2022-11-02
تداعيات الأزمة الأوكرانية على الوضع الأمني في آسيا
كان للأزمة الأوكرانية تداعياتها البالغة الأهمية على الوضع الأمني في آسيا، ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، أبرزها علاقات الاعتماد الأمني المتبادل التي تربط بين الأوضاع الأمنية في جميع أنحاء العالم، ومن ثَمَّ، فأي خلل في هذه الأوضاع في إقليم من أقاليم العالم يمتد أثره إلى باقي الأقاليم الأخرى بدرجات ومستويات متباينة، تبعاً لطبيعة العلاقات التي تربط بين هذا الإقليم والأقاليم الأخرى.
بقلم: أ. د. محمد سعد أبو عامود
ونظرًا لقوة العلاقات التي تربط بين أوروبا وآسيا؛ فقد امتد تأثير هذه الأزمة التي تُعد أخطر الأزمات الأمنية التي واجهتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية إلى القارة الآسيوية بدرجة ملحوظة شملت الجوانب الأمنية كافة، والتي يمكن تحديدها على النحو الآتي:
أولًا: أمن الطاقة
نتج عن الأزمة الأوكرانية ومنظومة العقوبات التي فرضتها القوى الغربية على روسيا والتي استهدفت قطاعاتها الاقتصادية الرئيسة ومنها قطاع الطاقة، اضطراب في إمدادات الطاقة وأسعارها وأساليب سداد تصديرها، واتسع نطاق هذا الخلل في أمن الطاقة نتيجة لاتفاق “أوبك بلس” الذي تشارك فيه روسيا، والذي حدد حجم إنتاج النفط، ومن ثَمَّ، وضع حدودًا على إمكانية تعويض الدول المنتجة لأي نقص في إمدادات النفط نتيجة لنقص الإنتاج الروسي، ومن ناحية أخرى فإن إمكانية تعويض إمدادات الغاز الطبيعي تتعذر في الأمد القصير والمتوسط؛ نظرًا لما تحتاج إليه من استثمارات وتجهيزات فنية.
ونظرًا لأن آسيا تُعد من أكبر أسواق الطاقة العالمية؛ فقد امتد تأثير هذه الأوضاع إليها، وهنا سنجد تباينًا واضحًا في هذا التأثير بين الدول الآسيوية؛ فهناك دول استفادت من هذه الأوضاع، وأبرزها الصين والهند؛ حيث تمكنتا من توفير احتياجاتهما من الطاقة بأسعار مناسبة، فضلًا عن تخطيطهما لتوفير مخزون كبير منها يكفي لفترات طويلة نسبيًّا، مستفيدتيْن من الأسعار المخفضة التي تُقدمها موسكو لصادرات النفط والغاز الروسي، في حين تأثرت سلبًا الدول الآسيوية التي انضمت إلى نظام العقوبات الغربية، وأهمها اليابان وكوريا الجنوبية، في حين تفاوتت درجة التأثير ومستوياته بين باقي الدول الآسيوية، وذلك تبعًا لحجم احتياجات كل منها من الطاقة والمصادر التي تعتمد عليها في تلبية هذه الاحتياجات، ومدى اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية.
ثانيًا: الأمن الاقتصادي
نتج عن الأزمة الأوكرانية مجموعة من الآثار الاقتصادية بالغة الخطورة على الاقتصاد العالمي، وعلى اقتصادات دول العالم كافة بما فيها الدول الآسيوية، والتي تمثل في مجملها مصدر تهديد للأمن الاقتصادي لهذه الدول، وأهمها:
الخلل الذي أصاب نظام تسوية المعاملات الدولية النقدية والمصرفية بفعل منع البنوك الروسية من استخدام نظام سويفت الذي استقر العمل من خلاله على تسوية هذه المعاملات استنادًا إلى الدولار الأمريكي، وقد ترتب على ذلك تولُّد حالة من الشك لدى الأطراف الدولية حول هذا النظام، ومدى إمكانية تعرُّض أي منها لما تعرَّضت له روسيا إذا ما أرادت الإدارة الأمريكية ذلك، كما نتج عنه طرح بدائل جديدة لهذا النظام منها إمكانية تسوية هذه المعاملات بالعملات المحلية لأطرافها، وهو ما لجأت إليه روسيا، وأيدتها في ذلك مجموعة من الدول الآسيوية، منها الصين والهند وإيران، كما اتجهت الصين إلى السعي لتحويل اليوان إلى عملة منافسة للدولار الأمريكي في هذا المجال.
تنامي المخاوف من جانب مجموعة من الدول الآسيوية من جراء الإجراءات الانتقامية الأمريكية المحتملة لمواجهة هذه البدائل، فقد طرحت بعض التقارير الاقتصادية التساؤل حول مدى إمكانية إثارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أزمة مالية آسيوية أخرى على غرار أزمة 1997 لامتلاك البنوك لتريليونات الدولارات من احتياطيات النقد الأجنبي المتراكمة، فارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، والأزمة الأوكرانية، ومخاطر السياسة الصينية كلها عوامل تؤثر بشدة على ما يُطلق عليه التقرير “عملات الطبقة الثانية” في آسيا؛ حيث تعرَّضت العملات ذات العائد المرتفع، مثل: البيزو الفلبيني، والروبية الهندية، والروبية الإندونيسية، لضغوط في يونيو 2022، ويتوقع التقرير استمرار هذه الضغوط مقابل الدولار في الفترة المقبلة.
أزمة التضخم التي ضربت الاقتصاد العالمي وتُهدِّد بميلاد موجة جديدة من الكساد الاقتصادي الذي تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى إمكانية حدوثه في عام 2023، وتشير التقارير الاقتصادية إلى ارتفاع معدل التضخم في جميع أنحاء آسيا؛ مما سيُضر بالأسر والشركات، كما أن المنطقة قد تواجه خطرًا أسوأ، وهو التضخم المصحوب بالركود، بمعنى تزامن تباطؤ النمو الاقتصادي والبطالة مع ارتفاع الأسعار، ويرجع صندوق النقد الدولي ذلك إلى الأزمة في أوكرانيا، وتباطؤ النمو في أوروبا وأمريكا الشمالية والصين، وهو ما يفرض على القادة الآسيويين عملية موازنة صعبة للتعامل مع تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.
ثالثًا: إثارة وتسخين بؤر الصراعات والنزاعات الآسيوية
في سياق الإدارة الأمريكية للأزمة الأوكرانية برز اتجاه للربط بين ما جرى في أوكرانيا واحتمال تكرار هذا السيناريو من جانب الصين في تايوان، وذلك في محاولة للضغط على الصين لمراجعة موقفها الرافض للأسلوب الأمريكي في إدارة الأزمة الأوكرانية، وقد نتج عن ذلك تصعيد متبادل من الجانبين؛ فالولايات المتحدة حذرت الصين من القيام بأي عمل تجاه تايوان، مهددة باتخاذها لإجراءات مماثلة لما اتخِذ ضد روسيا، كما أعلنت عن استعدادها لمساندة تايوان والدفاع عنها وإمدادها باحتياجاتها من السلاح لردع الصين، كما زار وفد من الكونجرس تايوان وهو ما احتجت عليه الصين التي وصفت وزارة خارجيتها زيارة وفد الكونجرس بأنه عمل استفزازي متعمد، وحذَّرت من أن سوء السلوك واستخدام الحيل من قِبل الجانب الأمريكي خطير للغاية، وقال بيان لوزارة الدفاع الصينية إن هذا التحرك ينتهك بشكل خطير مبدأ الصين الواحدة، ويقوض الأساس السياسي للعلاقات الصينية الأمريكية، ويصعد التوتر عبر مضيق تايوان.
وكانت الصين قد بدأت مع وصول وفد الكونجرس الأمريكي إلى تايوان مناورات عسكريةٍ بحرية وجوية ضخمة قبالة الجزيرة التي تعُدُّها جزءًا من أراضيها، وهو ما يُعد بمثابة رسالة واضحة لواشنطن بأنها إذا تجاوزت الخطوط الحمراء فإن رد الصين يمكن أن يصل إلى استعادة تايوان بالقوة إذا ما تطلب الأمر ذلك. وفي لقاء بين وزير الخارجية الصيني والأمريكي على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في يوليو 2022، أوضح الوزير الصيني موقف الصين الرسمي من قضية تايوان، وطالب الجانب الأمريكي بضرورة توخي الحذر في أقواله وأفعاله، وألا يرسل أي إشارات خاطئة إلى ما يُسمّى قوى استقلال تايوان، وألا يستهين من تصميم الشعب الصيني الراسخ على حماية سيادة أراضيه، وألا يرتكب أخطاء تخريبية قد تدمر السلام عبر مضيق تايوان.
هذا وقد بدأت بؤر أخرى من الصراعات الآسيوية في التصاعد بفعل التفاعلات المرتبطة بالأزمة الأوكرانية، وهي المتعلقة ببحر الصين الجنوبي والشرقي، الذي تتضارب بشأنه المصالح الاستراتيجية الصينية والأمريكية، فضلًا عن الحدود الصينية مع الهند؛ حيث تحاول الولايات المتحدة استمالة الهند لموازنة القوة الصينية المتصاعدة، يؤكد ذلك ما قاله وزير الدفاع الأمريكي، في “حوار شانجريلا”- المؤتمر الدفاعي الرئيس في آسيا الذي عُقِد في سنغافورة في يونيو 2022، من أن الولايات المتحدة تنسج علاقات وُثْقى مع شركاء آخرين وبشكل خاص الهند، التي تُعد أكبر ديمقراطية في العالم، لأنها تعتقد أن قدرتها العسكرية المتنامية وبراعتها التكنولوجية يمكن أن تمثل عامل استقرار في المنطقة.
وشهد “ حوار شانجريلا ”، مواجهة واضحة بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها، واتجه كل منهما إلى التصعيد؛ فقد اتهم وزير الدفاع الأمريكي الصين بإثارة التوترات مع جيرانها في بحر الصين الشرقي نتيجة توسع أسطول الصيد الصيني. وفي بحر الصين الجنوبي، ندد باستخدام الصين لما أسماه بالبؤر الاستيطانية على جزر صناعية تعجُّ بأسلحة متطورة لتعزيز ما وصفه بمطالبها البحرية غير القانونية، مشيرًا إلى أن السفن الصينية تنهب المنطقة، وتعمل بشكل غير قانوني داخل المياه الإقليمية للبلدان الأخرى في المحيطين الهندي والهادئ.
وقد وصفت الصين، في تصريح لنائب رئيس هيئة الأركان الصينية، ما قاله الوزير الأمريكي بالاتهامات التي لا أساس لها، وعبَّرت عن استيائها البالغ ومعارضتها الشديدة لهذه الاتهامات الباطلة، وأضاف نائب رئيس هيئة الأركان الصينية أن الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تهدف للحفاظ على هيمنتها، وأن الولايات المتحدة تحاول تشكيل دائرة صغيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال شد بعض الدول للتحريض ضد بعض الدول الأخرى، في محاولة لدفع منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى فخ الألعاب الجيوسياسية والمواجهة العسكرية.
وامتدت المحاولات الأمريكية لتوظيف الأزمة الأوكرانية في تسخين بؤر الصراعات مع الصين إلى ملفات أخرى، شملت هونج كونج، والتنافس على النفوذ في جزر المحيط الهادئ، وفرض حظر على منتجات إقليم شينجيانج الإيجوري، وهو ما أدى إلى ردود أفعال مضادة من الجانب الصيني؛ مما جعل هذه الملفات أكثر قابلية للانفجار.
ولم يقتصر تأثير التفاعلات الاستراتيجية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية على تسخين الصراعات الآسيوية المتصلة بالصين، بل امتد ليشمل الصراع الروسي الياباني بشأن جزر الكوريل، والذي شهد تصعيدًا متبادلًا من الجانبين؛ فقد وصف الكتاب الأبيض الجديد الصادر عن الخارجية اليابانية هذه الجزر بأنها أراضٍ محتلة، كما تبنَّت اليابان سياسة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وطبقتها بإحكام.
وجاء الرد الروسي قويًّا؛ حيث أعلن بيان للخارجية الروسية إيقاف المحادثات مع اليابان حول معاهدة السلام نظرًا لاستحالة مناقشة توقيع وثيقة تأسيسية حول العلاقات الثنائية مع دولة تقف مواقف غير ودية بشكل واضح، وتسعى إلى الإساءة لمصالح روسيا، كما أعلنت موسكو عن خروجها من الحوار مع اليابان حول تطوير أنشطة اقتصادية مشتركة في جزر الكوريل الجنوبية، ونيتها منع تمديد وضع اليابان كشريك لمنظمة التعاون الاقتصادي في منطقة البحر الأسود.
ثم كان القرار الروسي بتأميم شركة ساخالين للطاقة لتصبح ملكًا للحكومة الروسية في 30 يونيو 2022، وهو ما رأت بعض المصادر في سوق الطاقة أنه سيشعل معركة شرسة بين الغرب واليابان على موارد الطاقة، لأنه سيؤدي إلى منافسة مباشرة بين أوروبا واليابان على مصادر بديلة لواردات الطاقة، خاصة أن مشروع “ساخالين -2” كان يزوِّد اليابان بالوقود بأسعار تنافسية.
ومن البؤر الصراعية الآسيوية الأخرى التي تصاعدت، البؤرة الكورية التي شهدت تزايُدًا واضحًا في تجارب كوريا الشمالية النووية والصاروخية، المهددة لكوريا الجنوبية واليابان، وهو ما جعل الرئيس الكوري الجنوبي يدعو الولايات المتحدة واليابان إلى العمل معًا لإقناع كوريا الشمالية بأنها لن تكسب شيئًا من وراء برنامجها النووي والصاروخي.
رابعًا: سباق التسلح في مجال الأسلحة ذات التقنية العالية بين القوى الكبرى
يشمل هذا السباق عدة مجالات، منها:
تطوير الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهو ما حققت فيه الصين وروسيا تفوقًا ملحوظًا على الولايات المتحدة، وقد تصاعدت وتيرة التنافس بين القوى الكبرى في هذا المجال في أعقاب تفجر الأزمة الأوكرانية، واتسع نطاقه ليشمل التقنيات الناشئة التي تركز على أنظمة الفضاء المتطورة، والدفاع ضد الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والطاقة الموجهة والحوسبة الكمومية في مجال التسليح، وهو ما أدى إلى موجة من التطوير المستمر في مجال الأسلحة المسيَّرة الجوية والبرية والبحرية، والتنافس في مجال السيطرة والتحكم في التكنولوجيات المرتبطة بها، وهو ما نتج عنه مخاطر أمنية جديدة يتعرَّض لها الأمن الآسيوي.
في إطار سباق التسلح في مجال الأسلحة ذات التقنيات العالية، اقترحت اليابان على الولايات المتحدة تطوير نظام سلاح كهرومغناطيسي للكشف عن صواريخ العدو التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، كما قررت طوكيو تطوير المدافع الكهرومغناطيسية ردًّا على مخاوفها بشأن كيفية مواجهة التهديد الذي تشكله الصين وكوريا الشمالية والاتحاد الروسي.
التسابق في مجال تطوير القوات البحرية بين القوى الكبرى من حيث عدد الوحدات البحرية والقدرات الصاروخية، ويمثل التطور الذي شهدته القوات البحرية الصينية نموذجًا مهمًّا؛ حيث نجحت في تصنيع حاملات طائرات متطورة، وتطوير القدرة على إطلاق صواريخ تعمل بالوقود السائل من منصات بحرية لتوسيع خيارات الإطلاق في البلاد، وهو ما دفع الولايات المتحدة وحلفاءها في آسيا إلى الاتجاه إلى بذل المزيد من الجهود لمواجهة هذا التطور.
خامسًا: الأمن السيبراني
أدى التوسع في استخدام الفضاء السيبراني في نطاق الأزمة الأوكرانية إلى تزايُد احتمالات تعرُّض الدول الآسيوية لمزيد من التهديدات السيبرانية، كما أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، أدى إلى تحقق هذه الاحتمالات؛ حيث تُعد هذه الدول الأكثر نشاطًا في توظيف أدوات وأسلحة الحرب السيبرانية في إدارة صراعاتها.
وختامًا، في ضوء ما تقدَّم يتضح أن تداعيات الأزمة الأوكرانية على الوضع الأمني في آسيا ضمَّت الأمن بمفهومه الشامل، ويرجع ذلك إلى اتساع نطاق علاقات الاعتماد المتبادل في المجالات كافة، وارتباطها بطبيعة التحولات الجذرية التي يشهدها العالم بفعل التطور التكنولوجي المتسارع وما يرتبط به من تطور في علاقات القوة، والأهمية النسبية المتزايدة للقارة الآسيوية في هذا السياق.
لا يوجد تعليقات