مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-05-01

القوة العسكرية وأثرها في تعظيم القوة الشاملة للدول في عالم ما بعد كوفيد - 19

رغم الجدل الذي صاحب جائحة «كوفيد- 19» منذ ظهورها نهاية العام 2019، وخاصة فيما يتعلق بتراجع دور القوة العسكرية لصالح جوانب القوة الأخرى، وخاصة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعدما أظهرت الدول التي تمتلك قدرات عسكرية كبيرة عجزاً واضحاً في إدارة هذه الجائحة مقارنة بالدول الأخرى، لكن الواقع الراهن يشير بوضوح إلى أن القوة العسكرية ما تزال تشكل الركيزة الرئيسية لتعظيم القوة الشاملة للدول، والمعيار الرئيسي لتقييم وزنها السياسي في النظام الدولي، ولعل هذا ما يفسر مساعي القوى الكبرى، كالولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، إلى تطوير قدراتها العسكرية وزيادة ميزانياتها الدفاعية عاماً بعد الآخر رغم الآثار السلبية التي خلفتها هذه الجائحة على اقتصادياتها. 
 
بقلم: العقيد الركن/ يوسف جمعه الحداد
 
مفهوم القوة العسكرية وعلاقتها بالقوة الشاملة للدولة
لا ينصرف مفهوم القوة العسكرية إلى المعنى المادي فقط، والذي يشمل المعدات العسكرية والقدرات التكنولوجية وجاهزية الجيوش القتالية، وإنما يتضمن أيضاً الأثر المعنوي لهذه القوة، والمردود الناجم عنها، وخاصة في التأثير في سلوك الآخرين أو الضغط عليهم لتبني سلوك بعينه تجاه قضية معينة ، بمعنى آخر فإن التهديد باستخدام القوة العسكرية قد يؤدي نفس الأثر المرجو في حال استخدامها، ولعل هذا ما يفسر حرص القوى الكبرى على الإعلان من حين لآخر عن منظومات متطورة من الأسلحة، وذلك بهدف تعزيز مصداقية استراتيجية الردع لديها في مواجهة الدول المنافسة لها، حتى أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صرح ذات مرة، قائلاً: «أن بلاده لا تريد استخدام  سلاحها الأقوى في العالم  بل تكتفي بامتلاكه».
 
وتندرج القوة العسكرية ضمن أدوات القوة الصلبة أو الخشنة التي تلجأ إليها الدول لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية، وخاصة في إدارة الصراعات والأزمات الخارجية، على النحو الذي بدا واضحاً خلال حقبة الحرب الباردة، حينما كان سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق أساس الردع المتبادل بينهما. وما تزال القوة العسكرية في الوقت الراهن أهم أدوات تنفيذ السياسة الخارجية للقوى الكبرى والإقليمية في العالم، سواء بشكل مباشر من خلال استخدامعها الفعلي أو غير مباشر من خلال التهديد باستخدامها لردع خصومها ومنافسيها.
 
ورغم أن النظريات الأمنية والدفاعية الحديثة تشير إلى أن القوة العسكرية لا يمكن أن يكتمل تأثيرها بمعزل عن جوانب القوة الأخرى، وخاصة التكنولوجية والاقتصادية والثقافية والسياسية، إلا أن التطورات والمعطيات التي شهدتها البيئتان الإقليمية والدولية في السنوات الماضية، وخاصة منذ جائحة كوفيد- 19،  تشير بوضوح إلى أن القوة العسكرية ما تزال تمثل الركيزة الرئيسية للقوة الشاملة للدول، والعامل الرئيسي في تحديد وزنها السياسي في النظام الدولي، وهذا يمثل عودة للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي كانت تنظر إلى القوة العسكرية باعتبارها حجر الأساس في القوة الشاملة للدول، وأن السلوك الدولي والحروب والتحالفات والبحث عن الهيمنة والسعي لإيجاد التوازن في القوى يمكن التنبؤ به من خلال النفوذ العسكري لأعضاء النظام الدولي، ومن هذا المنطلق تسعى الدول لتعظيم قوتها العسكرية، باعتبارها أهم أدوات تحقيق مصالحها القومية. 
 
ويتفق العديد من خبراء الأمن القومي والاستراتيجية على أن القوة العسكرية ما تزال تشكل بالفعل الركيزة الرئيسية في تعظيم القوة الشاملة للدول، والأداة المثلي لتعزيز نفوذها السياسي في النظام الدولي، خاصة أن امتلاك دولة ما لقوة عسكرية كبيرة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت تمتلك مظاهر القوة الأخرى، الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والثقافية، بمعنى آخر فإن القوة العسكرية يمكن اعتبارها تجسيد واضح لقوة الدولة الشاملة. 
 
وهناك من يرى أن القوة العسكرية تشكل الأساس التي تنطلق منه الدول في تعظيم قدراتها المختلفة، فهي من ناحية توفر البيئة التي تضمن للدول للنمو والتطور في المجالات الأخرى، كما أنها تدعم السياسة الخارجية للدول، وتعزز مواقفها تجاه مختلف القضايا وتضفي عليها نوعاً من المصداقية والتأثير والفاعلية، وليس أدل على ذلك من أن استراتيجية الردع العسكري التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تجاه إيران كان لها أثرها الفاعل في تحجيم تحركاتها، لأنها كانت تدرك أن أي سلوك عدائي من جانبها سيقابل بالحسم العسكري، وكانت عملية استهداف قاسم سليماني قائد قيلق القدس التابع للحرس الثوري في الثالث من يناير 2020 بواسطة قصف صاروخي أمريكي بالقرب من مطار بغداد رسالة واضحة في هذا الخصوص،  وأسهمت في استعادة هيبة ومصداقية الردع الأمريكية تجاه إيران ووكلائها في المنطقة.
 
وفي الوقت ذاته، فإن القوة العسكرية، وما يرتبط بها من صناعات دفاعية متطورة وبنية تقنية متقدمة، تشكل أهم مقومات القوة الشاملة لأي دولة، ليس فقط لأنها تعزز من قوة ردع القوات المسلحة وتضمن استدامة تسليحها، وإنما أيضاً لأن هذه الصناعات تسهم في دعم اقتصاديات الدول، وإضافة روافد جديدة للتنمية، كما تتيح للدول هامشاً من الحركة وتعزز من مكانتها الإقليمية والدولية، وتسهم كذلك في تنمية مواردها البشرية وتعزيز قدراتها التكنولوجية.
 
التنافس بين القوى الكبرى على تعظيم قوتها العسكرية   
في الوقت الذي كانت فيه التوقعات تشير إلى أن جائحة كوفيد-19 وما صاحبها من تداعيات سلبية، ستعيد النظر في سلم أولويات الدول، ودفعها إلى التركيز على الجوانب الاقتصادية والصحية والاجتماعية، باعتبارها تشكل الأساس في تعزيز قدرتها على مواجهة الأزمات والكوارث الطارئة، إلا أن الواقع الدولي الراهن ما يزال يشهد تنافساً بين القوى الكبرى على تعظيم قوتها العسكرية، سواء من خلال زيادة الميزانيات الدفاعية أو من خلال  تطوير القدرات العسكرية بشكل متواصل لتضم ترسانتها أحدث أنواع الأسلحة التي تعزز من قدراتها الرادعة، وتخدم أهداف سياستها الخارجية، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك:
 
1 -القوة العسكرية رهان الولايات المتحدة على استمرار قيادتها للنظام الدولي: تأتي الأداة العسكرية في مقدمة الأدوات التي تلجأ إليها الولايات المتحدة في الحفاظ على الأمن القومي والمصالح الأمريكية في الخارج، فالحفاظ على قوة عسكرية متطورة قادرة على حسم أي صراعات خارجية يمثل أحد الثوابت الرئيسية في استراتيجية الدفاع الأمريكية، بغض النظر عما إذا كان الرئيس ينتمي إلى الحزب الجمهوري أو الديموقراطي، وليس أدل على ذلك، من أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وضع هدف تعظيم القوة العسكرية للولايات المتحدة في مقدمة أولويات إدارته، باعتبارها الأداة لتأكيد تفوقها العالمي، واتخذ قراراً تنفيذياً في الشهر الأول من توليه السلطة في يناير 2017 يهدف إلى إطلاق عملية «إعادة بناء ضخمة» للقوات المسلحة الأمريكية، تتضمن تزويد القوة العسكرية الأولى في العالم بسفن حربية وطائرات وموارد جديدة، وكثيراً ما كان يشير في خطاباته وتصريحاته إلى أنه نجح في استعادة مكانة الجيش الأمريكي كأقوى جيش في العالم، بل وكشف عن امتلاك بلاده لأقوى أسلحة في العالم. 
 
وتولي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هي الأخرى اهتماماً واضحاً بتطوير القوة العسكرية للولايات المتحدة، وهذا ما تؤكده الوثائق الرسمية الصادرة عن إدارته خلال الأشهر الماضية والتي تشير بوضوح إلى أنها ماضية في استخدام القوة العسكرية في مواجهة التهديدات والمخاطر التي تواجه الولايات المتحدة في الخارج، والتي قد تؤثر على مصالحها أو أمن وسلامة الأمريكيين في الخارج، وليس أدل على قيام الولايات المتحدة في شهر فبراير 2021 بتوجيه ضربة عسكرية ضد البنية التحتية للجماعات المدعومة من إيران في سوريا. في الوقت ذاته، فإن ميزانية الدفاع الأمريكية للعام المقبل 2022 التي اقترحها بايدن على الكونجرس في شهر أبريل 2021 وتتضمن تخصيص 715 مليار دولار لوزارة الدفاع «البنتاجون»، تشير بوضوح إلى أهمية القوة العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط لأنها تؤكد أهمية العمل على تعزيز القدرات التقليدية وغير التقليدية والتي تشمل القوة النووية والصاروخية والتركيز على الأسلحة الذكية ومواجهة الحروب البيولوجية، وإنما أيضاً لأنها تؤكد بصورة قاطعة على أهمية القوة العسكرية في مواجهة التهديدات الصينية والروسية وأي تحديات أو مخاطر خارجية تهدد الأمن القومي والمصالح الأمريكية في الخارج.
 
2 - الصين ومحاولات بناء قوة عسكرية لتعزيز نفوذها وتأثيرها في النظام الدولي: يبدو أن الصين عازمة على تحويل قوتها الاقتصادية والتكنولوجية إلى قوة عسكرية موازية ليس فقط للدفاع عن مصالحها، وإنما أيضاً لتأكيد مكانتها في المستقبل باعتبارها تمتلك مقومات قيادة النظام الدولي في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد- 19، فخلافاً للصورة التقليدية التي كانت سائدة عن الصين لدى العالم أجمع، باعتبارها قوة اقتصادية بالأساس لا تطمح إلى لعب دور سياسي أو عسكري أو أمني في النظام الدولي، يبدو أنها تسعى الآن إلى بناء صورة جديدة تؤكد من خلالها أنها قوة عالمية بامتياز، وتمتلك قوة عسكرية متطورة تنافس إن لم تكن تتفوق على الولايات المتحدة في بعض المجالات، وخاصة الأسلحة الذكية التي تعتمد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، التي تمتلك فيها خبرات متقدمة.
 
وتحتل الصين الآن المرتبة الثالثة بين أقوى جيوش العالم، وفقاً لتصنيف «جلوبال فاير باور» الأمريكي للعام 2021،  كما تمتلك ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم، وتواصل تطوير قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية، وأعلنت في مارس 2021 ميزانيتها العسكرية للعام 2021 والتي تقدر بـ 209 مليارات دولار، وذلك بزيادة %6.6 عن ميزانية العام 2020، وتتضمن هذه الميزانية الإنفاق على تطوير منظومة الأسلحة الصاروخية والنووية والفضائية، وذلك في إشارة واضحة على مواصلة بكين تعزيز قوتها العسكرية ليس فقط لمواجهة التهديدات والمخاطر الخارجية، وإنما أيضاً لتأكيد مكانتها ونفوذها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا.
 
3 - القوة العسكرية خيار روسيا لاستعادة مكانة القوة العظمي في النظام الدولي: تدرك روسيا في ظل قيادة الرئيس فلاديمير بوتين أن القوة العسكرية هي الأداة الرئيسية لاستعادة مكانتها كقوة عظمي في النظام الدولي، وكثيراً ما تستعرض أحدث منظوماتها من الأسلحة المتطورة من حين لآخر، بل أن الرئيس بوتين كثيراً ما يعلن عن امتلاك بلاده لأسلحة متقدمة لا تمتلكها دول أخرى، ففي مايو 2020 صرح أن روسيا تمكنت من تصميم أسلحة عالية التقنية لا نظير لها في أي دولة أخرى في العالم، وذلك بفضل مستوى العلوم وكوادر الهندسة في روسيا. وتحاول روسيا من خلال الإعلان عن هذه النوعية من الأسلحة إثبات أنها تمتلك الجيش الأقوى تسليحاً في العالم، وأنها تنفرد دون غيرها من دول العالم بامتلاك نوعية جديدة تعمل بتقنية فائقة التطور، وهي التقنية المعروفة بالصوتية المفرطة وفق وصف بوتين لها.
 
4 - بريطانيا وتحديث قوتها المسلحة بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي: أصبح تطوير القدرات العسكرية خياراً حتمياً لبريطانيا بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ليس فقط لتحقيق نوع من الاستقلال الدفاعي عن أوروبا، وإنما أيضاً في مواجهة التحديات الخارجية، وخاصة في ظل توتر علاقاتها مع موسكو، وهذا ما يمكن فهمه من استراتيجية الدفاع البريطانية الجديدة، التي تم الإعلان عنها في شهر مارس 2021، والتي تشير بوضوح إلى أن بريطانيا تحتفظ بأربع غواصات مسلحة نوويًا، واحدة منها ستكون في حالة تأهب دائم، واللافت في هذه الاستراتيجية أيضاً ما كشفت عنه من أن بريطانيا  تخطط لزيادة ترسانتها النووية بنحو النصف تقريباً، وذلك في مؤشر واضح على أنها تمضي قدماً في تطوير قدراتها غير التقليدية لمواكبة القوى الدولية الكبرى في هذا الشأن، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين من ناحية وتعزيز قدراتها الرادعة النووية من ناحية ثانية. 
 
 وحسب استراتيجية الدفاع  البريطانية فإن المملكة المتحدة ستنشئ قيادة فضائية جديدة وستدعم قطاع الفضاء التجاري حتى تتمكن البلاد من إطلاق أقمار صناعية من أراضيها بحلول عام 2022، معولة على الحصول على إمكانيات حماية المصالح البريطانية في الفضاء بحلول عام 2030. وترصد استراتيجية الدفاع أكثر من ربع تريليون دولار لوزارة الدفاع لكل عمليات التحديث والتطوير لإعادة بناء القوات المسلحة، وخاصة تحديث نظام الصواريخ الباليستية Trident، التي تزوّد بها بغواصات من طرازVanguard، وهي غواصات من المتوقع أن يتمّ استبدالها بغواصات من طرازDreadnought بحلول 2030.
 
5 - الاتحاد الأوروبي وتجدد حلم الجيش الموحد:  يعمل الاتحاد الأوروبي على تطوير قوة عسكرية أكبر بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، حيث تقود فرنسا وألمانيا هذا الاتجاه، بهدف بناء جيش أوروبي موحد،  وتخصص الموازنة الأوروبية ما قيمته مليار يورو سنوياً على مدى سبع سنوات لتمويل صندوق الدفاع الأوروبي. ولا يمكن فصل ذلك عن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي سيزيد من الأعباء الأمنية والدفاعية لأوروبا،  خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار حقيقة أن بريطانيا تمثل قوة عسكرية كبيرة، سواء لجيشها القوي أو لما تمتلكه من أسلحة نووية، ولهذا فإن محاولات بناء جيش موحد من شأنه أن يبعث برسالة بأن أوروبا قادرة على اتخاذ إجراءات تعزز من سياساتها الدفاعية والأمنية المشتركة، وذلك في مواجهة أية تحديات أو مخاطر خارجية محتملة.  
 
في السياق ذاته، يواصل حلف شمال الأطلسي تطوير قدراته العسكرية، وحسب التقرير السنوي للحلف الذي قدمه السكرتير العام ينس ستولتنبرج في شهر مارس 2021، فإن الإنفاق العسكري للدول الثلاثين الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ارتفع العام 2020  بنسبة 2،7 بالمئة مقارنة بعام 2019، وذلك على الرغم من الضغوط الهائلة التي تسببت فيها جائحة كورونا على الإنفاق العام في دول الحلف، حيث أنفق أعضاء الحلف 1،1 تريليون دولار . ويلتزم الآن 11 من الدول الأعضاء في الناتو بالنسبة المستهدفة للإنفاق العسكري والتي تبلغ 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، مقابل ثلاث دول فقط في 2015، وهو العام الذي التزم فيه أعضاء الحلف بهذا الهدف. ومازالت الولايات المتحدة تخصص أعلى نسبة للإنفاق العسكري بفارق كبير عن باقي دول الحلف، حيث يبلغ إنفاق واشنطن 7ر3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، تليها اليونان واستونيا وبريطانيا.
 
ماذا وراء التنافس بين القوى الكبرى على تعظيم قوتها العسكرية؟
  التنافس بين القوى الكبرى على تعظيم قدراتها العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، تقف ورائه مجموعة من العوامل والاعتبارات يمكن توضيحها على النحو التالي:
1 -تزايد قناعة القوى الكبرى بأن القوة العسكرية ما تزال أهم أدوات تنفيذ سياستها الخارجية والحفاظ على أمنها القومي، بالرغم من تأثير جائجة كوفيد- 19 على اقتصاديات هذه الدول. وهذا ما يمكن فهمه من العقيدة العسكرية والاستراتيجيات الأمنية التي تتبناها هذه القوى الكبرى، والتي تؤكد على أهمية المضي قدماً في تطوير قواتها المسلحة وتعظيم قدراتها الرادعة. 
 
2 - استمرار الصراع بين القوى الكبرى على النفوذ في العالم: تمثل القوة العسكرية أهم الأدوات التي تلجأ إليها القوى الكبرى لتعزيز نفوذها والدفاع عن مصالحها في المناطق المتنازع عليها، فروسيا على سبيل توظف قوتها العسكرية كأداة ردع في مواجهة تمدد حلف الناتو، وخاصة في الدول التي تشترك معها في الحدود، كأوكرانيا. كما أنها تسعى إلى تعزيز نفوذها على بعض المناطق الاستراتيجية التي تمثل أهمية لأمنها القومي، حيث قامت في شهر أبريل 2021 بحشد قوة عسكرية غير مسبوقة في القطب الشمالي، وقامت باختبار أحدث أسلحتها في منطقة جليدية خالية حولتها إلى قاعدة عسكرية، وذلك في محاولة تأمين ساحلها الشمالي وفتح طريق شحن رئيسي من آسيا إلى أوروبا. وأظهرت صور حديثة للأقمار الاصطناعية، تراكمًا مستمرًا للصواريخ في القواعد العسكرية الروسية على ساحل القطب الشمالي للبلاد، بالإضافة إلى مرافق للتخزين تحت الأرض تحتوي -على الأرجح- على الطوربيد بوسيدون وأسلحة أخرى عالية التقنية.
 
 الصين هي الأخرى تركز على القوة العسكرية ضمن معادلة قوتها الشاملة، بعدما أدركت أن هذه القوة تمثل ضمانة لمصالحها وردع لخصومها في الوقت ذاته، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار حقيقة أن المناطق المتنازع عليها مع دول الجوار تضم ثروات هائلة، فالخلاف مع عدة دول في منطقة جنوب شرق آسيا حول تبعية عدد من الجزر في بحر الصين الجنوبي تصاعد بصورة لافتة بعد اكتشاف احتياطيات كبيرة من النفط فيها. بريطانيا هي الأخرى وفي إطار استعدادها لمرحلة ما بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، تستعد لتعزيز دورها العالمي، والتواجد في المناطق الاستراتيجية التي ترتبط بأمنها القومي، وخاصة منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأمر الذي يتطلب تطوير قواتها المسلحة ورفع كفاءتها واستعدادها القتالي.
 
3 - تنامي استخدام القوة في العلاقات الدولية، وخاصة في مناطق الصراعات على النفوذ، كمنطقة بحر الصين الجنوبي، والذي قد يتحول إلى ساحة للمواجهة بين الجيشين الأمريكي والصيني، في ظل تكرار المناوشات البسيطة بين السفن الحربية الأمريكية، والسفن الحربية الصينية أثناء تسيير الدوريات البحرية في بحر الصين الجنوبي، الذي يعتبر أحد القضايا الخلافية بين الدولتين. أيضاً فإن أزمة أوكرانيا تقدم نموذجاً لتوظيف القوة العسكرية في إدارة الصراع بين روسيا وحلف الناتو، حيث يتم تبادل الاتهامات والتهديدات بين الطرفين من حين لآخر، وكان آخرها في شهر أبريل 2021، حينما حذرت موسكو الحلف من إرسال قوات لأوكرانيا. ولا شك في أن هذا التوجه المستمر في استخدام القوة في إدارة الصراعات والنزاعات الدولية يفسر في جانب منه تركيز القوى الكبرى على تطوير قدراتها العسكرية، و تعزيز قدراتها الرادعة في مواجهة الخصوم.
 
4 - الصراع على إعادة تشكيل النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا: لا شك أن التداعيات التي ترتبت على وباء كورونا قد تؤسس لتحولات عميقة في بنية النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا؛ لصالح بناء نظام متعدد الأقطاب، تبرز فيها الصين وروسيا كأحد أهم هذه الأقطاب، فضلاً عن تصاعد الوزن النسبي للعديد من القوى الآسيوية في هذا النظام المحتمل بشكل مواز مع الاتحاد الأوروبي، بناء على التجارب المختلفة في الاستجابة مع وباء كورونا، ولكي تعزز هذه القوى مكانتها في عالم ما بعد كورونا فإنها تنظر إلى القوة العسكرية، باعتبارها أهم أدواتها لتحقيق ذلك.  
 
خاتمة
في الوقت الذي كانت فيه التوقعات تشير إلى أن جائحة كوفيد-19 ستدفع القوى الكبرى على إعادة النظر في أولوياتها الدفاعية والأمنية، والتخلي عن جانب من إنفاقها العسكري وتوجيهه للصحة العامة والتعليم وبناء منظومة من الأمان الاجتماعي، إلا أن ذلك لم يتحقق، بل أنها زادت من ميزانياتها الدفاعية وأعلنت عن مشاريع جديدة لتطوير منظوماتها من الأسلحة غير التقليدية، النووية والصاروخية العابرة للقارات، وذلك في عودة واضحة إلى أجواء الحرب الباردة، التي تشكل فيها القوة العسكرية والسباق على التفوق في مجال التسلح أهم معايير القوة والنفوذ في النظام الدولي.  
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره