مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-05-01

رؤية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الاستراتيجية للأزمة الأوكرانية

الأبعاد والمنطلقات والثوابت
 
 
رغم أن أزمة أوكرانيا قد وضعت دول  مجلس التعاون لدول الخليج العربية، شأنها شأن دول أخرى كثيرة ـ في اختبار صعب، إلا أنها قد حرصت على استمرار موقفها الراسخ إزاء التمسك بالمبادىء الأساسية للأمم المتحدة والقانون الدولي، وفي مقدمتها تغليب لغة الحوار والدبلوماسية في حل الأزمات، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الاصطفاف والانحياز لأي طرف لن يقود سوى إلى مزيد من العنف وسفك الدماء.
 
بقلم العقيد الركن/ يوسف جمعه الحداد
 
 
وقد حظي هذا الموقف باهتمام اقليمي ودولي واسع النطاق، وفي هذا المقال نسلط الضوء على الأبعاد والمنطلقات والثوابت التي تفسر رؤية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الاستراتيجية للأزمة الأوكرانية وسبل التعاطي معها.
 
 
وسط انقسام حاد واختلاف دولي واضح في مواقف الدول حيال العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، كان بلورة موقف سياسي ودبلوماسي خليجي يصب بمصلحة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مسألة حساسة ودقيقة للغاية لأسباب واعتبارات عدة أولها: علاقات الشراكة القوية والمتنامية التي تربط دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بين طرفي الأزمة: روسيا من جهة، وأوكرانيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية؛ فهناك روابط ومصالح خليجية ضخمة في مختلف القطاعات والمجالات بين الطرفين، وهناك حرص على بناء علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية، ما يجعل التضحية بأي من هذه الروابط والمصالح مسألة خارج حساب صنع القرار السياسي. ثاني هذه الاعتبارات أن بناء موقف خليجي واضح إزاء الأزمة الاوكرانية يمثل اختباراً صعباً لمجمل قناعات وموروث السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون من المبادىء والقيم التي تتمسك بها هذه الدول منذ تأسيسها. وثالث هذه الاعتبارات أن دول مجلس التعاون الخليجي تعد من أكبر الدول المنتجة للنفط في العالم، فالسعودية والامارات والكويت أعضاء رئيسيين بتحالف «أوبك+» كان لزاما عليهم التصرف بحكمة وهدوء في هذه الظروف المعقدة دولياً بالنظر إلى حساسية أسواق الطاقة الدولية لأي خلافات قد تقوض هذا التحالف النفطي الضامن لاستقرار أسواق الطاقة وعدم حدوث أي اضطرابات في الامدادات، وهي مسألة تهم المنتجين والمستهلكين على حد سواء، أي روسيا والغرب معاً.
 
 
في ضوء ماسبق، حرصت دول مجلس التعاون الخليجي على تبني موقف قائم على المبادىء والتمسك بالقانون الدولي في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، باعتبار أن ذلك الخيار يمثل التموضع الاستراتيجي الأمثل والوحيد الذي يضمن لهم الحفاظ على مصداقيتهم الدولية ويتيح لهم هامش مناورة سياسي مناسب للتحرك بحثاً بين الخصوم عن مخرج مما آلت إليه الأوضاع؛ لذا فقد أوضحت مصادر خليجية عقب تصويت مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار أمريكي ألباني، أن تأييد طرف في الأزمة الأوكرانية لا يؤدي إلا إلى المزيد من العنف، لذا فقد كان الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن تجسيداً لموقف إماراتي خليجي رصين ينأى بهم عن الاصطفاف والاستقطاب الدولي الذي كان ـ ولا يزال ـ في ذروة قوته.
 
 
تحرص دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي في علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى على تحقيق التوازن بما يضمن تحقيق مصالحهم الاستراتيجية مع الجميع، لذا فإن تعميق التعاون الخليجي - الروسي، وكذلك الخليجي - الصيني، لا يأتي على حساب العلاقات الاستراتيجية القوية التي تربطهم بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الأمر يجسد شفافية الدبلوماسية الخليجية وقدرتها على التحرك في مناطق التعاون المشتركة مع الجميع. ولاشك أن الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين بين دول مجلس التعاون وروسيا لا تأتي خصماً من رصيد علاقاتهم الاستراتيجية مع قوى دولية أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، فما يربط دول الخليج العربي والجانب الأمريكي تحالف عميق وراسخ يمضي في مسارات موازية لأي شراكات استراتيجية مستحدثة، ومن ثم فإن الشراكة الاستراتيجية مع روسيا تعكس مبدأ تنويع البدائل والخيارات الاستراتيجية وتفتح آفاق جديدة للتحرك والمناورة أمام الدبلوماسية الخليجية من دون افتئات على التزاماتهم حيال شركائها الاستراتيجيين الآخرين، والأهم من ذلك أن القيادات الخليجية تمتلك رؤية استراتيجية واضحة في بناء علاقاتها الدولية وتطويرها، حيث تؤكد، دائماً على أن دول الخليج العربي حريصة على التعاون مع العالم بأسره من دون استثناء لضمان مستقبل مزدهر لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
 
 
ويشير تحليل العلاقات الخليجية ـ الأمريكية أو الخليجية الروسية في السنوات الأخيرة إلى أن دول مجلس التعاون باتت تمتلك من المرونة ما يجعلها قادرة على استيعاب وتوفير هوامش حركة مناسبة لكل شريك في التعامل مع ملفات تتماس مع الطرف الآخر، فالولايات المتحدة تدرك أهمية دور دول الخليج العربي في الحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، ودول الخليج بدورها لا تريد الاصطدام بالشريك الأمريكي، ولكنها تسعى في الوقت ذاته لتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بمصالحها الاستراتيجية في ملفات مثل أسعار النفط والابقاء على الشراكة مع روسيا والصين. وفي جميع الأحوال يحرص البيت الابيض بالمقابل على تفادي الصدام مع مع دول الخليج، التي لا ترغب في أن تكون طرفاً في أي صراعات دولية يمكن أن تهدد مسيرتها التنموية أو تؤثر سلباً في طموحاتها الاقتصادية الكبري، والأمر اللافت في التحركات الدبلوماسية الخليجية أنها تمضي وفق قاعدة «رابح ـ رابح» بمعنى ضمان فوائد وعوائد استراتيجية مناسبة لطرفي العلاقة ما يعزز فرص نجاح الدبلوماسية الخليجية في بناء شراكات مع الجميع.
 
 
ورغم أن بعض الأدبيات السياسية تشير إلى حدوث تغيرات جذرية في نهج السياسة الخارجية الخليجية وتتحدث عن تخليهم عن نهج الدبلوماسية الهادئة الذي كانت تتسم به خلال مرحلة السابقةـ واعتماد استراتيجية مغايرة تعتمد على نهج أكثر تفاعلية مع الأحداث والأزمات الاقليمية، فإن تحليل الشواهد بتأن يشير إلى أن دول مجلس التعاون بشكل عام هي دول فتية تسري فيها الحيوية والدينامكية التي تتيح لها سرعة الاستجابة وردة الفعل والتفاعل مع ما يحيط بها من أحداث وأزمات بشكل أكثر وضوحاً لما لهذه الأزمات من تأثيرات وتبعات استراتيجية ملموسة على مصالحهم وبقية الشعوب العربية، وهذا الأمر لا يعد تحولاً وتغيراً بقدر ما يعد استجابة واقعية للمتغيرات الاقليمية والدولية. 
 
 
لذلك فإن الموقف الخليجي تجاه الأزمة الأوكرانية لا ينفصل عما سبقه من تحركات ومواقف خليجية اقليمياً ودولياً، ولا يمثل في حقيقة الأمر إعادة تموضع أو تغيير للأولويات الاستراتيجية أو تحول نحو الشرق والتخلي عن شراكات الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، ولكنه يجسد تماماً قراءة جيدة وواعية للمشهد الدولي، وما يموج به من تغيرات في موازين القوى، فضلاً عن كونه استمرار في الامساك بزمام المبادرة والمبادأة استراتيجياً في التعاطي مع الأزمات والتوترات والتفكير خارج الصندوق في التعاطي معها، وكل ذلك هو في حقيقة الأمر نتاج دراسة متأنية للظروف ومعطيات البيئة الاستراتيجية الاقليمية والدولية، بما يحقق مصالح دول مجلس التعاون ويضمن لها خطوات استباقية في ملفات متحركة.
 
 
والفكرة من وراء هذا التوجه الخليجي هو الحيلولة دون تأثر قاطرة التنمية الخليجية المتسارعة بما يجري من حولها عالمياً من تنافس واستقطاب وصراعات وتوترات، وهنا يبدو الأمر مفهوماً إلى حد كبير، فدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لا تريد سوى توفير أجواء دولية آمنة ومستقرة تضمن لعملية التنمية التواصل والاستمرارية وتضمن لها كذلك مستويات متزايدة من التعاون والشراكات بينها وبين الدول والاقتصادات الأخرى، لاسيما تلك التي تتمتع بمزايا نسبية يمكن أن تسهم في تعزيز معدلات الأداء التنموي الخليجي في مختلف القطاعات.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره