مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-06-09

كورونا وأهمية تفعيل المنظمات الدولية المتخصصة..منظمة الصحة العالمية نموذجاً

يبدو أن العالم سيكون على موعد مع الكثير من التغيرات التي ستطول الكثير من مناحي الحياة في عالم ما بعد جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19)؛ فقد كشفت هذه الأزمة عن العديد من أوجه الضعف، ومظاهر عدم الاستعداد لدى الكثير من الدول والمنظمات الدولية المتخصصة -ومنها منظمة الصحة العالمية- في التعامل مع الأزمات الطارئة، ولاسيَّما أزمات انتشار الأوبئة، فتحت وطأة الأزمة وحَدَّتها تداعت الكثير من المسلَّمات، التي كنا نظن أنها ثوابت راسخة من الصعب أن تتأثر بأي أزمات مهما كانت شدَّتها.
 
 
بقلم الدكتور/ جمال سند السويدي 
مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
 
ومع التسليم بأن جائحة فيروس كورونا كانت شيئاً جديداً على العالم، وأنه حتى أكثر المتشائمين لم يكن يتوقع أبداً حدوث ذلك السيناريو الذي يعيشه العالم اليوم؛ فإن السؤال المطروح هو: هل يمكن فعلاً أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن تظل المؤسسات والمنظمات الدولية المتخصصة المنوط بها مواجهة مثل تلك الأزمات على حالها؟ أم أن هناك حاجة ماسَّة وضرورية إلى إعادة النظر في هذه المؤسسات، والعمل على إيجاد وسائل وأساليب قادرة على تفعيلها؛ ما يرفع من قدراتها على مواجهة الأزمات؟ 
 
 
أهمية المنظمات الدولية المتخصّصة 
تُعَدُّ المنظمات الدولية المتخصصة بمنزلة أدوات لضبط التفاعلات الدوليـــة، وحشـــد الجهـــود العالمية للتعاون في الكثير من المجالات والقضايا المختلفة، ومنها ما يتعلق بالبيئة والصحة والثقافة والسكان وغيرها. وتعمل هذه المنظمات تحت مظلة الأمم المتحدة، التي أسّست عام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأريدَ بها إيجاد تنظيم دولي أكثر شمولاً وإحكاماً؛ بالاستفادة من خبرات منظمة عصبة الأمم السابقة عليها، التي أسّست عقب الحرب العالمية الأولى، لكنها فشلت في منع نشوب الحرب العالمية الثانية. وقد تنامى عدد هذه المنظمات في ظل ظهور الكثير من القضايا التي تهم الإنسانية، وتندرج ضمن الاهتمامات الأساسية للأمم المتحدة؛ وفقاً لما ورد في ميثاقها التأسيسي، الذي أناط بها كثيراً من المهام والمسؤوليات المتعلقة بالعديد من القضايا التي تواجه الإنسانية، مثل قضايا السلم والأمن الدوليَّين، وتغير المناخ، والتنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، ونزع السلاح، والإرهاب، وحالات الطوارئ الصحية والإنسانية، والمساواة بين الجنسين، والحوكمة، وإنتاج الغذاء، وغيرها من القضايا التي تمس البشرية.
 
 
وعلى الرغم من أن المنظمات المتخصصة هي عبارة عن منظمات فرعية للأمم المتحدة، وليست أجهزة رئيسية لها، مثل الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وغيرها من الأجهزة واللجان؛ فإن تلك المنظمات تؤدي دوراً لا يقل أهمية عن هذه الأجهزة الرئيسية؛ حيث تضطلع بالكثير من المسؤوليات والمهام بالنسبة إلى الجماعة البشرية، وتتشعَّب اختصاصاتها لتشمل الكثـــير من المجـــــالات الحيوية، التي ترتبط بشـكل مباشـــر بحياة الإنســـان، وبالتعـــــــاون بين مختلــف الأمــــم والشعوب. ومن المؤسف أن كثيراً من هذه المنظمات تواجه أزمة كبيرة ودوريَّة في التمويل، وهناك بعض الدول التي تسيّس مساهماتها المالية في هذه المنظمات؛ وتصل أحياناً إلى درجة الابتزاز؛ وهو أمر مرفوض تماماً؛ إذ إنه يحول دون قيام تلك المنظمات بمهامها على النحو المطلوب.
 
 
كورونا يدفع منظمة الصحة العالمية إلى الواجهة
جاءت جائحة «كوفيد- 19» لتسلّط الضوء على واحدة من أكثر هذه المنظمات أهمية، وهي منظمة الصحة العالمية، التي تُعَدُّ من أولى المنظمات المتخصصة، من حيث النشأة؛ إذ بدأت العمل في 7 إبريل عام 1948، وهو التاريخ الذي يتم فيه حالياً الاحتفال كلَّ عام بيوم الصحة العالمي، وتلتزم المنظمة التزاماً راسخاً بمجموعة من المبادئ التي وردت في دستورها الخاص، ومن أهمها أن صحة جميع الشعـــوب أمر أساسي لبلوغ السلـم والأمن؛ وهي تعتمد على التعاون الكامل للأفـــراد والدول، وأن تفـــــــاوت التنمية في البلدان المختلفة في تحسين الصحة ومكافحة الأمراض، ولاسيما الأمراض السارية، خطر على الجميع، وأن الحكومات مسؤولة عن صحة شعوبها، ولا يمكن الوفاء بهذه المسؤولية إلا باتخاذ تدابير صحية واجتماعية كافية.
 
 
وواقع الأمر أن جائحة فيروس كورونا تُعَدُّ أخطر أزمة تواجه منظمة الصحة العالمية، وصحيح أن العالم قد شهد، منذ نشأة المنظمة، الكثير من الأوبئة الخطيرة مثل الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) في أواخر عام 2002 في الصين، وإنفلونزا الخنازير في عام 2009، والإيبولا في غرب إفريقيا، فإن هذه الأوبئة لا ترقى في خطورتها إلى فيروس كورونا (كوفيد- 19)؛ حيث إن هذا الفيروس الفتَّاك لم يقف عند حد الوباء، لكنه تحول إلى جائحة؛ فتخطى الحدود بين الدول بسهولة، وغزا العالم بشكل مفاجئ، مُوقِعاً مئات الآلاف من الوفيات وملايين الإصابات، كما تسبب في تحويل هذا العالم إلى جزر منعزلة بعد أن كان لا يكفُّ عن الحركة ليلاً ونهاراً؛ وبالتالي فإن هذه الجائحة مثلت أزمة كبرى لمنظمة الصحة العالمية، بل أكبر أزمة واجهتها منذ نشأتها. 
 
 
ضعف الجاهزية وانتقادات دولية 
في ظل ضخامة التحدي، الذي فُرِض على المنظمة؛ فإنها بدت على مستوى أقل من الجاهزية المطلوبة؛ وبالتالي تعرضت للكثير من الانتقادات، التي تمحورت حول اتهامها بالبطء في التعامل بفاعلية على نحو كان يمكن معه محاصرة الفيروس داخل حدود الصين، والحيلولة دون انتشاره بهذا الشكل الواسع، الذي شمل كل قارات العالم الست. وبشكل أكثر توضيحاً؛ فقد كان بطء المنظمة في التعامل مع الفيروس، منذ بداية ظهوره في الصين، محوراً رئيسياً لهذه الانتقادات؛ فقد رأى الكثيرون أن المنظمة أخفقت في إدارة الأزمة في مراحلها المبكرة، واستشراف خطورتها الكبيرة التي تجلَّت لاحقاً، وقد اتُّهِمَت المنظمة بالتأخر في تطبيق اللوائح الصحية العالمية؛ التي تهدف إلى مساعدة الدول على التعاون من أجل إنقاذ حياة السكان، والمحافظة على مصادر رزقهم من خطر انتشار الأمراض والأوبئة على الصعيد الدولي، وفي إلزام الدول الأعضاء بالكشف عن أحوال الصحة العامة، وتقييمها، والتبليغ عنها. ولعل أخطر الاتهامات، التي وُجّهَت إلى المنظمة، تمثل في تأخرها في إعلان الفيروس وباءً عالمياً؛ إذ لم تقُم بذلك إلا بعد مرور أكثر من شهرين على تفشيه؛ حيث بدأ ينتشر بشكل متسارع عالمياً؛ وكان لهذا التأخُّر بالطبع نتائج خطيرة. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى السجال الحادّ، الذي حدث بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمنظمة؛ حيث اتهمها بالتواطؤ مع الصين، والتستُّر على البيانات، وعدم الشفافية؛ حتى إنه أعلن تعليق حصة الولايات المتحدة الأمريكية الخاصة بتمويل المنظمة، التي تتراوح ما بين 400 و500 مليون دولار سنوياً (أكبر ممول للمنظمة)؛ وهو الأمر الذي لقي انتقادات من جهات دولية مختلفة، وعُدَّ تسييساً للأزمة؛ وسينعكس سلباً، بلا شكّ، على الجهود العالمية في مكافحة الفيروس.
 
 
وفي الواقع؛ فإنه في الوقت الذي لا يمكن فيه قبول الاتهامات الجامحة لمنظمة الصحة العالمية، التي تقوم بالفعل بدور مهم خلال هذه المرحلة في مواجهة هذه الجائحة، وتعمل بجِدّ لحشد الجهود العالمية في سبيل تحقيق هذا الهدف؛ فإن أداء المنظمة بطبيعة الحال لم يكن على المستوى المطلوب، وإلا ما كنَّا وصلنا إلى هذه المرحلة الصعبة التي خلَّفتها جائحة كوفيد-19. لكنَّ ما أريد تأكيده في هذا الصدد هو أن أزمة منظمة الصحة العالمية ليست منبتَّة الصلة بالأزمات التي تواجهها المنظمات الدولية المتخصصة كافة، بل الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية كذلك.
 
 
الواقع والحاجة إلى تفعيل المنظمات الدولية
ممَّا لا شك فيه أن هذه الأزمة أكدت ضرورة العمل من أجل تفعيل دور منظمة الصحة العالمية، وغيرها من المنظمات الدولية المتخصصة، ولكنَّ ما يعنينا في هذا المقال هو الحديث عن تفعيل دور هذه المنظمة، التي تتصدَّر الجهود العالمية لمكافحة جائحة فيروس كورونا، وينصب الحديث هنا على ضرورة عدم تسييس المنظمة والزجّ بها في أتُّون أي صراعات سياسية؛ إذ من شأن ذلك أن يضعفها، وضرورة التزام الدول كافة بسداد حصصها التمويلية للمنظمة؛ حتى تتمكن من أداء المهام المنوطة بها على النحو المطلوب؛ فمن دون التمويل لن تستطيع المنظمة أن تقوم بمسؤولياتها. وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن هناك ضرورة لدعم القدرات الفنية للمنظمة بشكل يمكّنها من التعامل المبكر مع الأوبئة، التي أصبح ظهورها في مكان معيَّن يهدد باجتياحها العالمَ في مدى زمني قصير، خاصة بعد أن أصبح العالم قرية واحدة صغيرة في ظل العولمة، كما أن هناك ضرورة لتعاون جميع الدول مع المنظمة وفروعها الإقليمية بكل شفافية وصراحة. وهذا ما تدعو إليه دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تؤكد دائماً التزامها تعزيز التعاون مع منظمة الصحة العالمية في الأمن الصحي العالمي، ومكافحة انتشار جائحة «كوفيد- 19» عالمياً. 
 
 
وفي النهاية، لا بد من تأكيد نقطة في غاية الأهمية، مفادها أنه، بغضّ الطرف عن مدى مصداقية الاتهامات الموجَّهة إلى منظمة الصحة العالمية، ومدى اتفاقنا أو اختلافنا معها؛ فإن الأزمة الخطيرة التي خلَّفتها جائحة كوفيد-19 تفرض بالضرورة تقديم كل أوجه الدعم الممكنة إلى المنظمة؛ حتى نتمكَّن جميعاً من تجاوز هذه الأزمة الخطيرة بنجاح، وحينها يكون لكل حادث حديث؛ فالأمم المتحدة بأجهزتها الرئيسية والفرعية بحاجة إلى مراجعة شاملة، ولعل هذه الجائحة تكون جرس إنذار قوياً في هذا الصدد.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره