدبيات أن الأمن الفكري هو مجموعة من النشاطات والتدابير ذات المسؤولية المشتركة بين مؤسسات الدولة والمجتمع لتجنيب الأفراد والجماعات الشوائب الفكرية التي قد تشكل خطراً على نظام الدولة وأمنها وبما يهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار من خلال برامج وخطط تقوم على الارتقاء بالوعي العام لأبناء المجتمع على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، والتي تعمل على تحقيقها أجهزة الدولة المختلفة. وهو ما يتقاطع مع دور كلا من المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات الوطنية.  ومما لاشك فيه أن الأمن الفكري كمبحث علمي هو قلب وروح التعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في هذه المهمة،  حيث علم الأمن الفكري يمكن له أن يساعد في تحديد مكامن الضعف والقوة في حصانة المجتمعات من الأيدلوجيات الهدامة ووضع استراتيجيات لمجابهتها ولتعزيز الحوار حول قضايا الاختراقات الفكرية الهدامة والتطرف والإرهاب وسبل تحصين المجتمعات من تلك التيارات والتوجهات المتطرفة.  
إن مواجهة الانحرافات الفكرية التي تدعو إلى العنف وفك أواصر المواطنة، تتطلب بناء رؤية استراتيجية باستخدام مفهوم الأمن الفكري، بحيث يسير جنب إلى جنب مع المعالجة الأمنية. وتلك الرؤية الإستراتيجية تتطلب شراكة حقيقية بين مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ومراكز الأبحاث والمؤسسات الثقافية والدينية في المجتمع، فضلاً عن منظمات المجتمع المدني، بحيث تستهدف في جوهرها بث أفكار المواطنة والعيش المشترك معاً في اطار الدولة الوطنية ونقد وتفكيك الأفكار المغايرة لذلك. ولهذا فتوظيف مفهوم الأمن الفكري كقيمة مضافة لتصحيح مسار الانحراف الفكري بعيداً عن التطرف والإرهاب والانفصالية عن المجتمع ومحاربة الدولة الوطنية هو مجال ينبغي أن تتعاون فيه المؤسسات العسكرية ذات الصلة ومراكز الفكر والأبحاث.
 
الاغتيال المعرفي  
ويتوجب أيضا أن تتعاون مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ومراكز الأبحاث فى مجابهة ما يمكن تسميته بالاغتيال المعرفي والفكري للأمم epistemological hitmen أو intellectual hitmen والذي يستهدف تييض الأفكار والجماعات، التي لا يمكن لها أن تتواءم مع الحد الأدنى لمعايير التعايش معاً في سلام، في ظل دولة وطنية مواطنية حديثة وحداثية، تسمح باكتساب وتراكم الخبرات، لدوام التطور والنماء. ويهدف هذا الاغتيال المعرفي والفكري للأمم التمهيد لسيطرة القوى دولية أو إقليمية على الدول وفرض إرادتها عليها والهيمنة على مقدراتها، بتعطيل تطورها الفكري والمعرفي، وعزلها عن حركة التاريخ، وتأبيدها في جدليات مفرغة لا يمكن لها إلا أن تؤدي إلى العنف وفك أواصر المواطنة بين أفراد المجتمع الواحد.
ينصب التحول المعاصر في طبيعة الصراعات إذا في استهداف الولاء للدولة الوطنية،  وتمهيد الأرض للتنظيمات التي تستهدف تحلل المجتمع وتشظيه سعيا لاختراق وإضعاف الدولة الوطنية ودفع مكوناتها المؤسساتية والمجتمعية للصراع على أساس اثني أو عقائدي والخروج عن سيطرة الحكومة المركزية. ومن أجل  تحقيق ذلك يتم الدمج بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية. أمام هكذا وضع، لا مناص من تعاون مثمر وبناء بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في تعزيز الأمن الفكري. 
 
التعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في تعزيز الأمن الفكري : تجارب عالمية 
من المتعارف عليه أن التعاون بين  مركز الفكر  ومؤسسات الجيش في الولايات المتحدة ، يكون غالباً على أشده خلال فترات الأزمات والتغيير وأن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمراكز الأبحاث للدفاع عن مصالحه في حرب الأفكار. 
وفي إنجلترا، يلعب المعهد الملكي المتحد للخدمات (RUSI)، هو مؤسسة فكرية مستقلة تعمل في أحدث الأبحاث الدفاعية والأمنية تأسست في عام 1831 من قبل دوق ويلينجتون، دوراً كبيراً لإنشاء جسور تعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في تعزيز الأمن الفكري في المملكة المتحدة. حيث يقوم بإجراء أبحاث وتحليلات على مستوى عالمي حول الأمن الفكري ونشر أفضل الممارسات العالمية وتوفير التدريب العلمي، وتعزيز التفاهم العام من خلال استضافة المؤتمرات وورش العمل والاجتماعات وتقديم التوصيات ودعم تعاون أكبر بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال.
وفي فرنسا تعمل مؤسسة البحث الاستراتيجي (FRS)،  التي تأسست في عام 1992  والتي هي المركز الفرنسي الرئيسي المختص بقضايا الأمن والدفاع الدولي مع بعض المؤسسات العسكرية في فرنسا. وهي مؤسسة عامة مستقلة  (أنشئت بمرسوم في 26 فبراير 1993) وتعمل بشكل مستقل. وتتمثل مهماتها في تحليل مشاكل الاستراتيجية والأمن الدولي، ولا سيما المسائل العسكرية والدفاعية، والمساهمة في النقاش الاستراتيجي في فرنسا وكذلك في تأثير الأفكار الفرنسية في الخارج وتأثير الأفكار الخارجية على فرنسا. إنها أكبر مؤسسة فكر فرنسية مستقلة والوحيدة التي تعمل حصريًا على هذه المجالات. يشارك باحثو FRS في النقاش العام في فرنسا والخارج. وتتم دعوتهم بانتظام لتقديم نتائج أبحاثهم وسائل الإعلام الرئيسية ومن أهم الأمن الفكري والتطرف والإرهاب. 
وأنشئت المدرسة العسكرية الفرنسية معهد البحوث الاستراتيجية (IRSEM)، وهو مركز رائد في دراسات الحروب بكل أشكالها وتربط دراساتها وتحليلاته العلاقة بين المجتمع والجيوش  حيث يري المركز أنهما نقطة الوصل بين القضايا الخاصة بالعالم العسكري والتغيرات المجتمعية التي يواجهها. من أهم ما يدرسه المركز الصراعات المتعددة الأبعاد، والتطرف والأمن الفكري للمجتمعات. 
وفي إطار عمله  في نطاق الأمن الفكري أصدر المعهد (IRSEM) تقريره مفصلا تحت عنوان «التلاعب بالمعلومات يمثل تحديًا لديمقراطياتنا»، حيث أكد فيه أنه على الرغم من التلاعب بالمعلومات ليس ظاهرة جديدة،إلا أن القدرات غير المسبوقة للنشر السريع والحيوية والديناميكية التي يوفرها الإنترنت والشبكات الاجتماعية ، إلى جانب أزمة الثقة التي تعيشها الديمقراطيات الغربية  ليس لها إلا  أن تؤدي لانهيار مسلّمة عصمة الأغلبية العاقلة وحكمتها، وهي الفكرة التي تأسست عليها الديمقراطية. حيث ازداد رفض الناس لتقبّل الحقائق، وتنامي قبولهم للكذب، حتى المفضوح منه. وأستهدف هذا التقرير ليكون مرجعا يساعد المواطنين على التفرقة بين المعلومات Information والمعلومات الخاطئة Misinformation والتضليل المعلوماتي Disinformation.
 
بعض تحديات وأفاق مستقبل  هذا التعاون في العالم العربي 
رغم ما يتعرض له عالمنا العربي من حروب فكرية منذ ميلاد دوله الوطنية ما بعد الاستقلال، إلا أن يبدو لنا أن هناك ضعفاً جلياً في المخصصات المادية اللازمة لدعم البحوث والدراسات المتعلقة بالأمن الفكري وكذلك تلك الداعمة للأنشطة التعليمية والتدريبية في هذا المجال في الكثير من الدول العربية، وهناك ندرة ومحدودية في الدورات التعليمية المتخصصة ذات الصلة بالأمن الفكري، وهناك محدودية في الموضوعات المعززة للأمن الفكري في محتوى البرامج التعليمية والإعلامية، ولا تتوافر غالباً خطط واضحة ومستمرة للأنشطة التعليمية والإعلامية الداعمة للأمن الفكري لدى الشباب، وهناك ضعفاً عاماً في تقدير خطورة الانحراف الفكري خصوصاً لدى الشباب. مما يستدعي جهداً تشاركياً وتعاوناً ملحاً بين مراكز الأبحاث المختصة بعالم الفكر والمؤسسات العسكرية المسؤولة الأولى عن حفظ الوطن ومكتسباته.
ويمكن، بعد الإطلاع  علي أهم الأدبيات التي كتبت حول الموضوع، تلخيص أوجه التعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الدراسات في تعزيز الأمن الفكري لدى مواطني الدولة فيما يلي: عقد دورات تعليمية متخصصة لقضايا الأمن الفكري، اعتماد أساليب وطرق علمية سليمة للكشف عن المواطنين الذين يحملون أفكاراً تتعارض مع الأمن الفكري للمجتمع خصوصا بين الشباب، عقد لقاءات علمية متخصصة في الأمن الفكري، تضمين محتوى البرامج التعليمية مقررات أو مواضيع ذات صلة مباشرة بالأمن الفكري، وضع خطط وبرامج لممارسة الأنشطة التعليمية الداعمة للأمن الفكري لدى المواطنين، وتنظيم زيارات المواطنين بمختلف أعمارهم للمؤسسات المعنية بمواجهة الانحرافات الفكرية، وإنتاج مواد إعلامية محلية لدعم وتعزيز الأمن الفكري لدى مواطني الدولة والمقيمين على أراضيها، حرص قيادة المؤسسات العسكرية ومراكز البحوث على تعزيز معارف فريق العمل المشترك للتدريس والتدريب لتعزيز الأمن الفكري لدى شرائح المجتمع المختلفة، كتابة ونشر البحوث والدراسات والتقارير المرتبطة بالأمن الفكري وتبسيطها. تفعيل نظام التعليم الإلكتروني والاستفادة من التقنيات الحديثة في تحسين وتطوير مخرجات التعليم والتدريب في مجال الأمن الفكري.
 
الخلاصة 
كما أشار المؤلف الروسي، كارل فون كلاوزفيتز، في كتابه «عن الحرب» أن الحرب تشتعل على نحو ثابت، وتدور دائماً حول التفاعل المعقد بين ثلاثة عوامل دائمة: العاطفة، والمكاسب، والعقل. ومجال الحرب الآن هو الأفكار التي من الممكن لها أن تحقق الأهداف التقليدية للحرب وهي فرض الإرادة على العدو  ولكن بطرق غير عسكرية تقليدية. وفي ظل عالم يتسم أكثر من أي وقت مضى بعدم اليقين والتعقيد يصبح التعاون بين المؤسسات العسكرية ومراكز الأبحاث حتميا ومظهرا من مظاهر القوة الوطنية وله تداعيات مهمة على قدرة الدولة لضمان أمنها. 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره