مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-09-06

سلاح الوعي في منظومة الدفاع عن الدولة

نعيش الآن عصر الإنسان الآلي الذي يقوم برص الألغام وحراسة الحدود .. وكذلك تلك المواد التي يتم رشها على الدبابات فتصاب بالشلل.. أو بعض المواد التي تُرش داخل بناية لتشتعل بعد بضعة ساعات ... ومواد أخرى يتم رشها على ممرا ت الطائرات فتجعلها غير صالحة... ومحرك يقل حجمه عن الميليمتر ... والنملة الآلية التي تتسلل بسهولة إلى مباني المخابرات... وأجهزة تُصدر ذبذبات معينة تجعل حشود الجنود أو المتظاهرين يصابون بالقيء والإسهال فيتراجعون ،،، 
 
بقلم / عبد الله يسرى إعلامي وكاتب 
 إن التقدم المذهل ومايسمى بثورة المعرفة يفرض علينا أن لا نمكث كثيرا لنتحرك وتتحرك كل أجهزة الدولة لتستعد دفاعا، وهجوما اذا لزم الأمربسلاح أمضى من أي سلاح وهو  الوعي وهودرجة بين الإدراك و الإحاطة !!
 
لم أستطع أن أُخفي دهشتي وفرحي وأنا أتابع بالصدفة قناة “ذكريات” السعودية التي بدأت بثها مع سريان الحظر الصحي بسبب جائحة Covid-19، والتي تعرض لمواد تليفزيونية قديمة منذ أكثر من 45 عاما، مسلسل كرتون “عدنان ولينا” و”هايدى” وبرامج كانت تحظى في ذلك الوقت بمشاهدة كبيرة، إذ  لم يكن هناك في الفضاء السعودي غير القناة التليفزيونية الحكومية – بإستثناء قناة التابلاين التابعة لشركة خط التابلاين التي كانت تنقل البترول من السعودية إلى لبنان- انذاك ،،
 
قادني هذا الشعور إلى العودة في ظل هذه الظروف الإنسانية الصعبة علينا جميعا بعد أن تحول الإعلام بقنواته التي تبث ليل نهار أعداد المصابين والموتى جراء هذا الفيروس اللعين،  تحول إلى بكائية كونية تبث طاقات سلبية جبارة على الروح والوجدان على مستوى العالم،، قادني لمتابعة قنوات من هذا النوع ظهرت قبل بضعة سنوات مثل قناة “دبي زمان” وقناة “أبو ظبي زمان” وقبلهم جميعا قناة “التلفزيون العربي”  التي ظهرت عام 2010،  المصرية والتي أطلقت بمناسبة اليوبيل الذهبي للتلفزيون المصري، لكنها توقفت ثم عادت للظهور مرة أخرى عام 2016 بمُسمى “ماسبيرو زمان”،، هذا النوع من الفضائيات لعب دورا مهما في إحداث التوازن النفسي لدى كل من تعرض لمشاهدتهم برغم الصخب الكوني الذي أحدثته متابعات الإعلام لجائحة Covid-19 وما صاحبها من توترات عصبية ونفسية وخوف وهلع عند الناس، جراء سقوط وسائل الإعلام مع هذا التناول الذي لم تعتد عليه سابقا ،، كل ما سبق يقودما إلى تسائل : هل هذا الشغف نتيجة عودة الكلاسيكية - التي هي إتجاه عالمي بدأ مع الألفية الجديدة في السينما- ؟! 
 
أم هي النوستالجيا “الحنين” لكل قديم؟! والتي نحن جميعا مرضى بها، ذلك المرض اللذيذ والذي يعيدنا إلى سنوات الطفولة والشباب لنستذكر معها هذه المواد التليفزيونية وكل ما صاحبها في ذلك الوقت من أماكن وأحداث وأشخاص رحلوا عنا.
 
.. كل ما سبق كان بمثابة تمهيد نيراني لما يٌطلق عليه “إديولوچية السلاح “ !! 
يقول الجنرال الأمريكي المتقاعد “بيرى سميث” وقد كان أحد الضيوف البارزين على قناة CNN الأمريكية وقت حرب الخليج : “ إن الحرب لم تكن هي كل ما غطاه الإعلام وأنه على مدى ستة أسابيع التي إستغرقتها الحرب، شاهد الناس العدد الأكبر من ساعات البث في اليوم الواحد عن أي فترة مضت في التاريخ”.
 
 كما تذكر عدد من المصادر ما كان يدور في كواليس CNN من مخرجي الأخبار ورؤساء التحرير حيث كان جزء منهم منشغل بمطالعة عناوين النيو يورك تايمز  والواشنطن بوست  لتحديد القصص الخبرية التي ستحتوي عليها فيما بعد نشرات الأخبار،  بينما بقي عدد من المخرجين يُتابعون المشاهد القادمة من مسرح العمليات هناك في الكويت أو في القواعد العسكرية الأمريكية المتاخمة ويكتبون القصص الخبرية لتندمج مع ما يصل عبر وكالة “ الأسوشيتد برس” من كم هائل من الصور Sitcoms والفاكسات لتُكوّن كلها نظاما إعلاميا متكاملا منصهرا في تكوين “ Images “ أو صور ذهنية، والتي قد تكون مصطلحا مرتبطا بشكل مباشر بالنشاط الإنتخابي في عالم السياسة أو بنشاط العلاقات العامة في عالم إدارة الأعمال، لكنها في تخصص “العمليات النفسية”، إختصار لكلام كثير يشتعل له الرأس شيبا.
 
تكشف بعض الوثائق أنه وبعد إنشاء الحكومة الأمريكية عام 1947 لجهاز المخابرات المعروف بـ”CIA” ليتولى الجانب الثقافي في الحرب البــاردة بــين الولايــات المتحـــدة الأمريكيـــــة وبين الإتحاد السوفيتي والذي كانت نواتـه قبل ذلك “مكتــب الخدمـــات الإستراتيجيــة” والذي قــام ترومان بحله في سبتمبر 1945 حيث كان من أبرز رجــــالــه “آلان دالاس” و”كـيرميت روزفلـت”، فتخــبرنا الوثائــق أن الهــدف من إنشــاء الجهاز هو “تحصين العــالم ضــد وبـاء الشـــــــيوعيــة وتمهـيد الطريق أمـــام مصالح الســـياســة الأمريكيــة في الخارج” فتم التجنيد لهذا الهدف الإستراتيجي أسماء لامعة في عالم السينما والرواية والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي والمؤرخين والفلاسفة مثل “ أرنولد توينبي” و “ برتراند راسل” وإعتمدت في ذلك على مؤسسة “فورد” و”روكفلر” التي كان “هنري كيسنجر” أحد خبرائها في الترويج للحلم الأمريكي، وقامت CIA لإحكام الحصار على المعسكر الشيوعي عام 1950 بإنشاء منظمة ثقافية بإسم “كونجرس الحرية الثقافية” تحولت فيما بعد إلى “الإتحاد الدولي للحرية الثقافية”، وإفتتحت لها في 35 دولة أفرعا لتمويل المجلات والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية، ليطغى الذوق والمزاج الأمريكي على نظيره السوفيتي الذي كان منتشرا آنذاك كموسيقى “رحمانينوف” و”تشيكوفسكي” وفي عالم الرواية “تشيخوف” و”داستافسكي” و “تولستوي” ... فظهرت وإنتشرت موسيقى  Rock and Roll و  Country music و  Jazz و HipHop، بل وصل الأمر في هذه المنظمة إلى نجاحها في منع فوز شاعر شيلي الشهير “نيرودا” بجائزة نوبل عام 1964، ولم يفز بها إلا عام 1971 حين كان سفيرا في فرنسا ومع هذا قتلته الـCIA بعد فوزه بعامين كما تذكر ذلك بعض الوثائق والتي أٌميط اللثام عنها بعد أكثر من 50 عاما.
 
إن ما فعلته الـCIA في عالم الفن والأدب لإعادة بناء وتشكيل البنية الثقافية في العالم والذائقة الفنية بما يؤدي إلى كراهية الشيوعية والسعي وراء النموذج الأمريكي، يؤكد سرعة وخطورة الثقافة في التأثير على الوعي والوجدان من خلال أدواتها كما ذكرنا، السينما- المسرح-الفن التشكيلي- الموسيقى-المعارض الفنية ... وقد جُمعت كل هذه الفنون في الفن الثامن وهو “التليفزيون”!! .
 
قُبيل شرارة الثورات العربية والتي عُرفت بـ”الربيع العربي”، كنت أتابع شخصيا التحولات الثقافية التي شهدتها مصر منذ عام 2003 وحتى قُبيل 25 يناير 2011، سواء في المسرح الذي غلُب عليه الطابع التجريببي experimental وساد على حساب المسرح القومي ال Classic وأيضا معارض الفن التشكيلي وغلبة فن “التراكيب” Installation  على الشكل السائد النمطي فيه، وإختراق الأموال القادمة من الخارج على هيئة دعم المشروعات الشبابية الثقافية والمسرحية من خلال عدد من المراكز التي كانت موجودة في وسط القاهرة...  كنت أتابع مُجمل المشهد الثقافي والفني بفم فاغر، محاولا فهم ماسيحدث وربطه بالمشهد السياسي والإجتماعي آنذاك،، فعلا لم يكن أي شيء يحدث إعتباطا!!
 
  كما لعب المركز الدولي للصحافة “ICFG” في القاهرة دورا مؤثرا في هذا الإطار،، حيث أتذكر أنه قُبيل إنتخابات 2005 الرئاسية المصرية والتي كانت بمثابة أول إنتخابات رئاسية تعددية بعد ثورة 23 يوليو ، قام شخص أمريكي يٌدعى” مايكل برادسلي” بعمل ورشة عمل لمجموعة من الإعلاميين حول كيفية تغطية الإنتخابات على الطريقة الأمريكية، ويعد أن إختار من أكثر من 300 متقدم من كل القنوات التليفزيونية والفضائية التي كانت تموج بها مصر آنذاك، 36 إعلاميا ... وأنهى هذه الورشة في أسبوع ثم إختار 6 إعلاميين للمرحلة الحقيقية التي قَدِم من أجلها إلى مصر، وهي عمل مجموعة من التقارير الإخبارية المصورة عن أبرز 18 مشكلة عامة كالمواصلات والإسكان والصحة والتعليم وغيرها باللغة الإنجليزية، لإذاعتها عبر شبكة CBS الأمريكية،، هكذا كان يقول .. !!
 
ولعل ما أقوله الآن يدركه تماما العاملون في مجال الإذاعة، فلدينا من إرث الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم ما يسمى بـ”الإذاعات الموجهة” بلغات مختلفة تكاد تكون ناذرة لكنها مؤثرة في كتل حيويّة في بلادها، وكانت تقوم بدور الإعلام الكوجه في تلك المرحلة الزمنية في إطار الحرب الباردة الصامتة وما يُعرف بالإختراق الثقافي،، يُمكن إستثمارها الآن وتعظيم دورها في إطار منظومة المواجهة للعدائيات القائمة والمحتملة، منها على سبيل المثال البرنامج الموجه باللغة الفارسية واللغة التركية واللغة الأمهرية، وتكون بمعادل بصري تليفزيوني مناسب !
 
وعلى جانب آخر فإن عودة الروح للدراما الوطنية والتاريخية بإنتاج واع لمخاطر المرحلة التي تواجهها مصر والمنطقة العربية جراء المطامع والتدخلات الفارسية والتركية لهو دليل هام على يقظةٍ وتنبُّه لأهمية هذه الآلية في تصحيح وتوحيد المفاهيم وتحقيق الإصطفاف الوطني وكشف زَييف العدو الذي تارة يكون إرهابيا واضحا، وتارة يكون في شكل صور ذهنية وقيم سلوكية ومظهر خارجي يُراد الترويج له في مجتمعاتنا لإختراقها وإستلابها من خلال فضائيات عربية مُوجهة – مع الأسف- لدول عربية بعينها ..  فاليقظة ثم اليقظة ثم اليقظة!!
 
وهنا نؤكد أن صناعة الوعي هي إستراتيجية مُقترحة للدولة في منظومات متعددة أولها الإعلام،، ويمكن أن تكون الغاية في ذلك خلق سياج آمن حول عقل ووجدان المواطن، يقيه من الإختراق والتأثر بأي عوامل خارجية، وهو ما نسميه “الحفاظ على الهُوية الوطنية” .. ولتحقيق ذلك هناك ركائز كثيرة، أولها الحفاظ على جذوة الفولكلور الشعبي والتراث، متّقدة لا تنطفىء أبدا أمام الثقافات الوافدة، ودعم الدولة لذلك بكل الآليات وسوف تتقاطع هنا آليات الإعلام مع الثقافة، وليس من نافلة القول أن أذكر بكل التحية والإعجاب مهرجان”سويحان” الإماراتي الخاص بمزاين الإبل ومهرجان “الجنادرية”  السعودي...  أيضا وجود توازن على شاشات التليفزيون الوطني القومي المملوك للدولة في بث المواد الإعلامية المُنتجة وطنيا مع المواد الإعلامية المُعلبة القادمة من الخارج، وكذلك التفاعل بحذر مع برامج “الفورمات”... 
 
إن الحفاظ على الهُوية الوطنية في مجال الإعلام أمر كبير وواسع ومليء بالتفاصيل يبدأ بالمضمون وينتهي بالمكساچ والمؤثرات الصوتية و الموسيقية،  ونؤكد للمرة الألف،، أن الحفاظ على الأوطان يحتاج إلى أعين يقظة.. واعية .. مُدركة، مُنفتحة بغير إندفاع و متأنية بغير تباطؤ... وللحديث بقية.    
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره