مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2016-02-01

الشجاعة والصبـرعلى الشـدائد

بعد محاورة طويلة حول معنى الشجاعة أشاح سقراط بيده وقال لأصحابه: لقد فشلنا في أن نكتشف ماهية الشجاعة». ولم يكن مرد هذا اليأس إلى كسل عقلي أو سؤال من ليسوا من أهل الاختصاص، بل كان منبعه تعقد معنى الشجاعة إلى الدرجة التي تجعل فهمها مرتبطاً بفهم الوجود نفسه.
 
بقلم: د. عمار علي حسن
 
لكن البشر لم يهملوا في تاريخهم الطويل البحث عن معنى للشجاعة، حتى لو كان غير جامع ولا مانع. وفي المعنى العام المتواتر استخدامه في قواميس العرب تعني الشجاعة الجرأة والإقدام التي تقوم على شدة القلب في البأس، والصبر والثبات على جلب الأمور الناقعة ودفع الأمور الضارة، واستطاعة التغلب على رهبة المواقف. ويرى الفقيه العظيم ابن حزم الأندلسي أنها بذل النفس للذود عن الدين أو الحريم أو عن الجار المضطهد أو المستجير المظلوم، وعمن هضم ظلما في المال والعرض، وسائر سبل الحق سواء قل من يعارض أو كثر.
 
 
أما عالم اللغويات عبدالقاهر الجرجاني فينظر إليها باعتبارها هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها. ويعتبرها الجاحظ الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت.
 
ويعتقد الفيلسوف عبدالغفار مكاوي أن هناك نوعين من الشجاعة، سياسية وصوفية، الأولى تقاوم ما يعترضها من صعاب في سبيل تحقيق العدل، والثانية تسير بالنفس في ليل العالم وتخترق بها ظلام المادة والحواس. ومع أنهما مختلفتان فإنهما ينهلان من نبع واحد، يتمثل في التخلي عن الذات أو العالم والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل قيمة أسمى، وكلاهما يحارب الشر في العالم، ويحدوه الأمل في النصر، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس.
 
وهنا نرى أن الشجاعة تتعلق بإدراك الموت، ولذا لا يمكن للحيوان أو الملاك أن يتصفا بالشجاعة. فالشجاع هو الذي يواجه الموت في كل وقت، ويستعد أن يلاقيه في أي مكان، ولذا فإن الاستشهاد هو غاية الشجاعة، والدم تاجها، سواء كان في سبيل العقيدة الدينية أو في سبيل الوطن والمبدأ أو تحقيق رسالة في الحياة.
 
وفي المعاجم الأجنبية تشتق كلمة الشجاعة Courage  من الكلمة الفرنسية Coeur ومعناها القلب. فكما يضخ القلب الدماء في أجسادنا فيمكننا من استعمال كل أجزائها لتؤدي وظائفها، فإن الشجاعة تضخ في أوصالنا كل ما يجعل الفضائل النفسية الأخرى ممكنة، وبدونها تتحلل الفضائل جميعا، والشجاعة ضرورية لتجعل الوجود والصيرورة شيئا ممكنا. ويعرف القائد الإغريقي نيكياس الشجاعة بأنها «العلم بما ينبغي أن يخشاه الإنسان وما يستطيع أن يتجاسر على الإقدام عليه، سواء في الحرب أو في غيرها من الأحوال».
 
واعتبر أفلاطون أن الشجاعة هي الجهد الذي يقع بين العقل والحس، ويجعل المرء يسعى سعياً غير إرادي إلى كل ما هو عظيم ونبيل. وهي بذلك تحتل موقعاً وسطاً ومركزياً من النفس، ولا يحوزها إلا الحراس أو الأرستقراطية المسلحة. ووافقه أرسطو في حصر الشجاعة في طبقة المقاتلين، ليكون الشجاع في نظره هو من يقدم على الفعل من أجل ما هو نبيل، وما يستحق الثناء، وما يبتعد عن الاحتقار، وهي تفرض التضحية بكثير من العناصر التي تتعلق بوجود الإنسان، وهي التي تثبت جوهر الإنسان وهدفه الباطن، وتحقق في الفعل كماله وقدراته، رغم المصاعب والمتاعب والأهوال.
 
 ويعرف الأديب الأمريكي الكبير أرنست هيمنجواي الشجاعة بأنها الصبر الجميل على الشدائد، والعنصر الجسور الملهم من عناصر الروح، التي تمكنها من الانتصار على أعتى الأخطار. ويتفق الفلاسفة الأوربيون نيتشه وسارتر وكامو وكيركجور على أن الشجاعة لا تعني غياب اليأس، وإنما القدرة على التقدم في الحياة رغم اليأس.
 
وفي سياق فلسفة القوة التي يؤمن بها والتي تقول للإنسان في صراحة جلية: «عش في خطر» يرى نيتشه أن الخير يكمن في الشجاعة، إذ يقول في كتابه الشهير «هكذا تحدث زرادشت: «تسألون ما هو الخير؟ الخير هو أن تكون شجاعاً... والخير ألا تهتم بالحياة الطويلة، ولا بالنجاة من الأخطار، وألا تحب الحياة حبا يجعلك تتعلق بها مهما نفت إرادة القوة والحياة فيك». 
 
ويوزع المفكر وعالم النفس الأمريكي روللو ماي الشجاعة على أربعة أصناف، الأول يتضمن الشجاعة البدنية، والتي هي أبسط أنواعها وأوضحها. ودار هذا النوع طيلة التاريخ الإنساني حول العضلات المفتولة وخفة اليد ومهارة الاشتباك في المعارك والقدرة على ممارسة العنف المادي ضد الآخرين.
 
لكن ظهرت في الآونة الأخيرة اتجاهات ترمي إلى تحويل الطاقة الجسدية للشجاعة من العنف إلى اكتساب حساسية التفكير بالجسد، واستخدامه في التعاطف مع الآخرين، والتعبير عن الذات بوصفها شيئاً جميلاً، ومصدراً ثرياً من مصادر المتعة الحياتية. وهنا لا يصير الجسد موضعاً للإدانة، بل يصبح مصدراً للكبرياء. 
 
والصنف الثاني هو الشجاعة الأدبية التي تعني القدرة على اجتياز الصعاب ومواجهة المتاعب بالاعتماد على قوة الإرادة والتمسك الصارم بالمبادئ والتحلي بالصبر والإيمان بانتصار الحق في النهاية. ويشترط هذا النوع من الشجاعة الإحساس بالناس وإدراك معاناتهم، والالتزام بالدفاع عنهم، وتبني قضاياهم.
 
 ويحفل التاريخ الإنساني برجال تحلو بشجاعة أدبية كبيرة مثل تلك التي امتلكها صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحملهم لأشد ألوان التعذيب دون أن يفرطوا في عقيدتهم، وتلك التي تملكت أحمد بن حنبل فأعانته على تحمل التعذيب على أيدي رجال الخليفة المأمون كي يقبل فكرة «خلق القرآن»، وكذلك تحمل حبيب بن زيد الأنصاري تقطيع جسمه إرباً إرباً صامداً حتى آخر قطرة في دمه على أيدي مدعي النبوة مسيلمة الكذاب. ووقف خبيب بن عدي فقد وقف على المشنقة وهو ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلـك في ذات الإلـه وإن  يشــأ يبارك على أشـــلاء شلو ممزع
 
وحلت الشجاعة في نفس سقراط فتجرع السم الزعاف حتى لا يخون المبادئ التي نادى بها، وحلت في رأس وقلب نيلسون مانديلا فتحمل السجن طويلاً من دون أن يفقد الأمل أبداً في أن بلاده ستنال حريتها.
 
وتحلى الكاتب الروسي ألكسندر سولجنستين بشجاعة فائقة في مواجهة استبداد الحزب الشيوعي الروسي، ودخل بسببها السجن، لكنه لم ينحن. وتكرر هذا النوع من الشجاعة مرات لا حصر لها في تاريخ البشرية من خلال القائمين على حركات وتنظيمات وجماعات النضال والمقاومة والتمرد والخروج على الظلم والاستبداد، والمدافعين على الأرض والعرض في مواجهة الغزاة والمحتلين.
 
أما الصنف الثالث فهو الشجاعة الاجتماعية التي تعني المخاطرة بالنفس أملاً في تحقيق علاقات إنسانية حميمة وذات معنى، تجعل الإنسان يتقاسم مع الآخرين آمالهم وأحلامهم ومخاوفهم وتطلعاتهم، ويدخل معهم في تفاعل جدي، لقتل الاغتراب، والتمتع بالتعرف على أفراد جدد.
 
والصنف الرابع هو الشجاعة الخلاقة التي تقوم على اكتشاف أشكال ورموز ونماذج جديدة تشد عربة الحياة إلى الأمام. ولا تخلو مهنة من المهن التي عرفها البشر من فرص متعددة لتحقيق الشجاعة الخلاقة، بدءاً من الهندسة وانتهاء بالدبلوماسية، مروراً بالشعر والفن والموسيقى.
 
ونحن في العالم العربي في حاجة ماسة إلى الشجاعة الخلاقة كي ننتشل أنفسنا من التخلف والقهر، ونملأ حياتنا بالمعاني الجميلة والنبيلة والحقيقية، بقدر ما نحن في حاجة إلى الشجاعة الأدبية في مواجهة الاستبداد والظلم بشتى صوره، والشجاعة الأدبية في مواجهة الغزاة الذين احتلوا أرضنا، وانتهكوا حرماتنا، ولن ينفكوا عنا إلا إذا أذقناهم بأسنا.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره