مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-06-01

عالم ما بعد الأحادية القطبية: جدلية العلاقة بين الاقتصادي والعسكري والسياسي

من يتعمق في قراءة تاريخ العلاقات الدولية يخلص إلى أن هناك علاقة جدلية بين المتغيرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تمكِّن الدول من تحديد مكانها ومكانتها في هيكل النظام الدولي في كل مرحلة من مراحله؛ بحيث يصعب معها تحديد أي هذه المتغيرات هو العامل المستقل، وأيها هو العامل التابع، وأي منها يقود الآخريْن وراءه، ويمهد لهما الطريق. 
 
 
 
 
فقد تعودنا على قراءة أن القدرات العسكرية للدول هي التي تمهد للقوة الاقتصادية، أو أن النفوذ الاقتصادي يخلق التبعية السياسية،أو الهيمنة السياسية تمهد الطريق للشركات الاقتصادية للتغلغل والسيطرة، ثم الاستيلاء والنهب المنظم، وهذه جميعها قراءات تبسيطية تعمِّم حالة معينة على تاريخ التفاعلات الدولية المعقدة والمتشابكة.
حفظ التاريخ الحديث لنا أن أهم مؤشرات سقوط الاتحاد السوفيتي، في 26 ديسمبر 1991، كانت وقوف المواطنين في عاصمته موسكو ليوم كامل من أجل «ساندويتش ماكدونالد الأمريكي»، وكان هذا المشهد السريالي مع الكوكاكولا والبنطلون الجينز أهم وسائل الولايات المتحدة لتظهر للعالم فشل النظرية والتطبيق في الدولة الاشتراكية الأولى، وقد مثَّل هذا المشهد نهاية العالم ثنائي القطبية، والدخول إلى العالم أحادي القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكان العامل الرئيس لهذا التحول هو الاقتصاد، فقد قادت حرب أفغانستان إلى انهيارات اقتصادية في الاتحاد السوفيتي، دفعت قيادته إلى تفكيكه والقضاء عليه بصورة إرادية رغم قوته العسكرية ونفوذه السياسي العالمي.
 
 
وفي 8 مارس 2022، تعود ماكدونالد للمشهد مرة أخرى؛ حيث تقرر الشركة إغلاق 850 فرعًا لها في عموم روسيا الاتحادية؛ في موقف يعكس العجز الأمريكي والغربي عن مواجهة روسيا عسكريًّا في حرب أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير الماضي، فلجأت إلى العقوبات الاقتصادية. ولكن هذا المشهد بدوره يؤرخ لنهاية العالم أحادي القطبية، والدخول إلى عالم متعدد الأقطاب، سوف تصنعه القدرات الاقتصادية، كما سوف يتضح في السياق الآتي.
 
 
هذه العلاقة الجدلية بين القدرات الثلاث للدول: الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تحددها ظروف الزمان والمكان، ولكن هناك خطًّا ثابتًا فيها، وهو أن القدرات الاقتصادية عادة ما تكون هي العنصر الحاسم الذي يحدد مدى فعالية كل من القدرات العسكرية والسياسية، فعلى سبيل المثال، لم تمنح القدرات العسكرية الهائلة كوريا الشمالية وضعًا يعكس حجم هذه القوة العسكرية بسبب ضعف القدرات الاقتصادية وتراجعها، ولم تستطع فرنسا رغم نفوذها السياسي الكبير أن تناطح الولايات المتحدة بسبب الفارق الهائل في القدرات الاقتصادية.
 
 
تحول النظام الدولي
والحقيقة أننا في عالم اليوم نشهد تحولًا كبيرًا في بنية النظام الدولي ستقود إلى نهاية حالة القطبية الواحدة التي استمرت لأكثر من ثلاثين عامًا، وذلك بفضل التحولات الكبرى في موازين القوى الاقتصادية في عالم اليوم. في 18 فبراير 2017، وقف «سيرجي لافروف» وزير الخارجية الروسي، مخاطبًا قادة العالم الغربي في الاجتماع الثالث والخمسين لمؤتمر الأمن العالمي المنعقد في ميونخ بألمانيا، قائلًا: «آمل أن يسعى القادة الذين يشعرون بتحمل المسؤولية لإنشاء نظام دولي عادل، وهذا النظام العادل لا بد أن يكون نظام ما بعد العالم الغربي «postwest world order”.
 
 
قالها “لافروف” بعد أن فعلها “بوتين” قبل ذلك التاريخ، إن العالم يتجه نحو نظام دولي جديد في طور التشكُّل، تحمل العبء الأكبر في هندسته روسيا والصين، ومعهما يدخل العالم بقوة إلى مرحلة ما بعد الغرب، بعد أن عاش قرنين كاملين رهينًا للقوى الغربية التي فرضت نفسها على شعوب الأرض بقوة السلاح، وسطوة الاستعمار، وبهما نهبت الثروات؛ فأسست نهضة حضارية وعلمية وصناعية غير مسبوقة، جوهرها النهب والسرقة والاستيلاء على ثروات الآخرين، وإفقارهم فقرًا شاملًا؛ إذ كانت تسرق الموارد الطبيعية بقوة السلاح أو ترهيب السياسة، وتنهب الثروات بمفاعيل الفساد والملاذات الآمنة للفاسدين، وتسرق العقول بتهجيرها وجذبها بإغراءات متعددة.
 
 
قبل قرنين من الزمان، كان مركز العالم في الشرق؛ إذ كان الاقتصاد في الصين والهند، والقوة العسكرية في الدولة العثمانية، ومع انطلاق الثورة الصناعية وحركة الاستعمار تحول المركز إلى الغرب الأوروبي، وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل إلى العالم الجديد، إلى أمريكا وريثة الإمبراطورية البريطانية. وكما كان الانتقال إلى عالم الغرب اقتصاديًّا، فإن الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب حقيقة صنعها الاقتصاد قبل أن تقررها السياسة، وترسخت في الواقع قبل أن تنطق بها ألسنة السياسيين. 
 
 
الاقتصاد الأقوى
ولكي نعرف بدقة حركة مراكز الثقل الاقتصادي في العالم؛ فلننظر إلى الاقتصادات الأقوى عام 2050، سنجد أن الاقتصاد الأول في ذلك التاريخ سيكون الاقتصاد الصيني بناتج محلي إجمالي 58 تريليون دولار، يليه الهندي 44 تريليون دولار، ثم الولايات المتحدة 34 تريليون دولار، فإندونيسيا 10 تريليون دولار، وبعد ذلك يأتي كل من البرازيل وروسيا ٧ تريليونات دولار، ثم المكسيك واليابان وألمانيا 6 تريليونات دولار، وبريطانيا 5 تريليونات دولار،  ثم تأتي تركيا وفرنسا والسعودية ونيجيريا ومصر. هذه الأرقام تقول لنا إنه من ضمن أقوى عشرة دول اقتصاديًّا بإجمالي 183 تريليون دولار هناك 7 دول خارج العالم الغربي، بإجمالي 138 تريليون دولار، وثلاث دول في العالم الغربي بإجمالي 45 تريليون دولار، أي: إن نصيب الدول الغربية لن يتجاوز ربع الاقتصادات العالمية الكبرى.
 
 
هذه الحقائق بدأت تنعكس على الواقع الدولي الآن على مستوى التحالفات الدولية، وإعادة ترتيب مناطق مختلفة من العالم، ومنها العالم العربي، وبدأت إرهاصات تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط، وشرق أوروبا، وشرق آسيا، وبدأت كل من روسيا والصين تتحركان بطريقة ثابتة وهادئة، ولكنها صارمة نحو تنفيذ هذا الهدف البعيد، وهو الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب.
 
 
حين أدركت القوى الغربية أن القوة الاقتصادية الصاعدة للصين سوف تنعكس على هيكل النظام الدولي، خصوصًا مع تمدد الصين اقتصاديًّا في إفريقيا وأمريكا الجنوبية لشراء الموارد الأولية والمعادن الاستراتيجية والنادرة بكميات هائلة، ولمدد زمنية تزيد على العشرين عامًا، وحين ظهرت هذه الحقيقة واضحة، لا سيما بعد الأزمات المالية المتتالية منذ نهاية 2008، بدأت القوى الغربية، خاصة أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، تتحرك بصورة متناغمة لعرقلة التوسع الصيني، ومحاصرة نموها الاقتصادي المتسارع، وفك الارتباط بينها وبين روسيا، ذلك الارتباط الذي يؤشر إلى بروز حلف استراتيجي يهدد نظام القطبية الواحدة المتمثل في الولايات المتحدة، وخلفها الانفراد الحضاري الغربي بالعالم.
 
 
رؤية استراتيجية جديدة
هنا برزت الرؤية الاستراتيجية التي تهدف إلى نقل منطقة التوتر الأشد سخونة من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، مع الحفاظ على كم من التوترات في العالم العربي يحقق بعض المصالح الاستراتيجية الكبرى، ويأتي هذا في إطار التحول الاستراتيجي الكبير للإدارة الأمريكية من أوراسيا إلى المحيط الهادئ، وذلك بعد أن صارت المصالح الكبرى للعالم الغربي تتمثل في احتواء الصين وروسيا والهند، تلك القوى التي سوف تزيح العالم الغربي بما فيه أوروبا وأمريكا من الصدارة، وتعيد قيادة العالم إلى آسيا بعد أن انتقلت منها منذ قرنين من الزمان مع الثورة الصناعية إلى أوروبا وامتداداتها في أمريكا الشمالية، وفي هذا السياق جاء الانسحاب الأمريكي المتعجل والعشوائي من أفغانستان، وتسليمها عن عمد لحركة طالبان، على أمل أن تخلق طالبان بؤرة توتر جديدة تجتمع فيها الحركات الإسلامية العنيفة التي سوف تربك الصين والهند وروسيا.
 
 
وفي السياق نفسه أيضًا كان التدخل الأمريكي في إفريقيا؛ حيث نُقِلَ تنظيما القاعدة وداعش إلى المناطق الإفريقية التي توسعت فيها الاستثمارات الصينية؛ لخلق بؤر توتر تعرقل تمدد المصالح الصينية في مناطق مثل دول الساحل (مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد)؛ لذا يمكن فهم تعدد الانقلابات العسكرية في دول الساحل وغرب إفريقيا، خصوصًا تلك التي انخرطت قياداتها في علاقات عميقة مع الصين، مثل: الرئيس الغيني “ألفا كوندي”، الذي انقُلِب عليه في 5 سبتمبر 2021، بعد توقيعه عقد تصدير طويل الأمد لخام الألومنيوم مع الصين.
 
 
الحرب الأوكرانية
ثم جاءت حرب أوكرانيا لتُربك التحول الاستراتيجي الأمريكي الكبير من أوراسيا إلى الباسيفيك، وتُعيد الولايات المتحدة وبروكسل إلى البيت الأوروبي، ويُصبح الهم الأكبر لهما تأمين حدود حلف شمال الأطلسي، والحفاظ على مصادر الوجود، مثل الطاقة والغذاء، ويكتشف العالم أن القطب العالمي الأوحد غير قادر على ممارسة دوره؛ حيث فَقَدَ قوة الردع التي كان يجب أن تمنع روسيا من شن حرب على أوكرانيا، وفَقَدَ القدرة على المواجهة أيضًا، واكتفى بأضعف الوسائل وهي الحصار الاقتصادي والإعلامي والثقافي، وحتى في هذه كانت الآثار السلبية للعقوبات الغربية على روسيا أشد تأثيرًا على الاقتصادات الأوروبية والأمريكية بدرجة تجعلها سلاحًا ذا حدين لا يمكن استخدامه لفترات زمنية طويلة.
 
 
في ضوء كل هذه التطورات يتزايد التقارب الروسي الصيني، وتتوطد العلاقات بينهما، ويُعلن وزيرا خارجية الدولتين أن النظام العالمي أحادي القطبية قد انتهى، وتشرع روسيا والصين في التحضير لعالم متعدد الأقطاب سوف تكون بداياته بفقدان الدولار الأمريكي هيمنته الاقتصادية على العالم، ومعها يفقد الاقتصاد الأمريكي تفرده وصدارته، ويفتح المجال أمام قوى دولية صاعدة، مثل: الصين وروسيا والهند، لتجد لها مكانًا في قمة النظام العالمي، ومعها سوف تسعى أوروبا إلى الاستقلال العسكري عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكل جيشًا موحدًا؛ وبذلك تصبح أوروبا قطبًا عالميًّا مستقلًا، وليس تابعًا للولايات المتحدة الأمريكية.
 
 
في يوم الأربعاء 30 مارس 2022، أعلن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” في مدينة “تونشي” بشرق الصين أن الصين وروسيا تعتزمان السير قدمًا نحو نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب، وقال: “نحن مهتمون بأن تتطور علاقاتنا مع الصين بشكل ثابت ومستمر”، وهو ما اتفق عليه زعيما البلدين الرئيس “بوتين” والرئيس “شي جين بينج”؛ أن روسيا والصين وشركاءهما سيتحركون معًا نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل بناء على نتائج “المرحلة الخطيرة التي يمر بها تاريخ العلاقات الدولية”. مؤكدًا مرة أخرى: “نمر بمرحلة خطيرة للغاية في تاريخ العلاقات الدولية، وأنا مقتنع بأنه في أعقاب هذه المرحلة، ستتضح ملامح الوضع الدولي بشكل كبير وسنتحرك معكم، ومع شركاء آخرين في الرأي، نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل وديمقراطي”.
 
 
الخاتمة
إذا كانت الحـــرب العالميـــة الأولى قد شهدت نهاية الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، وظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وكانت حرب السويس 1956 نهاية لنظام عالمي متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية الأوروبية: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبداية لنظام القطبية الثنائية الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكانت حرب أفغانستان خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي نهاية لنظام القطبية الثنائية عام 1991، وبداية لنظام القطب الواحد الذي انفردت به الولايات المتحدة الأمريكية، فإن حرب أوكرانيا 2022 ستكون نهاية لنظام القطب الواحد، وبداية لنظام متعدد الأقطاب؛ سيكون فيه لروسيا والصين والاتحاد الأوروبي موقع قيادي بجانب الولايات المتحدة. ويبقى السؤال المحوري الذي يحتاج إلى أن تنصرف إليه عقول المخططين الاستراتيجيين: أين موقعنا في هذه التحولات الكبرى؟
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره