2022-12-01
زيارة بابا الفاتيكان التاريخية للبحرين.. رسالة سلام للبشرية
«عقب حربين عالميتيْن مروعتيْن، وحرب باردة ظلَّ العالم فيها حابسًا أنفاسه لعشرات السنين، تحدُث صراعات كارثية في مناطق العالم كافة، ووسط تصاعد الاتهامات والتهديدات والتنديدات، مازلنا نجد أنفسنا على حافة هاوية ولا نريد أن نسقط».. هكذا قدَّم البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، صورة دقيقة للمشهد الدولي الراهن إبَّان زيارته التاريخية الأولى لمملكة البحرين في مطلع نوفمبر2022، والثانية من نوعها لدولة خليجية بعد زيارة أجراها لدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2019.
بقلم: جهاد عمر الخطيب
باحثة في العلاقات الدولية
وتأتي زيارة البابا فرانسيس للبحرين في سياق دولي شديد التعقيد حيث استطالة الحروب والصراعات وتزايُد حدة الاستقطابات والتجاذبات التي أسفرت عن تعميق المعاناة الإنسانية حتى بات العالم أحوج ما يكون إلى الأصوات التي تخاطب العقل، وتفتح آفاقًا للحوار والسلام والتعايش بين صنوف البشر جميعًا، وتُعيد لهم أمنهم وتُجدِّد إيمانهم.
زيارة بابوية غير مسبوقة:
وصف البابا فرانسيس، زيارته للبحرين – في 3 نوفمبر 2022 بكونها «زيارة من أجل الحوار»، وقد أتت بعد أسابيع قلائل من زيارته لكازاخستان بمنتصف شهر سبتمبر الماضي، حيث حضر مؤتمر «قادة الأديان العالمية والتقليدية» Congress of Leaders of World and Traditional Religions، وتُعَد تلك الزيارة الأولى التي يجريها بابا الفاتيكان للبحرين، وتزامنت مع انعقاد “ملتقى البحرين للحوار- الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني”، بمشاركة فضيلة الإمام الأكبر “أحمد الطيب” شيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين.
وتُعتبر البحرين المحطة العربية السابعة في سلسلة زيارات البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، للخارج منذ توليه رئاسة الفاتيكان في عام 2013. وطيلة الفترة الممتدة من ذلك التاريخ حتى اللحظة الراهنة، أجرى البابا فرانسيس عددًا من الجولات العربية بدأها من دولة الأردن في مايو 2014، وكانت الأراضي الفلسطينية المحطة العربية الثانية في إطار زيارة البابا للأردن، حيث زار مدينة بيت لحم التاريخية جنوبي الضفة الغربية في رحلة حج وسلام للأراضي المقدسة ببيت لحم.
وفي عام 2017، قام الحبر الأعظم بابا الفاتيكان بزيارة إلى جمهورية مصر العربية في زيارة تاريخية هي الأولى من نوعها منذ 17 عامًا من زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لمصر عام 2000، وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة المحطة العربية الرابعة للبابا فرانسيس في عام 2019، واستمدت تلك الزيارة رمزية خاصة كونها تزامنت مع إعلان الإمارات عام 2019 عاما للتسامح، كما اعْتُبرت محطة فارقة في مسار الحوار بين الأديان كونها شهدت توقيع شيخ الأزهر الشريف الإمام “أحمد الطيب” والبابا فرانسيس بابا الفاتكيان “وثيقة الأخوة الإنسانية”.
وفي العام ذاته، قام البابا فرانسيس بزيارة تاريخية لدولة المغرب، وكانت جمهورية العراق المحطة السادسة لبابا الفاتيكان في عام 2021 حيث قام بزيارة عدة مدن عراقية أبرزها العاصمة بغداد والنجف و”أور” الأثرية التاريخية ليعود مجددًا إلى الدول العربية بزيارته للبحرين في العام الجاري.
إبعاد العالم عن «حافة الهاوية»
أكَّد البابا فرانسيس في كلمته أمام «ملتقى البحرين للحوار- الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني»، المنعقد بالعاصمة المنامة بالتزامن مع زيارة بابا الفاتيكان للبحرين، أن العالم يُدْفَع دفعًا نحو «حافة الهاوية» في ظل تفاقُم الصراعات والأزمات والكوارث الإنسانية، مجددًا معارضته لكل ما من شأنه تأجيج تلك الصراعات، وإطالة أمدها.
وفي هذا السياق، جدَّد بابا الفاتيكان معارضته لسباق التسلُّح كونه يُعيد العالم لحقبة الحرب الباردة، وكذا الزعماء الدينيين الذين يدعمون بفتواهم الحروب الراهنة، وقادة الدول الذين ينجرفون لصراعات طائشة لا هوادة فيها، وإحياء خطاب عفا عليه الزمن في محاولة لإعادة رسم مناطق نفوذ وتحالفات.
ويُلاحظ في هذا الشأن أن الصورة التي رسمها بابا الفاتيكان للمشهد الدولي الراهن كانت على قدر كبير من الدقة والواقعية؛ فالانزلاق لسباق تسلُّح تقليدي أو نووي، والإصرار على استمرار الحروب دون محاولة لتسويتها أو تقديم تنازلات من جميع أطرافها بغية التوصُّل لحل وسط يضع حدًا للحرب كلها أمور لن يجني العالم منها سوى مزيد من الاستقطابات والتجاذبات والتقسيم إلى معسكرات بما يمكن وصفه بـ «الحرب الباردة الجديدة» التي فاقمت –ولا تزال- المعاناة الإنسانية.
لقاء «الأخوة الإنسانية» مجدداً
منذ لقائهما التاريخي بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2019 حيث وقَّعا على «وثيقة الأخوة الإنسانية»، تكرَّرت اللقاءات بين شيخ الأزهر الشريف الإمام «أحمد الطيب» والبابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، ودائمًا ما يكون الود والحفاوة والاحترام السَّمت المُميِّز لتلك اللقاءات.
ومجددًا في المنامة، التقى الإمام الطيب والبابا فرانسيس في إطار زيارتهما لدولة البحرين من أجل حضور ملتقى البحرين للحوار- الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني»، وذلك في إطار سعيهما معًا لإحلال وإرساء قيم السلام والعيش المشترك وقبول الآخر، فضلًا عن تأكيدهما أهمية تضامن قادة وزعماء الأديان من أجل خير البشرية، وإعلاء صوت الدين لخدمة الإنسانية جمعاء.
وإبَّان الزيارة، شهد البابا فرانسيس اجتماع مجلس حكماء المسلمين الذي عُقِد برئاسة استثنائية مشتركة بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقد شهد الاجتماع توافقًا حول الأطروحات التي بلورها الإمام «أحمد الطيب» بشأن تعزيز الوحدة الإسلامية واحترام الاختلافات، وكذا الوحدة مع المسيحيين والأديان الأخرى، علاوة على تأكيد الهدف الرئيس للحوار بين الأديان والذي يتمحور حول إذابة الاختلافات وتجسير الفجوة ، ولا يستهدف البتَّة طمس الهوية أو إلغاء الفروقات والتمايزات بين البشر وبعضهم.
وفي المنامة، عاود شيخ الأزهر الإمام «أحمد الطيب» التأكيد على أهمية «وثيقة الأخوة الإنسانية» باعتبارها أنموذجًا ونهجاً يُمثِّل أساساً للبناء من أجل السلام والوئام والاحترام المتبادل والتسامح بين الناس. وهي الوثيقة التي وقَّعها شيخ الأزهر الشريف والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، بدولة الإمارات في 4 فبراير 2019، وجاءت بمثابة دعوة للمصالحة والتَّآخِي بين جميع المؤمنين بالأديان، وكذا المؤمنين وغير المؤمنين، وكذا نبذ العنف والتطرف الأعمى، كما أنها أيضًا مثَّلت دعوة للتسامح، والتمسُّك بقيم السلام والعيش المشترك، وكفالة الحرية لكل البشر اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسةً حسبما ورد في بنود الوثيقة.
وتخليداً لهذا اليوم وتأكيد كونه محطة فارقة في مسار الحوار بين الأديان، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بالإجماع لإعلان يوم 4 فبراير «اليوم الدولي للأخوة الإنسانية»-ضمن مبادرة قدمتها كلٌ من مصر والإمارات والبحرين والسعودية- واحتفاء المجتمع الدولي بهذا اليوم سنوياً بدءاً من عام 2021 باعتباره مناسبة للتفكُّر والتدبُّر في أهمية التفاهم بين الثقافات والأديان وقيمة الاحترام المتبادل، وقبول الآخر، وهو جوهر أي دين.
واعْتُبر لقاء الإمام «الطيب» والبابا «فرانسيس» في المنامة تأكيدًا على ما نصَّت عليه وثيقة الأخوة الإنسانية بشأن العلاقة الارتباطية بين الشرق والغرب، والتي هي ضرورة قصوى للجانبيْن لا يمكن استبدالها أو تجاهلها؛ فكلاهما يرى ضآلته في الآخر، فبإمكان الغرب أن يستلهم من الشرق ما يعالج به روحه ويواجه به طغيان الجانب المادي، في حين أن الشرق يجد في الغرب سبُل التنمية والتقدم العلمي والتقني.
وصفوة القول إن الزيارة التاريخية للبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، للبحرين ولقائه شيخ الأزهر الشريف الإمام «أحمد الطيب» نقطة مضيئة تُضاف إلى سجل الزعيميْن الدينييْن الحافل بمحاولات مخلصة لتقديم نموذج للحوار والتسامح والتعايش السلمي وتجسير الهُوّة بين الأديان، انطلاقًا من حقيقة أن التعدُّد والاختلاف هو سُنَّة الله في كونه، وأن التقارب مع الآخر وقبول معتقده الديني لا يعني بأية حال طمس الهوية أو الفناء في الآخر، وإنما القبول والتعارف والتسامح والتعايش السِّلمي والوحدة في عالم يموج بالصراعات والحروب الطائشة والمغامرات غير محسوبة العواقب.
لا يوجد تعليقات