مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-05-04

كورونا... كيف سيعيد صياغة سياسات الدفاع وبناء القوة الشاملة للدول ؟

لم يتوقع أحد حينما ظهر فيروس كورونا «كوفيد - 19» في مدينة ووهان الصينية في منتصف ديسمبر 2019 أن يحدث هذا التأثير الضخم في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية، ليس فقط لأنه كشف عن أوجه القصور التي تواجه الأمن الإنساني والاجتماعي في الدول المتقدمة.
 
بقلم : يوسف جمعة الحداد
وإنما أيضاً لأنه أضاف معايير جديدة لقياس القوة الشاملة لأي دولة، من بينها الصحة العامة والجاهزية الاستباقية في مواجهة الأزمات الطارئة ووجود منظومة قوية من البحث العلمي، كما أحدث تحولاً في طبيعة مهام الجيوش، وباتت تشارك بفاعلية في مواجهة الأوبئة المتفشية وتتعاون مع الأجهزة الشرطية في مهام ضبط الأمن والاستقرار الداخلي.
 
وباء كورونا.. وطبيعة التحولات المحتملة في أدوار الجيوش
رغم أن الجيوش في العديد من دول العالم كانت تقوم بأدوار متنوعة بما فيها مواجهة الأوبئة والفيروسات، فإن وباء كورونا المستجد أعاد التأكيد على أهمية هذا الدور، ولهذا تم اللجوء إليها من جانب العديد من حكومات العالم لمساعدة الأجهزة المدنية في مواجهة هذا الوباء واحتواء تداعياته المختلفة، وهذا من شأنه أن يدفع مخططي السياسات الدفاعية إلى التركيز على هذا الجانب مستقبلاً، بعد أن أثبتت أزمة وباء كورونا أن الجيوش، بما تمتلكه من خبرات ومهارات وقدرات لوجستية متنوعة، يمكنها القيام بدور فاعل في التصدي لهذه النوعية من الأوبئة المتفشية، سواء من خلال المساهمة في بناء المستشفيات الميدانية المتنقلة أو في تنفيذ أنظمة الحجر الصحي وتطبيق القواعد المنظمة لحركة الأفراد خلال أوقات الحظر بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والشرطية، وضمان حفظ الأمن والاستقرار والتصدي لأي محاولات لإثارة الفوضى خلال مراحل إدارة الأزمة المختلفة.
 
في الوقت الذي أظهر فيه وباء كورونا ضعف المنظومة الصحية في العديد من دول العالم التي لم تستطع التعامل مع هذا الوباء، أظهرت الجيوش في العديد من دول العالم استجابة عالية في مواجهة هذا الوباء، خاصة أنها تمتلك فرقاً طبية مدربة بشكل احترافي، وباستطاعتها احتواء التداعيات السلبية التي قد تنجم عن هذه النوعية من الفيروسات القاتلة، في هذا السياق فقد وافقت وزارة الدفاع الأمريكية على تقديم خمسة ملايين كمامة وألفي جهاز تنفس من مخازنها للنظام الصحي المدني، كما حرك الأسطول الأمريكي مستشفييه العائمين (السفينتان USNS Mercy وUSNS Comfor) للمساعدة في تخفيف الضغط على المؤسسات الطبية، كما تمت الاستعانة بالجيوش خارج الحدود لمساعدة دول تعاني بشدة من انتشار وباء كورونا، كحالة الأطباء العسكريين الروس الذين قاموا بتطهير وتعقيم مركز انتشار الوباء في إيطاليا، وهي منطقة «لومبارديا»، وهي العملية التي تندرج ضمن مفهوم «الدبلوماسية الصحية». 
 
ولم يقتصر دور الجيوش على مساعدة المؤسسات الطبية المدنية وتوفير بعض الأدوات الصحية كالكمامات وأجهزة التنفس الصناعي، وإنما القيام بمحاولة التوصل إلى لقاح وعلاج لوباء كورونا، إذ كشفت العديد من التقارير أن الجيش الأمريكي يتعاون مع العديد من الشركات والوكالات لإنتاج بعض اللقاحات، كما يعمل مختبر علوم وتكنولوجيا الدفاع البريطاني في بورتون داون، الذي لديه خبرة في التهديدات البيولوجية، على تطوير واختبار اللقاحات، ورسم خرائط لحالات الكوفيد/ 19. 
 
كورونا.. وتغيير الرؤية لطبيعة المخاطر والتهديدات التي تواجه الأمن القومي
إذا كان وضع السياسات الدفاعية يرتبط بطبيعة التحديات والمخاطر التي تهدد الأمن القومي للدول، فإن فيروس كورونا لا شك سيحدث تحولاً في رؤية الدول لطبيعة المخاطر بعد أن اتضح أن هناك مصادر تهديد جديدة تفوق في خطورتها التهديدات التقليدية التي كانت تشغل المعنيين برسم السياسات الدفاعية، يمكن أن يطلق عليها «التهديدات غير المرئية والكامنة» التي تستطيع إغلاق الدول بشكل تام، كالأوبئة والفيروسات العابرة للحدود، فوباء كورونا منذ انتشاره في معظم دول العالم أصاب الحياة العامة بالشلل التام في كل المجالات، الأعمال والاقتصاد والتجارة والتعليم، حتى الجيوش فقد أوقف العديد من أنشطتها العسكرية، كالتدريبات والمناورات المشتركة بين الدول.  لهذا فإن خبرة كورونا تشير إلى أن مخططي السياسات الدفاعية سيأخذون في الاعتبار هذه النوعية من التهديدات غير المنظورة، والتي تفوق في خطورتها بمراحل التهديدات التقليدية كالنزاعات والحروب والصراعات، يكفي الإشارة هنا إلى أن تداعيات وباء كورونا التي ما تزال تتصاعد يتوقع أن تفوق في تكلفتها البشرية والاقتصادية ضحايا حروب عديدة شهدها العالم في سنوات سابقة.
 
كورونا .. نحو مزيد من الاهتمام بالحروب البيولوجية والفيروسات القاتلة
يجمع كثير من الخبراء على أن العالم في مرحلة ما بعد كورونا سيركز على كيفية التصدي للمخاطر الآتية من التهديدات غير المرئية، والعمل على زيادة القدرات لمواجهة الحروب البيولوجية المحتملة، ومن المتوقع أن تتجه معظم دول العالم إلى تطوير سياساتها الدفاعية والأمنية والتركيز على منع عبور الفيروسات أو الأوبئة عبر حدودها سواء عبر المطارات أو الموانئ، وذلك من خلال زيادة فعالية الرقابة ونظم الكشف المبكر عبر الصوت والصورة، إضافة إلى زيادة استخدام الطائرات المسيرة لزيادة التغطية، وذلك ضمن إجراءاتها الاحترازية للحيلولة دون عبور أي فيروس أو بكتريا أو جرثومة أو فطر دون كشفه. وعلى المدى الطويل، من المرجح أن يضع مخططو السياسات الدفاعية أوضاع المشكلات الطبية الكبرى في إطار العقيدة والتخطيط العسكري بدرجة أكبر من ذي قبل.
 
كورونا والتحول في أولويات الإنفاق والتصنيع الدفاعي 
من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة إعادة النظر من جانب العديد من الدول المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إعادة النظر في أولويات الإنفاق الدفاعي، بعدما انكشفت هشاشة منظومتها الصحية، فبدلاً من تخصيص المليارات على إنتاج أسلحة يتم تخزينها، يمكن توجيه جزء من هذه المليارات إلى الصناعات الدوائية وخاصة في الأمصال واللقاحات، لتحقيق فائض من الأدوية يتم الاستعانة به في وقت الأزمات. فلم يكن أحد يتصور أن تعاني الدول المتقدمة نقصاً حاداً في الأدوات الطبية البسيطة، كالكمامات والملابس الطبية، أو الأجهزة الضرورية كأجهزة التنفس الصناعي، لدرجة دفعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شهر مارس 2020 إلى الاستعانة بما يسمى «قانون الإنتاج الدفاعي» لاستخدامه ضد وباء فيروس كورونا المستجد، لتسريع إنتاج المعدات اللازمة. ومن المعروف أن قانون الإنتاج الدفاعي يعود إلى زمن الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، ويمنح الرئيس الأمريكي سلطة واسعة لتسريع وتوسيع إمدادات الموارد من القاعدة الصناعية الأمريكية لدعم برامج الجيش والطاقة والفضاء والأمن الداخلي.
 
في الوقت ذاته، فإن أزمة إمدادات الأدوات الصحية الناتجة عن وباء كورونا قد تدفع العديد من دول العالم إلى توجيه صناعاتها الدفاعية لتهتم بالأدوات الطبية والدوائية، خاصة أنها تمتلك كافة القدرات، البشرية والفنية والتقنية، التي تؤهلها للقيام بذلك، خاصة أن معظم جيوش العالم تمتلك أطباء ماهرين لديهم الخبرة الكافية التي تؤهلهم لتطوير الصناعات الدوائية، بل أن بعض هؤلاء الأطباء العسكريين قدموا إسهامات نوعية في تطوير أجهزة  التنفس الصناعي والعناية المركزة.  
 
كورونا.. معايير جديدة لقياس القوة الشاملة للدولة 
 إذا كانت نظريات الدفاع التقليدية تقيم قوة الدولة الشاملة من منظور عسكري واقتصادي وتكنولوجي، فإن وباء كورونا أضاف أبعاداً جديدة لقياس القوة الشاملة للدولة، هي صحة الشعب ومستوى الرعاية الصحية المقدمة له، خاصة مع فشل العديد من الدول المتقدمة في التعامل مع هذا الوباء، لدرجة أن بعضها لجأ إلى التخلي عن كبار السن في هذه الأزمة، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول مدى التزام هذه الدول بالأمن الصحي لمواطنيها، لهذا لم يكن غريباً أن تضع صحيفة «واشنطن بوست»، أعرق الصحف الأمريكية في إحدى مقالاتها التي نشرت في السابع من أبريل 2020 صحة الشعب ووجود منظومة صحية قوية باعتبارها أهم المعايير الجديدة لقياس قوة الدولة الشاملة، وتحديد مركزها ونفوذها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا. 
 
إن التداعيات الكارثية التي ترتبت على وباء كورونا ستدفع العديد من دول العالم في المستقبل إلى التركيز على الاستثمار في الأمن الصحي لمواطنيها، وبنفس الدرجة من الاهتمام بالجوانب الأخرى، الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتكنولوجية، وهذا سيكون في صلب السياسات الدفاعية والأمنية في المستقبل، بعد أن ثبت أن الاستثمار في منظومة صحية وقائية قوية من شأنها أن تعزز الرعاية الصحية لجميع السكان.  
 
الإمارات .. تجربة يحتذى بها في الاستثمار في الأمن الإنساني والاستعداد الوقائي للأزمات
 وفي الوقت الذي أظهر فيه فيروس كورونا هشاشة الأنظمة الصحية في العديد من الدول المتقدمة، وعجزها عن التعامل مع وباء كورونا، وفشلها في تحقيق الأمن الصحي لمواطنيها، فإنه في المقابل أبرز دولاً أخرى استطاعت أن تقدم نموذجاً ملهماً في إدارة هذه الأزمة، كدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تولي اهتماماً استثنائياً منذ نشأتها مطلع سبعينيات القرن الماضي بالأمن الصحي والاجتماعي لشعبها، مواطنين ومقيمين، ضمن رؤيتها الشاملة للأمن الوطني، وهذا ما جسدته بوضوح مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، «الدواء والغذاء خط أحمر ولا تشلون هم»، والتي تجسد في أبعادها حرص دولة الإمارات العربية المتحدة على ضمان الأمنين الصحي والغذائي لجميع من يعيش على أراضيها. 
 
إذا كان وباء كورونا سيجعل من الأمن الصحي للشعوب أهم معايير قياس قوة الدول الشاملة وتحديد وزنها ودرجة تأثيرها في النظام الدولي فإن العالم قد يشهد تحولاً في خريطة القوى الفاعلة في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا، حيث ستتعزز مكانة دول جديدة أثبتت أنها نموذج يحتذى به في إدارة هذه النوعية من الأزمات التي تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وعلى رأسها دولة الإمارات التي تمتلك كل مقومات الدولة القائد صاحبة التأثير والمبادرات الإنسانية عظيمة الجدوى، كما أن نموذجها في تعزيز الأمن الإنساني والمجتمعي ينطوي على العديد من الدروس الثرية التي لا شك سيكون لها تأثيرها الكبير على العديد من دول العالم في الفترة المقبلة، فصحة الإنسان تأتي في مقدمة أولويات القيادة الرشيدة ومحور معظم السياسات والاستراتيحيات الحكومية، كما أن هدف توفير الرعاية الصحية على مستوى عالمي يعد إحدى الركائز الست في الأجندة الوطنية لدولة الإمارات 2021.
 
خاتمة
في الوقت الذي احتاجت فيه التحولات الكبرى التي حدثت  في العالم خلال العقود الماضية إلى فترات زمنية طويلة لبلورة معالمها ورصد إرهاصاتها، فإن فيروس كورونا منذ ظهوره خلال هذه المدة الزمنية القصيرة أحدث تحولات بالغة الأهمية في كافة المجالات، وبات الحديث عن مرحلة ما بعد كورونا كأنها حقيقة واقعة، لأن تداعياتها واضحة على الاقتصاد والأمن والسياسة والثقافة والاجتماع.. مرحلة ستشهد تحولاً في صياغة سياسات الدفاع والأمن القومي لتأخذ في الاعتبار مصادر التهديد غير المرئية التي تواجه الأمن الإنساني والاجتماعي لشعوب العالم، وطبيعة الأدوار الجديدة للجيوش وأجهزة الاستخبارات في إدارة هذه الأزمات الكبرى، وستعيد تقييم القوة الشاملة للدولة استناداً إلى صحة شعوبها ومستوى التزامها الإنساني والأخلاقي بمواجهة هذه الأزمات على الصعيدين الإقليمي والدولي. 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره