مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-01-02

توطين الصناعات الدفاعية.. محددات وطنية وعالمية وفرص غير مسبوقة

لم تُعد الصناعات الدفاعية تكتسب أهميتها من مجرد ارتباطها الوثيق بقيمة «الأمن» التي تسعى الدول إلى تحقيقها؛ سواء لكونها الرافد الذي تستمد منه أي دولة العتاد والمعدات التي تلزمها لتحقيق أمنها؛ أو لكونها أحد المداخل التي تنفُذ منها الدول للسيطرة على بعضها البعض، حيث باتت الصناعات الدفاعية - خلال العقود الأخيرة - واحده من الركائز الأساسية التي تقوم عليها أكبر الاقتصادات العالمية؛ حتى أن بعض الخبراء اندفعوا نحو صياغة فرضية مفادها وقوف أكبر الدول المنتجة للسلاح وراء الأزمات والصراعات التي يشهدها العالم بشكل مستمر، بدعوى سعي هذه الدول لتعزيز سباقات التسليح التي تندلع هنا وهناك. 
 
بقلم: هاني الأعصر
 
وقد أستند هذا الفريق من الخبراء  في سبيل إثبات صحة فرضيته على عدد من الوقائع؛ على رأسها الآثار السلبية التي طالت بعض الاقتصادات الكبرى عقب انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي؛ جراء انخفاض ميزانيات الدفاع في الفترة من 1989 – 1996 بقيمة الثلث والذي دفع بدوره نحو 24 شركة من بين أكبر 100 شركة عاملة في مجال الصناعات الدفاعية نحو الخروج من المجال بحلول عام 1998، ودفع شركات أخرى نحو اللجوء لإتمام سلسلة من الإندماجات الموحدة التي مكنتها من تجاوز هذه الأزمة، خاصة بعدما شهد القطاع - خلال العقدين الأخيرين - طفرات عديدة؛ بزغت في زيادة قيمة الإنتاج العالمي من الصناعات الدفاعية خلال هذه الفترة بشكل واضح، انعكست إيجابياً على الدول المنتجة وسلبياً على الدول المستوردة، الأمور التي تثير بدورها عدداً من التساؤلات حول ضرورة توطين الصناعات الدفاعية؛ ومن ثم المحددات التي قد تدفع بعض الدول نحو هذا الاتجاه؛ وكذا الفرص المتاحة لتحقيق ذلك، أخيراً الأمور والضوابط التي يجب على أي دولة أخذها في الاعتبار إذا ما شُرعت فيه.
 
أولاً: توطين الصناعات الدفاعية.. محددات وطنية وآخرى عالمية
تتعدد المحددات التي قد تدفع الدول المستوردة للسلاح نحو التفكير في توطين الصناعات الدفاعية؛ خاصة إذا ما كان لديها القدرات والإمكانات اللازمة للبدء في ذلك، وبطبيعة الحال فإن هذه المحددات تكتسب فاعلية أكبر لدى الدول الواقعة في قائمة «الأكثر استيراداً للسلاح» والتي تضم دولاً عربية عديدة، حيث يتزايد حجم المكاسب المتوقعة من توطين هذه الصناعة التي تلتهم الجزء الأكبر من الميزانيات الدفاعية قبل أن تشكل عبئاً اقتصادياً على كيان الدولة ككل.
 
وفي هذا السياق؛ تتنوع محددات السعي لتوطين الصناعات الدفاعية ما بين العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي، فعلى الصعيدين العسكري والأمني تتجاوز المكاسب المتوقعة من توطين الصناعات الدفاعية حدود تلبية جزء معتبر من احتياجات الدولة في هذا المجال (إذ لا توجد دولة توفر كافة احتياجاتها الدفاعية من شركاتها الوطنية؛ وهو ما يمكن الاستدلال عليه بحالتي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بإعتبارهما أكبر دولتين منتجتين للسلاح في العالم ومع ذلك يقومان بإستيراد جزء من احتياجاتيهما)، فتمتد المكاسب المتوقعة إلى تعزيز قدرة الدولة على الإحتفاظ بأسرارها العسكرية؛ بداية من الأسرار المرتبطة بالاحتياجات الدفاعية؛ ومروراً بالحجم الفعلي لقدرة الدولة العسكرية؛ وانتهاءاً بالجوانب المعرفية المملوكة الدولة في هذا الصدد (Now How) والتي تشكل في إجمالها أحد نقاط قوة الدولة في مواجهة خصومها. 
 
 كما تمتد المكاسب العسكرية - أيضاً - لحد ضمان الدولة للإستفادة من قدراتها العسكرية الضاربة إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك، خاصة وأن أغلب الدول المنتجة للسلاح مازالت تفرض على زبائنها من الدول شروطاً بشأن استخدام الأسلحة التي تنتجها، بحيث يُصبح لها حق الموافقة والرفض على استخدام زبائنها للسلاح المُنتج بمعرفتها، وهو أمر لا تتوقف تبعاته عند حدود تجريد الدول المستوردة لهذا السلاح من حقها الأصيل في استخدامه للدفاع عن سيادتها ومصالحها؛ ومن ثم تجريدها من بعض أدوات الحسم العسكري، إذ تمتد تبعات ذلك لحد تعريض المعلومات الخاصة بالأنشطة العسكرية التي تنوي الدولة القيام بها لخطر التسريب بواسطة الدولة المُنتجة؛ وهو أمر قد يُعرض الدولة للخطر؛ أو يهدد بفشل المهام العسكرية التي تنوي القيام بها على أقل تقدير. 
 
أما على الصعيد السياسي؛ نجد أي ثمة مكاسب عديدة من شأنها دفع الدول نحو التفكير في توطين الصناعات الدفاعية، لعل أهمها الإقتراب إلى استقلالية القرار الوطني والذي سيتحرر بطبيعة الحال من التبعية والإرتباط بمواقف الدول التي تمد الدولة بالسلاح وتتولى صيانته، فضلاً عن إتاحة المجال أمام الدولة لإقامة علاقات استراتيجية - تقوم على أساس الندية - مع الدول الشريكة في برامج الصناعات الدفاعية الوطنية، وعلى الصعيد الاقتصادي نجد أن لتوطين هذا القطاع الاستراتيجي مزايا اقتصادية عديدة، تبدأ بدعم عملية إيجاد ما يسمى بــ “العمق الاستراتيجية الصناعي” والذي يساهم بقدر كبير في توفير البيئة الحاضنة للصناعات الحديثة؛ وبخاصة تلك المغذية للصناعات العسكرية والمدنية على السواء، أضف إلى ذلك ما يوفره القطاع من فرص عمل ودخل للدولة في صورة ضرائب ورسوم، وهو ما تؤكده الحالة الأمريكية التي يتجاوز إجمالي عدد العاملين في هذا القطاع بها نحو ثلاثة ونصف مليون شخص؛ وتتجاوز قيمة الضرائب التي تحصلها الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات من الشركات والأفراد العاملة في القطاع ذاته حاجز الـ 40 مليار دولار سنوياً. 
 
وفي السياق ذاته؛ لا يمكن إغفال المحددات ذات الطابع العالمي والتي يجب أن تدفع الكثير من الدول للسعي الحثيث نحو توطين الصناعات الدفاعية؛ وفي مقدمتها الحد من سباقات التسليح، تلك السباقات التي طالما استنزفت القدرات الاقتصادية للعديد من الدول؛ ومن ثم عطلت مساعيها لتحقيق التنمية وتحسين الأحوال المعيشية لمواطنيها، وهو أمر تؤكده الزيادة المطردة التي طرأت على إجمالي قيمة الإنتاج العالمي من السلاح خلال السبعة عشر سنة الأخيرة والتي بلغت نسبتها 198%، حيث بلغ إجمالي قيمة الإنتاج العالمي من السلاح بنهاية 2020 نحو 531 مليار دولار؛ في مقابل 268 مليار دولار في 2004؛ وذلك بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، إذ يُتوقع أن تتراجع حدة سباقات التسليح لنحو كبير إذا ما اتجهت الدول للاعتماد على نفسها في توفير أغلب أو حتى بعض احتياجاتها الدفاعية، وهو ما بزغ بوضوح في الحالة الصينية التي سجلت تراجعاً ملحوظاً في إجمالي قيمة وارداتها من السلاح في ضوء زيادة حجم إنتاجها الدفاعي والذي انعكس بدوره على قيمة صادراتها.    
 
ثانياً: توطين الصناعات الدفاعية.. فرص غير مسبوقة واحتياطات واجبة
 
توفر البيئة الأمنية الدولية وما تنطوي عليه من تهديدات ناشئة وغير تقليدية فرصاً غير مسبوقة أمام الدول الساعية لتوطين الصناعات الدفاعية، فمع انضمام الإرهاب الدولي وما يرتبط ويحيط به من جرائم عابرة للحدود إلى قائمة التهديدات التي بات على أغلب دول العالم مواجهتها، بزغت مساحة كبيرة لدخول بعض الدول إلى ساحة الصناعات الدفاعية أو تعظيم وضعها إذا ما كانت من الدول المُنتجة للسلاح بالفعل، خاصة وأن الإمكانات المطلوبة لتصنيع الأسلحة والمعدات المستخدمة في مواجهة مثل هذه التهديدات أقل تعقيداً من تلك المطلوبة لتصنيع الأسلحة والمعدات المستخدمة في الحروب التقليدية كحاملات الطائرات والمدمرات والغواصات والصواريخ وغيرها، كما أن حجم الأسواق المتاحة أمام هذه الأسلحة والمعدات يتسع بإتساع الدول المستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية على اختلاف أيديولوجياتها وأهدافها. 
 
وبخلاف الفرص التي توفرها البيئة الأمنية الدولية، فقد ساهمت الأزمة التي تعرض لها قطاع الصناعات الدفاعية؛ جراء انتهاء الحرب الباردة - وسبق الإشارة إليها - في دفع المجتمع الأمني الدولي لأن يكون أكثر تعاوناً من ذي قبل، الأمر الذي سمح بنشوء شراكات عديدة ناجحة يمكن التعامل معها كنماذج قابلة للإستنساخ، لاسيما وأن الظروف العالمية (سواء كانت أمنية أو تكنولوجية أو اقتصادية) مازالت تدفع الجميع نحو التعاون والتكامل، وفي هذا السياق؛ لا يمكن تجاهل التجربة الإماراتية في توطين الصناعات الدفاعية، خاصة وأنها نجحت سواء في الإستفادة من الفرص التي سمحت بها البيئة الأمنية الدولية؛ أو في إنشاء علاقات تعاونية وشراكات ناجحة، وهو سرعان ما ظهرت نتائجه في المنتجات الدفاعية المتطورة التي تحمل عبارة «صنع في الإمارات» ومنها منظومة الصواريخ «سكاي نايت»؛ ومجموعة الطائرات الحوامة «كيو إكس»؛ وغيرها من القطع البحرية؛ وكذا المدرعات المُصنعة بواسطة شركة «إيدج» التي باتت واحده من أكبر 25 شركة للتوريدات العسكرية حول العالم. 
وأخيراً؛ يجب على الدول الساعية نحو توطين الصناعات الدفاعية مراعاة عدداً من النقاط، أهمها رسم خريطة دقيقة للقطاع حول العالم تتضمن كافة البيانات الخاصة به، وذلك قبل قيامها بتحديد احتياجاتها الدفاعية وإمكاناتها الإنتاجية؛ ومن ثم تحديد سلم أولوياتها، بحيث تبدأ بالأهم فالمهم، وفي الأخير تضع استراتيجية تراعي البدء بالتصنيع الجزئي الذي يعتمد على علاقات شراكة تضمن اكتساب الدولة الخبرات اللازمة للوصول إلى الكفاءة المنشودة. 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-02-26 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره