مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-11-01

قمة غلاسكو البشرية بين الدمار الإيكولوجي والاستعلاء التكنولوجي

مع ظهور هذه السطور للنور، تكون أعمال قمّة غلاسكو، أو مؤتمر الأمم المتّحدة للتغيّر المناخيّ 2021 قد انطلقتْ في مدينة غلاسكو بأسكتلندا، وتستمر أعمالها حتى الثاني عشر من شهر نوفمبر تشرين الثاني.
 
 
بقلم: إميل أمين
كاتب وباحث في الشؤون الدولية 
 
 
ما هو الهدف من تلك القمّة؟ ولماذا هي قمّة استثنائيّة في حياة الإنسانيّة؟
يمكن القطع أنّها آخر خشبة خلاص، يمكن أن تتعلّق بها البشريّة الغارقة في هاوية التغيّر المناخيّ، والذي يهدّد بفناء الجنس البشريّ برُمّته، ودمار الكوكب الأزرق، ولذلك فهي قمة استثنائيّة مشحونة بالمخاطر، وباتت تداعياتها تتجاوز حدود المناخ بكلّ تطوّراته الكارثيّة، لتمسّ مناحي الحياة السياسيّة والاقتصاديّة وغيرهما، ما يستدعي حتميّة أهمّيّة خروج المؤتمر بنتائج فاعلة خلال الأيّام التي من المُتوقَّع أن يشارك فيها زعماءُ من مختلف دول العالم.
 
 
والشاهد أنّه في شهر مايو الماضي، ارتفع صوت الأمين العامّ للأمم المُتّحدة أنطونيو غوتيريس، مُحذّرًا من المشهد المناخيّ الأمميّ الحاليّ، ومشيرًا إلى أنّه يتعيّن على جميع الدول الالتزام بخفض الانبعاثات الكربونيّة إلى درجة صفر بحلول عام 2050، إذا أراد العالم أن يتجنّب ارتفاعًا كارثيًّا في درجة الحرارة بمقدار 2.4 درجة مئويّة بحلول نهاية القرن.
غير أنّ ما جرى في يوليو المنصرم، وغداةَ قمّة العظماء السبعة في بريطانيا، أحبط غوتيريس ما جعله يبدو أقلّ تفاؤلاً بكثير من حدوث أيّ تغيّرات حقيقيّة في هذا المجال؛ ذلك لأنّ السكرتير العامّ للمؤسّسة الدوليّة، لم يلمس رغبةً حقيقيّة عند سادة العالم المتقدّم في تغيير الأوضاع وتبديل الطباع المناخيّة، إن جاز التعبير، وفي وقت يحتاج العالم فيه بشكل عاجل إلى التزام واضح لا لَبْس فيه بتحقيق أهداف اتّفاق باريس للمناخ وخاصّة من قِبَل دول العشرين، والتي هي بالدرجة الأولى مسؤولة بشكل شبه مطلق عن كارثة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وما يستتبعها من مظاهر وظواهر مناخِيّة كارثِيّة تشمل الحجر والبشر دفعة واحدة.
 
 
ما الذي يحتاجه كوكب الأرض بشكل عاجل، ويستدعي قرارات جراحيّة عاجلة من المجتمعين في غلاسكو هذه الأيّام؟
ربّما يتّسع الشرح والطرح على المسطّح المتاح للكتابة، غير أنّه وبدون تطويل مملّ أو اختصار مخلّ، يمكن القطع أوّلَ الأمر بوقف إنتاج الفحم، لا سِيّما وأنّه المُسبّب الرئيس في زيادة نسبة غاز الدفيئة، ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجويّ، الأمر الذي أنتج ظاهرة الاحتباس الحراريّ، وما يستتبعها من ظواهر مثل الأعاصير والعواصف، التصحر والنحر، الجفاف وندرة المحاصيل، وصولاً إلى الهجرة غير الشرعِيّة، والحروب الديموغرافِيّة المُتوقّعة، وكلّ من تلك العناصر ربّما نعود إليه ذات مرّة بالتفصيل والتدقيق.
عطفًا على ذلك، فإنّ العظماء السبعة في بريطانيا، بدا وكأنّهم تراجعوا عن التزاماتهم، بتقديم حزمة من المساعدات إلى الدول الفقيرة والنامية حول العالم، تصل إلى مائة مليار دولار، لدعم موازاناتهم الساعية في طريق تقليص تلوّث البيئة.
 
 
يعِنّ للقارئ أن يتساءل وله في الحقّ ألفُّ حقّ: مَنْ المسؤول عن ظاهرة الاحتباس الحراريّ وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضِيّة إلى هذا المستوى غير المسبوق؟
في أواخر الربيع الماضي، نشرت دورِيّة Frontiers in Sustainable Cities، والتي تهتمّ بشؤون المناخ والبيئة حول العالم، دراسة علميّة قَيّمة، أكّدت فيها أنّ 25 مدينة من كُبرَيات المدن العالمِيّة هي المسؤولة عن 52% من إجمالِيّ انبعاثات غاز الدفيئة في المناطق الحضرِيّة.
لا يغيب عن الأذهان الدور المُدمّر للبيئة التي تسبّبتْ فيه الصين وكبريات مدنها، من جَرّاء استخدام الفحم، ويبدو من الجلِيّ للعيان كذلك أنّ الولايات المُتّحدة الأمريكِيّة، قد ساهمت في تدمير الكوكب الأزرق عبر ما هو أكثر فداحةً من الفحم، رغم أنّ الأخير له لوبي مصالح يدافع عنه في قلب الكونجرس الأمريكيّ.
 
 
ما الذي سيحدث حال أخفق المجتمعون في غلاسكو في التوصّل إلى قرارات دوليّة ملزمة تجنُّبًا لكارثة نهاية النوع الإنسانيّ من جرّاء غضب الطبيعة؟
حكمًا، شهدت البشريّة عربونًا سلبيًّا الصيف الأخير، كمقدّمة للهول الذي يتوارى خلف الأبواب، مشتهيًا أنْ يتسَيّد على العالم، فقد انتشرت الحرائق في الغابات من جَرّاء ارتفاع درجة الحرارة في مواقع الغرب الأمريكيّ والكنديّ، بينما الفيضانات كادت أن تغمر ألمانيا وغيرها من دول القارة الأوربيّة.
 
 
حين نقول إنّ القادم مخيف، فإنّنا لا نتحدّث عن قرون بعيدة، بل خلال بضعة عقود لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، أي بحلول 2070، سوف تصل درجة الحرارة في مناطق واسعة وشاسعة حول الكرة الأرضِيّة إلى 70 درجة مئويّة، الأمر الذي يعني أنّ 3.5 مليار نسمة ستتحوّل حياتُهم إلى جحيم مقيم، وساعتها لن يجدوا أممهم سوى شدّ الرحال إلى دول وربّما قارات، أخفّ حدّة مناخيّة، غير أنّ ذلك سيخلق حروبًا تبدأ إقليميّة وتمتدّ عالميًّا؛ إذ سيعود المشهد الإنسانيّ إلى حالة أقرب للإنسان البدائيّ الأوّل، فذاك كان يسعى وراء الماء والعشب، والأخير يتطلّع إلى الهروب من القيظ القاتل.
والثابت أنّ ثمّة ما يدعو إلى وَصْف تغيّر المناخ في أغلب الأحيان بـ”المسألة الشريرة”؛ ذلك أنّ خفض ثاني أكسيد الكربون بالكامل من الاقتصاد لن يتطَلّب تغيير البنية التحتِيّة للطاقة العالمِيّة برُمّتها فحسب، والذي ستبلغ تكلفتُه تريليونات الدولارات، بل تعديل كلّ المنشآت في العالم، وتجديد الممارسات الزراعِيّة على كوكب الأرض.
في هذا السياق لا يتوجّب على الدول الغنِيّة أو المتقدّمة التفكير بأحاديّة أو نرجسِيّة غير مستنيرة؛ ذلك أنّهم بدون التعاون مع الدول النامية والفقيرة، لن يتمكَنّوا من النجاة.
 
 
هنا تبدو الاقتصادات النامية في حاجة وعلى نحو مُلِحّ إلى الاستثمار في أنظمة الطاقة منخفضة الكربون والبنية التحتِيّة لمقاومة التغيّر المناخيّ، وبالقطع فإنّ هذا لن يحدث ما لم تبادر الولايات المتّحدة الأمريكِيّة، جنبًا إلى جنبٍ مع حلفائها الرئيسيّين في أوربا وآسيا إلى استقطاب تحالف من المؤسّسات الماليّة الدوليّة كالبنك الدوليّ، وصندوق النقد الدوليّ وبنوك التنمية الإقليمِيّة، مثل البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتيّة والانضمام إليه، وكذا تشجيع الولايات المتّحدة  على الإقراض بطريقة تتماشى مع هدف الصافي صفر من غاز ثاني أكسيد الكربون، والاتّجاه المباشر نحو استثمار مستدام من أجل بنية تحتيّة  وتنمية مستدامة حقيقيّة.
على عتبات قمّة غلاسكو، تبدو البشريّة أمام تجربة وجودِيّة وعليها الاختيار بين الدمار الإيكولوجِيّ والاستعلاء التكنولوجيّ.
 
 
ولكي تتفادى الكارثة عليها تغيير النظم البيئيّة والصناعية والزراعية بشكل غير مسبوق من الناحية التقنيّة، وفي الوقت ذاته بحجم كبير وغير مسبوق. ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخلٍّ، لقد وصلت الإنسانيّة إلى أوج الخطر الجوهريّ وبحاجة إلى جهد لا يقلّ عن مجهود الحرب العالميّة الثانية، مثل التحشيد العريض وبمقاييس الالتزام والتركيز والموارد والتغطية العالمِيّة.
 
 
هل الأمل ضعيف في استنقاذ كوكب الأرض؟
تُظهِر صفحاتُ التاريخ أنّ التحوّلات المؤثّرة في البُنى التحتيّة برُمّتها كما هي الحاجة اليوم تستغرق زمنًا أطول بكثير، وبتعبير آخر حتّى استثمارات فوريّة لبلدان متحمّسة ومنظَّمات وأصحاب مليارات لا تستطيع تحويل النظام الصناعيّ بين عشيّة وضُحاها.
من هنا، يبدو الصراخ بأعلى صوت غير مجدٍ، ولن يغيّر من الأوضاع الحالِيّة، وانما وضع أهداف جريئة يمكن أن يساعد.
مستقبل الأرض والبشر بات مرهونًا بوقائع تقنِيّة جديدة على الأرض، تسرع بها سياسة صناعيّة فعّالة وتعاون دوليّ، هي ما سيحدث تحولاً في السياسة ويجعل إزالة الكربون بشكل شامل واقعًا حيًّا.
سيكون التغييرُ أبطأ ممّا يرغب فيه العلماء والناشطون، لكنّه سيتسارع إذا توقّفَ القادةُ الأشدّ رغبةً في مواجهة التغيّر المناخيّ عن الوعظ، وبدؤوا برؤية أنّ إزالة الكربون الشاملة هي قضيّة هندسِيّة.
قضيّة المناخ ليست قضِيّة الحكومات فحسب، إنّها كذلك قضيّة القطاع الخاصّ؛ فالتغيّرات السلبيّة المناخيّة حكمًا ستؤثّر على عوائد إستثماراتهم حول الكرة الأرضيّة.
 
 
وفي الوقت عينه، إنّها قضيّة القادة الدينيّين حول العالم، من الأديان التوحيديّة والمذاهب الوضعيّة. جميعهم مدعوّون إلى المزيد من العمل لأجل المناخ، وذلك من خلال بذل جهد أكبر لتثقيف أتباع دياناتهم وتقاليدهم الروحيّة، بل والتأثير عليهم والمشاركة بفعاليّة في النقاش العامّ حول القضايا البيئِيّة، فضلاً عن دعم القادة الدينيّين للعمل على تحفيز أصول مجتمعاتِهم كالممتلكات والاستثمارات على العمل بما يتوافق وخدمة البيئة.
 
 
ذاتَ مرّةٍ، قال الرئيس الفرنسيّ السابق فرانسوا هولاند: “إنّ لدينا مهمّة واحدة فقط، وهي حماية كوكب الأرض وتسليمه نقيًّا للأجيال القادمة”.
 
 
هل سينجح المجتمِعون في قمّة غلاسكو في تحقيق الأمنية التي يتطلّع إليها كلّ البشر؟
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره