مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-05-04

كــورونا وتغير مفهوم الأمـــن الوطنــي

أحدثت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) التي أصابت العالم بحالة من الشلل وحوّلت دوله إلى جزر منعزلة، تغيرات كبيرة، وعلى صعد مختلفة، لم تشمل الجوانب المادية فقط، بل امتدت لتشمل عالم الأفكار والنظريات، ومنها تلك الخاصة بالعلوم السياسية، وسوف يتعمّق هذا التغير على الصعيدين المادي والفكري، كلما كانت التأثيرات التي ستتركها هذه الجائحة أكثر. 
 
 
بقلم الاستاذ الدكتور/ جمال سند السويدي 
مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
وقد يبدو من المبكر نوعاً ما الحديث عن عالم ما بعد كورونا وما سوف يشهده من تحولات متوقعة، لكن التأثيرات التي خلفتها تلك الجائحة حتى الآن، تتيح لنا، وبقدر كبير من الاطمئنان، الحديث عن تغيرات مهمة سيتمخض عنها هذا التحدي، الذي يعد الأكبر من نوعه الذي يواجه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.  
 
 
وما نريد الحديث عنه في هذا المقال، هو التغيرات التي ستؤدي إليها جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) فيما يخص مفهوم الأمن الوطني، الذي يعد من المفاهيم الرئيسية في الأدبيات السياسية، وقد حاز اهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين والباحثين والمختصين والمسؤولين، بل إن هناك مراكز بحوث ودراسات ينصبّ اهتمامها حصراً على هذه القضية.
وقبل الحديث عن التغيرات التي ستخلفها جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) على مفهوم الأمن الوطني، يجب في البداية التعريف بهذا المفهوم، وما لحق به من تطورات كبيرة خلال المراحل التاريخية المختلفة، منذ تبلوره كأحد المفاهيم الرئيسية في العلوم السياسية. 
 
 
مفهوم الأمن الوطني
نشأ مفهوم الأمن الوطني مع نشأة الدول القومية الحديثة، وتحديداً عقب توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648، وكان التعريف التقليدي لمفهوم الأمن الوطني يركز على القوة العسكرية كمرتكز رئيسي لتحقيق الأمن. والحاصل أن هذا المفهوم قد نشأ في ظل مرحلة تاريخية يسودها الكثير من الصراعات والحروب، وهذا الواقع هو الذي أدى إلى تغليب القوة العسكرية، أو ما تسمى القوة الصلبة، كأداة لتحقيق الأمن الوطني على ما عداها، من مصادر القوة الأخرى. ويخلط بعضهم بين مفهوم الأمن الوطني من ناحية ومفهوم الأمن القومي من ناحية ثانية، على الرغم مما بينهما من تباينات واضحة، حيث إن الأول يتعلق بأمن الدولة الواحدة، كأن نتحدث عن الأمن الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة. أما الثاني فيتعلق بأمن دول عدة تشترك فيما بينها بروابط خاصة أو مصالح مشتركة، كأن نتحدث عن الأمن القومي العربي، والمفهوم المستخدم لدينا في دولة الإمارات العربية المتحدة هو مفهوم الأمن الوطني، وهناك دول عربية أخرى تستخدم مفهوم الأمن القومي للإشارة إلى أمنها الخاص. 
 
 
في مرحلة لاحقة، تطور مفهوم الأمن الوطني وأصبح يتم التركيز على مصادر إضافية لحماية أو تحقيق هذا الأمن إلى جانب القوة العسكرية، فتم تطوير المفهوم باتجاه مفهوم الأمن الشامل، بمعنى أن أمن الدولة لا يتحقق بناء على ما تمتلكه من قدرات عسكرية فقط، وإنما بما تمتلكه أيضاً من مصادر قوة أخرى اقتصادية وسياسية وثقافية وغيرها، ثم ظهر مفهوم القوة الناعمة كمصدر جديد لقوة الدولة. ومع هذا التطور في مفهوم الأمن الوطني، تطورت في الوقت نفسه مصادر تهديده، التي تشمل مصادر داخلية وأخرى خارجية، فضلاً عن مصادر داخلية ترتبط بمصادر خارجية، وهو ما يدفع بعض الدول أحياناً للتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، من أجل حماية أمنها الوطني. ونريد أن نؤكد في هذا السياق أنه مع تنامي ظاهرة العولمة، باتت هناك مصادر تهديد مشتركة للأمن الوطني للدول المختلفة، مثل الإرهاب، الذي أصبح يهدد دول العالم المختلفة؛ في ظل سهولة تنقل الجماعات الإرهابية عبر الحدود. وفي ظل صيرورة العالم قرية صغيرة بالفعل في ظل العولمة، أصبحنا نعاني على سبيل المثال الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وانتشار الأوبئة بشكل سريع بين الدول، كما هو حادث حالياً مع جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). 
 
 
ثورة الاتصالات والمعلومات      
ومع تنامي ثورة الاتصالات والمعلومات، تم التركيز على قضية أمن المعلومات أو ما يسمى الأمن السيبراني كبعد رئيسي من مكونات الأمن الوطني، ويقول المراقبون إن المؤسسات العسكرية حول العالم تتسابق لاســــتقطاب خبراء ومتخصصين في مجال الحاســـوب؛ لأنهــم قـــد أصبحوا عنصراً حيوياً في الصراعات في القرن الحادي والعشرين، من أجل تشكيل كتائب من «المقاتلين السيبرانيين». وقد خلقت هذه الثورة تشابكات وروابط غير مسبوقة بين الأمم والشعوب المختلفة، وأصبح من الصعوبة، بل من المستحيل، فضّ هذه الروابط؛ الأمر الذي يكرس ظاهرة العولمة أكثر وأكثر؛ فدول القارة الإفريقية، على سبيل المثال، يعتمد الكثير منها على العالم الخارجي لاستيراد المؤن التي تلبي حاجتها الأساسية، ومن ثم فإنه من غير الممكن أن نطلب منها الانعزال عن الخارج، في ظل أي ظروف. 
 
 
الصحة والأمن الوطني
وتشهد الفترة الحالية تطوراً مهماً في مفهوم الأمن الوطني بفعل جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لجهة تأكيد الجانب الصحي كمكون أساسي في هذا المفهوم، وتُبرز وسائل الإعلام المختلفـة خــلال هذه المرحلـــة الـــدور الكبـــير الـذي تقوم به الكوادر الطبية بمختلــف فئـاتهـا في الحـــرب الضروس التي تخوضها دول العالم المختلفة في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، ومن شأن هذا التركيز الإعلامي المساهمة في إعادة الاعتبار  لما تقوم به الكوادر الطبية من دور حيوي في خدمة مجتمعاتها، وهو دور خفتُ في ذهن البعض لمصلحة نجوم الرياضة والفن وغيرهم. وما نود تأكيده في هذا السياق، أن الصحة كانت بالفعل جزءاً رئيسياً من مفهوم الأمن الوطني الشامل، الذي سبقت الإشارة إليه، ولكنها لم تكن بمثل هذه الأهمية التي باتت تتمتع بها الآن، حيث اكتشف العالم، وهو الذي لم يمر بمثل هذا النوع من الأزمات منذ عقود طويلة، أن الجانب الصحي يجب أن يحظى بأهمية مركزية في الأمن الوطني. 
 
 
ولا شك أن ما تنطوي عليه أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لجهة تأكيد الجانب الصحي كمكون حيوي من مكونات الأمن الوطني، سيكون معناه العمل بالضرورة على تمتين البنى الصحية، والمزيد من حضور الدولة في تأمين قطاع طبي قوي، حيث كشفت الأزمة عن ضعف هذا القطاع في الدول الرأسمالية، التي قامت بخصخصة كل القطاعات، وفي السياق نفسه، سيكون لهذه الأزمة دور كبير في تأكيد الدور الحيوي للكوادر الطبية، التي تمثل خط الدفاع الأول لكل المجتمعات في هذه المعركة حامية الوطيس ضد هذه الجائحة الفتاكة؛ وهو ما دفع إلى ظهور مفهوم «الجيش الأبيض» حيث تقود هذه الكوادر هذه المعركة بكل بسالة، كما يفعل الجنود الشجعان في ميادين الحرب.
 
 
ما بعد جائحة كورونا 
وأريد أن أؤكد بشكل خاص في هذا السياق، أن مرحلة ما بعد القضاء على جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لا بد من أن تشهد تطويراً جذرياً للبحوث العلمية الخاصة بالمجال الطبي، وتأسيس مراكز إنذار مبكر للأوبئة، وخاصة الخطيرة منها. وقد بدأت الدول بالفعل في الانتباه لهذه القضية الحيوية مع تغول تلك الجائحة في ظل المحاولات الجارية على قدم وساق للتوصل إلى علاج ولقاح لهذا المرض، الذي لن نستطيع مواجهته من خلال سياسة التباعد الاجتماعي، والحجر الصحي أو من خلال باقي السياسات الراهنة التي حولت العالم إلى جزر منعزلة، بل من خلال وجود دواء له، بحيث تصبح الإصابة به عادية، ليعود العالم لممارسة حياته الطبيعية، لأن الوضع القائم حالياً، يعد ببساطة وضعاً مدمراً من الناحية الاقتصادية، ولا يمكن أن يستمر طويلاً. كما أنه لا بد من أن يدشن العالم آليات فاعلة لتعاون شامل في المجال الصحي، وإعطاء هذا الأمر أهمية خاصة، فنحن بالفعل أصبحنا نعيش في قرية صغيرة، يمكن أن تنتشر فيها الأمراض والأوبئة بسهولة، ولا يمكن مواجهة هذه المخاطر دون تعاون وتكاتف دولي فاعل. والحديث هنا يجب أن يتركز حول الضرورة المطلقة لدعم المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بقضية الصحة، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية.
 
 
على صعيد متصل، فإن جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لا بد من أنها لفتت الأنظار إلى الخطورة الكبيرة لما يمكن أن تنطوي عليه الحروب البيولوجية؛ فصحيح أن الخبراء والمختصين يعرفون ويحذرون منذ سنوات طويلة من الخطورة البالغة لهذا النوع من الحروب، ولكن هذه الجائحة سلطت الضوء بشكل لم يسبق له مثيل على ضرورة تحصين الأمن الوطني في مواجهة مثل هذه الحروب، التي قد يتم شنها من قبل دول أو جماعات متطرفة، بالنظر إلى ما تسببه من ضحايا، وهلع وفزع في مواجهة عدو غير مرئي.  
 
 
وفي جميع الأحوال، نحن أمام مرحلة جديدة سيتطور فيها مفهوم الأمن الوطني، لجهة التركيز على البعد الصحي كمكون جوهري في هذا المفهوم، وستشهد مرحلة ما بعد القضاء على جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) اهتماماً كبيراً بدعم القطاع الطبي الذي يعاني بالفعل نقص الكوادر والإمكانيات اللازمة لتطويره في الكثير من الدول؛ وهو ما أسهم في تفشي هذه الجائحة وسقوط الملايين كضحايا لها، ما بين وفيات ومصابين، كما ستشهد هذه المرحلة عملاً مكثفاً من قبل الدول المختلفة على تحصين أمنها الوطني في مواجهة خطر الحروب البيولوجية.  
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره