مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-05-04

جائحة كورونا وفرص تدبير الأزمات في عالم مرتبك

 أعادت جائحة «كورونا» موضوع تدبير الأزمات والكوارث الدولية بقوّة إلى الواجهة، فالأمر يتعلق بوباء خطر، أفرز حالة كبيرة من الارتباك والذهول، ووضع المجتمعات والدول في محكّ حقيقي، تطلّب اتخاذ مجموعة من القرارات المتسارعة والصارمة، اختلفت وتباينت من حيث أهميتها ونجاعتها من بلد إلى آخر.
 
 
بقلم: د. / إدريس لكريني 
استاذ العلاقات الدولية في جامعة القاضي عياض-مراكش
 
يتعلق الأمر بأحد التهديدات العابرة للحدود التي أدخلت بتداعياتها المسارعة العالم في أوضاع اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، غالبا ما ستكون انعكاساتها أكثر صعوبة في المستقبل، وقد تتمخض عنها أوضاع دولية استراتيجية جديدة.
فكيف يدبّر العالم هذه الكارثة؟ وهل سيتمّ تحويلها إلى فرص حقيقية لخدمة الإنسانية؟ أم ستشكّل منعرجا جديدا نحو مزيد من المآسي والصراعات؟  
 
أولا- التّهديدات الدولية الجديدة وإدارة الأزمات
ظلّت دول العالم برمّتها تولّي لعقود طويلة أهمية قصوى للتهديدات العسكرية، حيث اقترن تحقيق السلم والأمن الدوليين لديها بغياب هذه التهديدات، ورغم انقضاء مرحلة الحرب الباردة بتداعياتها وصراعاتها العسكرية والإديولوجية، والتفات العالم إلى بعض المخاطر الجديدة العابرة للحدود، كما هو الشأن بالنسبة إلى الإرهاب، والهجرة السرية، والجريمة المنظمة وتلوث البيئة، والجرائم الإلكترونية، والأمراض الخطرة، إلا أن الهاجس العسكري ظلّ مهيمنا مقارنة مع كل هذه المخاطر، حيث التهم قطاع التسلّح قسطا وفيرا من ميزانيات الدول، بما فيها الفقيرة، على حساب التهديدات الأخرى.
 
    عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية عن اعتبار فيروس «كورنا» وباء عالميا، وطالبت باعتماد تدابير صارمة لمحاصرته والتقليل من خطورته، تبيّن أن عددا كبيرا من الدول، وحتى المتقدمة منها، لم تكن على قدر من الاستعداد والجاهزية لتدبير الكارثة بكفاءة ونجاعة، تسمح بمحاصرة الوباء، ومنع خروجه عن نطاق الحكم والسيطرة، حيث بدت مرتبكة أمام هول الجائحة.
  يقوم أسلوب تدبير الأزمات على توظيف مجموعة من المقومات البشرية والمعلوماتية والمالية والتقنية..، على سبيل منع الأمور من الخروج عن نطاق السيطرة، وهي تقنية تزاوج بين العلم والفن، وتتأسس على مقاربات وقائية وأخرى علاجية.
 
ويندرج أسلوب إدارة الأزمات ضمن الأنماط الحديثة للتدبير التي تقتضي العقلنة واستحضار متطلبات الحكامة، بما تنطوي عليه الأمر من شفافية وتشاركية وتخطيط استراتيجي، وبخاصة وأنه يقوم في جزء كبير منه على التنبؤ، وإتاحة عدد من البدائل والخيارات أمام صانعي القرار..
 
تباين تعاطي الدول مع الجائحة، ففي الوقت الذي فضّلت فيه بعض الأقطار، اعتماد تدابير صارمة وجريئة، سواء على مستوى إقفال الحدود، ووقف الرحلات الجوية وإغلاق المقاهي والمطاعم والنوادي ودور العبادة..، تردّدت دول أخرى، وتأخرت بشكل ملحوظ في اعتماد عدد من هذه الإجراءات، فيما تعاطت دول أخرى بقدر من المرونة والتّساهل مع الموضوع، وهو ما اعتبره البعض استهتارا بأرواح الأفراد، وانصياعا لجماعات الضغط الاقتصادية التي فضلت الرّبح المالي على حساب الأمن الصحّي للمواطن..
 
رغم الإمكانيات الاقتصادية والتقنية والعسكرية الكبيرة التي تملكها الكثير من الدول كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وإسبانيا..، إلا أنها وجدت صعوبات جمّة في تدبير الكارثة، فلا البنيات التحتية ولا البوارج العسكرية ولا الأقمار الاصطناعية.. استطاعت أن توقف زحف الفيروس، الذي خلق مناخا غير مسبوق من الهلع والخوف والركود الاقتصادي..
 
ثانيا- العالم في مواجهة جائحة كورونا
بــدا العـالم مرتبكا في مــواجهــــة الوباء، فقد كشف هذا الأخير الكثير من الاختلالات في النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة، سواء فيما يتعلق بشعارات التعاون والتنسيق، أو خطابات احترام حقوق الإنسان، أو الحديث عن الوجه الإنساني للعولمة، ذلك أن الكثير من الدول بما فيها دول غربية كبرى، وتحت هول الكارثة وضغطها، فضّلت اعتماد مقاربات انفرادية وسيادية، بعيدا عن أي تنسيق إقليمي أو دولي، وهو ما تجسّد بصورة واضحة داخل أوربا، حيث اختارت عدد من الدول الانكفاء على ذاتها، بدا معها الاتحاد الأوربي غير ذي قيمة أو أهمية، رغم المكتسبات الهامة التي تراكمت على امتداد أكثر من ستة عقود من الزمن.
 
وفي تناقض صارخ مع الشعارات المتّصلة باحترام حقوق الإنسان، والتي ظلّت تردّدها الدول الغربية في مواجهة عدد من البلدان الأخرى، برزت بالموازاة مع المعاناة التي خلّفتها الجائحة، انحرافات وخروقات خطرة للمعاهدات والاتفاقيات والقوانين الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ففي فرنسا ذهب «طبيب» يدعى «جان بول ميرا» وهو رئيس وحدة العناية المركزة في مستشفى «كوشين» في باريس، ضمن تصريح عنصري مقيت يعكس التنكّر الصارخ لأخلاقيات مهنة الطب الراقية، إلى حدّ الدعوة للقيام بتجارب طبّية للقاح «كورونا» داخل إفريقيا.
 
فيما برزت كثير من أحداث القرصنة  والسطو على حمولات لتجهيزات طبّية على متن طائرات وبواخر في أوربا (إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا..) في تنكر صريح لمقتضيات القانون الدولي.. وأشارت بعض الأخــبار أيضــا عن وجود سلوكات عنصرية في تقديم العلاج لعدد من مواطني دول غربية من أصول إفريقية..
 
وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل يتعلق الأمر بتصريحات وسلوكات معزولة أفرزها هول وباء «كورونا»؟ أم أنها متجذّرة، فقط كشف عنها هذا الأخير؟
في مقابل ذلك، أظهرت الممارسة أن عددا من الدول المحسوبة على الجنوب، كانت أكثر حرصا على احترام حقوق الإنسان، وحماية الأمن الإنساني لشعوبها، في إطار من الشمولية واليقظة، حيث وفّرت العناية الاجتماعية والتطبيب لساكنتها وللمقيمين بداخلها بشكل مجاني، واعتمدت تدابير على قدر كبير من الجرأة والصرامة، وضحّت بجزء كبير من مصالحها الاقتصادية، حرصا على الأمن الصحي لمواطنيها.
Haut du formulaire
Bas du formulaire
 
ثالثا- مكانة الإعلام في زمن الأزمات والكوارث
يستأثر الإعلام بكل قنواته بأهمية قصوى داخل المجتمعات، على مستوى التواصل والتنشئة والتنوير وتشكيل الرأي العام وتوجهاته، وهو المنبر الذي يتواصل عبره صانعو القرار مع الجمهور، بصدد توضيح سياسات معينة أو الدفاع عنها، أو تنوير الرأي العام بمعطيات متّصلة بالعمل التشريعي أو السياسات العمومية والتوجهات الحكومية المختلفة..
 وتتضاعف هذه المهام خلال فترات الأزمات، حيث تتزايد حدّة إطلاق الإشاعات، والأخبار الزائفة، وانتشار الرعب والهلع بين الأفراد، وبخاصة مع توسّع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي يتهافت الكثير من روادها على الانتشار والشهرة..
 
كشفت جائحة كورونا عن الدور الراقي والاحترافي والمواطن الذي قامت به عدد من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، على مستوى ترسيخ الوعي الصّحي داخل المجتمع، والتّحسيس بضرورة اتخاذ الاحتياطات والتدابير اللازمة التي تدعو إليها المصالح المختصة.
 
إن الكثير من الخسائر التي تطرحها الكوارث والأزمات، غالبا ما تقع في جزء كبير منها، بسبب الإهمال وعدم جاهزية الأفراد، وعدم اتخاذهم للاحتياطات اللازمة، أو بسبب قلّة أو غياب ثقافة تدبير الأزمات، التي تتصل بتقديم الإسعافات الأولية، وعدم التسرّع في اتخاذ قرارات وخيارات مرتجلة مكلفة، قد تسهم في تعقد الأمور، وفي خروجها عن نطاق السيطرة.
 
  فالترتيبات التقنية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصّحية التي تتّخذها الدول في إطار تدبير الأزمات، تظلّ ناقصة بل ودون جدوى في غياب ثقافة تدبير الأزمات داخل المجتمع، بل إن وجود خلل أو قصور على مستوى إرساء هذه الثقافة، يساهم بشكل كبير في إرباك الجهود المبذولة، وفي تطوّر الأمور نحو الأسوأ.
 
ومن هذا المنطلق، يلعب الإعلام دورا كبيرا وحاسما، في ترسيخ هذه الثقافة، وفي توفير الأجواء المثلى لاشتغال صانعي القرار على مستوى تدبير الأزمات والكوارث، وبخاصة وأن هذه الأخيرة تسمح بتقارب وانسجام المواقف والتوجهات بين الإعلام من جهة وصانعي القرار السياسي من جهة أخرى.
 
رابعا- من الأزمة إلى الفرصة
رغم الظّروف القاسية التي تخلّفها الكوارث والأزمات، فإنها تشكّل - مع ذلك - محطّة مهمّة، ومحكّا حقيقيا لاستنباط العبر والدروس، وإعادة ترتيب سلّم الأولويات، وتجاوز الأخطاء والاختلالات، وبناء الخطط والاستراتيجيات الكفيلين بتحصين المستقبل.
 
فالوباء أبرز أن أهم سلاح يمكن للدول والمجتمعات أن تراهن عليه، وتواجه به مختلف المخاطر والكوارث والأزمات المستجدّة في أبعادها الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والأمنية.. يتمثّل في التعليم والبحث العلمي، فهما الكفيلان بترسيخ العقلنة داخل المجتمع، وبناء مواطن محصّن، قادر على المساهمة في تحقيق التنمية بمفهومها الاستراتيجي والشامل، إضافة إلى تطوير البنيات الطبية وجعلها في مستوى الكوارث البيئية والأوبئة الخطرة..
 
وفي الوقت الذي كشف فيه الوباء عن بعض تجّار الأزمات المتهافتين على الربح وتحقيق المصالح الضيقة على حساب المعاناة الإنسانية، أتاح أيضا بروز مجموعة من القيم النبيلة والراقية داخل المجتمع، وخصوصا تلك المتركّزة حول الشعور بالمواطنة، والحس التضامني بين أفراد المجتمع، إضافة إلى المسؤولية التي أبدتها الكثير من النظم السياسية في تدبير اللحظة بقدر من الكفاءة والاقتدار.
 لقد استطاعت الإنسانية على مرّ التاريخ، أن تتجاوز أحلك الظروف التي خلّفتها الأوبئة ومختلف الكوارث، بالعزيمة والإصرار والعلم، وتمكنت من تحويل هذه الفواجع المؤلمة إلى فرص حقيقية، مكّنت البشرية من كسب العديد من الإنجازات العلمية والاقتصادية والاجتماعية.. ويبدو أن عالم اليوم المرتبك أصبح بحاجة ماسّة أكثر من أي وقت مضى، إلى الخروج قويا ومتماسكا من هذه التجربة، نحو مزيد من التعاون والتنسيق والتضامن لمواجهة مخاطر عابرة للحدود لا تستثني أحدا..
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره