مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2016-11-01

القوة الناعمة:سلاح الجاذبية والتأثير

ما الذي يجعل دولة تُصنّف بأنها دولة قوية وما الذي يمكّن دولة على فرض إرادتها على دولة أخرى؟ هل هي القوة العسكرية، أم القدرة الاقتصادية، أم الكتلة الحيوية للدولة أو خليط منهم؟ سؤال تداوله السياسيون والمفكرون الاستراتيجيون منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام النظام العالمي الحالي. 
 
فمنذ انهيار الإمبراطوريات و الدول الاستعمارية انتهى عصر القوة الكلاسيكية المبنية على القوة العسكرية والاقتصادية والمساحة الجغرافية والموارد الطبيعية. ومع تقسيم تلك الإمبراطوريات إلى دولٍ عديدة تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة وانتشار العلم والتكنولوجيا والإنترنت والإعلام الرقمي الجديد،  تحول صراع القوة بمفهومه السابق إلى صراع نفوذ دولي.
 
سارع العديد من المفكرين السياسيين المعاصرين بتقديم نظريات عديدة عن مصادر القوة التي ستشكل النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. على سبيل المثال قدم صاموين هانتينجتون نظرية “صراع الحضارات” و الذي أشار بأن النظام العالمي القادم ستحدده حرب جديدة بين الحضارات، حرب قيم و مبادئ و دين، و إن الحضارة المنتصرة هي التي ستحدد مقياس القوى الجديد. كما طرح فرانسيس فوكوياما نظرية “نهاية التاريخ” الذي طرح فكرة أن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيحكم العالم قطب واحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وذهب للاستنتاج بأنّه لن تكون هناك أية حروب دولية أو استعمار حتى نهاية التاريخ، وشبّه ذلك بنهاية التاريخ كما عرفته البشرية. ولكن سرعان ما تهاوت تلك النظريات مع انهيار برجيّ مركز التجارة العالمي في هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية. 
 
القوة الصلبة
في تلك الأثناء، وفي عام 2004 قام المفكر السياسي والاستراتيجي الأمريكي الشهير جوزيف ناي، والذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع الأمريكي أبان رئاسة بيل كلينتون، بتقديم نظرية توضح مصادر القوة في السياسة الدولية بطريقة جديدة. حيث أخذ التعريف السياسي لمعنى القوة و هي “مقدرة دولة على فرض إرادتها على إرادة دولة أخرى إما بإرغامها قسراً أو بتقديم الحافز المادي لها” (العصا و الجزرة) وسمي ذلك بالقوة الصلبة Hard Power .وطرح تفسير جديد للقوة من منظور مختلف ألا وهو: “القدرة على صياغة خيارات الآخرين والحصول على ما تريد عبر الجاذبية والسحر Charming بدلاً من القهر أو الإكراه أو الدفع القسري”. أي أن تجعل الدولة الأخرى القيام بما ترغبه عن طريق جعلها تؤمن بأهدافك وغاياتك وبالتالي تقوم به وهي مقتنعة دون إكراه، وسمي هذا بالقوة الناعمة   Soft Power.  
 
شكلَّ طرح جوزيف ناي الجديد للقوة مفهوماً جديداً في العلاقات الدولية، كما أشار في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية” بأن قوة أمريكا الناعمة هي واحدة من النماذج البارزة حضاريا، و التي تجتذب الملايين في العالم بقيمها الثقافية والفنية والسياسية كالديموقراطية وحرية التعبير وسياستها الدبلوماسية.  كما ذهب بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قادرة على كسب المعركة مع العراق بقوتها الناعمة فقط دون تكلفة تذكر، و حذر من الإفراط الأمريكي في التوسع العسكري، مثلما فعل قبله بول كينيدي في كتابه الشهير “صعود وانهيار القوى العظمى”. 
 
لم يعر السياسيون الأمريكيون ذلك الطرح أي اهتمام، بل قاموا بمهاجمته. على سبيل المثال قلّل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد من شأن هذا الطرح حيث أشار بأن نظرية القوة الناعمة هي للضعفاء وإنه لا توجد قوة إلا القوة الصلبة وهي عبارة عن يد من حديد ترغم الآخرين بالقيام بما تريده. و لكن ما يشهده العالم من اضطرابات و بالأخص في منطقتنا نتيجة توابع ما يسمى بثورات الربيع العربي، والتدخل الإيراني في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي يشير بأن القوة الناعمة هي من يحرك ويصنع الأحداث.
 
مصادر القوة الناعمة
ولكن، ما هي تلك القوة الناعمة التي كثر الحديث عنها؟ في مؤلَّفه حول القوة الناعمة “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، يذكر جوزيف ناي ثلاثة مصادر للقوة الناعمة، وهي:
  • الثقافة (في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين). 
  • القيم السياسية (عندما يتم تطبيقها بإخلاص في الداخل والخارج).
  • السياسة الخارجية (عندما يرى الآخرون أنها شرعية وأن لها سلطة معنوية أخلاقية).
ويضيف جوزيف ناي: إنّه في السياسة الدولية، تنشأ الموارد المنتجة للقوة الناعمة إلى حد كبير من القيم التي تعبّر عنها منظمة أو بلد ما في ثقافته، وفي الأمثلة التي تضربها ممارساتها الداخلية والسياسية، وفي الطريقة التي تعالج بها علاقتها مع الآخرين. و أشار بأن أفلام هوليوود ووجود ملايين الطلبة الأجانب للدراسة سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية هما من أهم مصادر القوة الناعمة للولايات المتحدة الأمريكية. و كان من متقدمي منتقدي سياسة بلاده في تقليص أعداد الطلبة الأجانب بعد هجمات 11 سبتمبر. و بالتالي فإن مصادر القوة الجديدة كما قدمها جوزيف ناي هي: العلم والمعرفة والسياحة والفنون والسينما والدراما والرياضة و المؤسسات الدولية (الاندماج الدولي) و الصورة الدولية والإعلام، لاسيما الإعلام الرقمي الجديد. إذاً، القوة الناعمة عبارة عن سلطة شرعية تمنح متبنيها قوةً وجاذبيةً وتأثيراً في الآخرين دون التورط في حروب أو صراعات عسكرية.  
 
و منذ استخدام مصطلح القوة الناعمة لأول مرة كتعبير عن النفوذ الذي تمارسه الآداب، و العلوم, والفنون، والإعلام، والرياضة، والدبلوماسية الرشيقة في السياسة الدولية، أصبح المصطلح في وقتنا الحالي متداولاً عبر الإعلام وفي مقالات وتعليقات منها ما يضخمه ويبالغ فيه، ومنها ما يقلل من شأنه ويسيء استخدامه. ولكن، بطبيعة الحال، فإن القوة الناعمة لكي تستخدم بطريقة فعّالة يجب أن لا تعيش في الهواء الطلق أو خارج نطاق سيطرة الدولة، لأنها، كالقوة العسكرية، تحتاج إلى رعاية ومتابعة وتوجيه، وبالتالي إلى فهم كيفية تصدير وتوجيه هذه القوة بما يحقق الغايات الوطنية للدولة. وهناك دول تعدّ الأقوى في العالم بمقياس المال والسلاح والهيمنة أو القدرة على التوسع خارج حدودها، لكنها لا تملك قوة ناعمة موازية، لأن القوة الناعمة لا تعبأ مثل القوة الصلبة، وأحياناً لا تعترف بها لأنها غير مدرجة في قوائم الأساطيل والثكنات والمخزون الاستراتيجي من الأسلحة.
 
لتوضيح ذلك على واقعنا، يمكن عرض حالتين معاصرتين عن تطبيق القوة الناعمة باختصار.
 
- الأولى حالة القوة الناعمة للإخوان المسلمين: فلا يخفي للمتابع السياسي قيام الحركة لسنوات بتعزيز مصادر القوة الناعمة لديها عن طريق تغلغلها سراً في الأنظمة السياسية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية في مصر وبعض المؤسسات الإقليمية والدولية لزرع مبادئها و نشر أفكارها، حتى  جاءت أحداث “الربيع العربي” ليصبح الحدث الاستثنائي الأهم الذي قلب خريطة المنطقة وتحالفاتها السياسية وبرزت القوة الناعمة للحركة كأداة رئيسة في تصدرها للمشهد السياسي المصري أثناء فترة الفراغ السياسي، كما استطاعت الحصول على بعض القبول الدولي.
 
- أما الحالة الثانية تبرز صعود التأثير الايراني في اليمن: حيث اعتاد النظام في طهران لسنوات إرسال مئات الطلبة من الطائفة الزيدية في اليمن للدراسة في الحوزات العلمية الإثنا عشرية في قم و بالتالي أدى الى تأثرهم بمبادئ الثورة الايرانية وولاية الفقيه، مما سهل عليهم تصدير الثورة إلى اليمن والاستفادة من سقوط نظام علي عبدالله صالح.  
والجدير بالذكر أن إيران لديها الكثير من مصادر القوة الناعمة واستطاعت أن تسخرها في عدة اتجاهات لخدمة مشروعها الخبيث. 
 
القوة الناعمة لدول مجلس التعاون
وهنا اقترب قليلاً من مشهدنا في دول مجلس التعاون الخليجي، ومدى امتلاكنا للقوة الناعمة. فنحن نملك ولله الحمد الكثير من مصادر القوة الناعمة. أحدها بل أهمها وجود الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية كقوة روحية ومدى تعلق كل المسلمين في كل انحاء العالم بهما.  أضف الى ذلك وجود أكثر من ٩ملايين أجنبي يعيش في دول مجلس التعاون الخليجي، والذي يمكن توجيهه ليكون أحد مصادر القوة الناعمة لدول المجلس في الخارج.  كما لدولة الإمارات العربية المتحدة مصادر لا بأس بها من القوة الناعمة تتمثل في اكتسابها للثقل الاقتصادي الدولي وتميزها في مجال السياحة و استثماراتها في مجال الطاقة المتجددة، ومؤخراً استضافتها لإكسبو 2020. ويبقى أهم مصدر في وقتنا الحالي وهو الإعلام الرقمي الجديد الذي تمتلك دول الخليج الكثير من أدواته ومصادره، فإنه يُمثّل القوة الناعمة التي يمكن أن تصل بها إلى العالم.  فالإعلام كما هو معلوم، يلعب دوراً مهماً في صياغة وتشكيل وتوجيه الرأي العام، بل وقد يتسبب في كثير من الأحيان في تضليل وخداع الجمهور. تلك خطورة الإعلام وخاصة الجديد الذي غير كل المفاهيم وحطم كل القيود وتحرر من كل الضوابط وسيطر تقريباً على كل التفاصيل العالمية عن طريق أدواته المختلفة كتويتر والفيس بوك والواتس آب. 
 
وما حدث للعالم العربي، بل والعالم بأسره خلال السنوات القليلة الماضية من تغيرات وتحولات كبرى أكبر دليل على مساهمتها في تشكيل خريطة جديدة للمنطقة، مما يؤكد سيطرة وهيمنة الإعلام الرقمي الجديد كأهم مصادر للقوة الناعمة.
وفي النهاية، لم تعد الأسلحة الفتاكة، رغم خطورتها وتأثيرها، هي المصدر الأهم للقوة والهيمنة والنفوذ، وأصبحت المصادر الأخرى كالآداب، و العلوم، والفنون، و الإعلام، و الرياضة، والدبلوماسية الرشيقة والتي يُعبر عنها بالقوة الناعمة، أكثر تأثيراً وتحقيقاً للأهداف، وهي الآن السلاح الأهم والأخطر والأذكى. وبلا شك إن دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك الكثير من مصادر القوة الناعمة ولكن يجب عليها أن تتعلم وتجيد الكيفية التي يمكن أن تسخرها وتوجهها لتحقيق المصالح والغايات الوطنية المشتركة لهذه الدول. ولكن يبقى السؤال: متى تبدأ باستخدامها بفاعلية؟!
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره