مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-12-13

كيف هزم الإعلام ترامب؟

«غرف الصدى» لعبت دوراً حاسماً في تعزيز حظوظ بايدن
 
لا تتوقف الانتخابات الأمريكية عن شغل العالم وإلهامه، وحتى في نسخها الرديئة، فإنها تبدو قادرة على الاستحواذ على الاهتمام وإعطاء الدروس والعبر. وفي نسختها الأخيرة التي حُسمت لصالح المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن على حساب منافسه الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، لعبت ثلاثة عوامل دوراً مؤثراً وجوهرياً في حسم النتائج؛ 
 
بقلم / ياسر عبد العزيز   
 
أما العامل الثاني الذي بدا حاسماً بدوره في التأثير في مجريات العملية الانتخابية فكان “الاستقطاب الحاد” الذي ضرب البلاد عشية الانتخابات، وقسم المجتمع والدولة والناخبين بشكل واضح.
فعشية المناظرة الأولى بين ترامب وبايدن، أجرى مركز “بيو” للأبحاث استطلاع رأي استند على عينة ضخمة من الناخبين؛ وقد كان أبرز ما ظهر في نتائج هذا الاستطلاع أن %56 من هؤلاء الذين أعلنوا أنهم سيصوتون لبايدن أرجعوا قرارهم هذا إلى سبب وحيد بدا مثيراً للاهتمام؛ إذ قالوا: “سنمنحه أصواتنا لأنه ليس ترامب”.
 
وفي المقابل، فإن قطاعاً مؤثراً من هؤلاء الذين أعلنوا تأييدهم للرئيس الأمريكي أفادوا أيضاً بأنهم سيمنحونه أصواتهم لمجرد أنه “ليس بايدن”؛ وهو أمر يمكن تصديقه رغم الكثير من التحفظات ذات الوجاهة عن نتائج استطلاعات الرأي المصاحبة للعملية الانتخابية في الولايات المتحدة.
 
فالشاهد، أن المجتمع الأمريكي عانى من بروز درجة واضحة من الاستقطاب السياسي الحاد بين مجموعتين رئيسيتين في البلاد؛ يبدو أن إحداهما تميل إلى تبني قيم شعبوية وتستند إلى مخزون سياسي محافظ وتقليدي، تمثله قطاعات من الناخبين البيض والأكبر سناً، في مقابل مجموعة أخرى تضم في غالبيتها الأقليات والنساء والليبراليين ومؤيدي المنحى اليساري.
 
عند تحليل المناظرة الأولى بين ترامب وبايدن برزت علامات هذا الاستقطاب الحاد، الذي انعكس بجلاء في انصراف المتناظرين عن الأداء الرصين العقلاني، وتورطهما في الشقاق وتبادل الاتهامات والشتائم، وهو أمر حرم المناظرة من إنتاج خطاب سياسي يمكن أن يساعد هؤلاء الذين يبحثون عن ذرائع تدعم خياراً عقلانياً.
 
لكن العامل الثالث ضمن هذه العوامل بدا أنه الأكثر تأثيراً والأكثر قدرة على الحسم؛ وهذا العامل ليس سوى الإعلام، ولكي نفهم أثر الإعلام في العملية الانتخابية الأمريكية الأخيرة، فعلينا أن ننظر إليه من خلال منظورين أساسيين؛ أولهما هو المتعلق بوسائل الإعلام التقليدية، والبحث في هذا المساق يبدو سهلاً لأن خلاصته بادية ومحسومة، فقد اصطفت معظم وسائل الإعلام الجماهيرية في صف بايدن، وقد تم إحصاء أكثر من 200 مؤسسة إعلامية بارزة عاندت ترامب وسخرت أدواتها ضده.
 
ويتجسد المساق الثاني في الحالة الإعلامية المواكبة للانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة في وسائل “التواصل الاجتماعي”، التي لعبت دوراً حاسماً عبر آليات تفاعلية وتنظيمية، تم من خلالها تقويض حظوظ ترامب، الذي كان يتمركز في عالم تلك الوسائط بقوة، قبل أن يتم سلبه ميزته النسبية تلك.
 
هزيمة ترامب الإعلامية
عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة في 2016، لاحظ كثيرون تراجعاً ملحوظاً في حظوظ ترامب كما عكستها استطلاعات الرأي ذات الوجاهة في مواجهة منافسته الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون، كما اجتهدت وسائل الإعلام الرئيسية في تلطيخ صورته والنيل من جاهزيته لتولي هذا المنصب الخطير، حتى اعتقد البعض أن النتيجة باتت محسومة لصالح كلينتون، لكن ما جرى لاحقاً كان على العكس تماماً.
 
في تغطيتها لتلك الانتخابات، نشرت وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) تقريراً لم يحظ بانتباه مناسب؛ وفي هذا التقرير نقلت الوكالة عن المواطنة الأمريكية “بيجي أوفرمان”، التي كانت تقف في صف طويل، انتظاراً لدخول مقر تجمع انتخابي لترامب، في ولاية كارولينا الشمالية قولها: “كل الذين أعرفهم يقولون إنهم سيصوتون لترامب، فلماذا يشيع الإعلام أنه يلقى معارضة ونفوراً؟”.
 
 
لعبت أدوات استطلاع الرأي الرئيسية دوراً مخاتلاً في الانتخابات السابقة، وقد اعترف بعض القائمين على إدارة تلك الأدوات بإخفاقهم في توقع النتائج الصحيحة، لكن كثيرين لم ينتبهوا إلى الأسباب.
البعض ركز هذه الأسباب في قصور أدوات استطلاع الرأي، وانطوائها على هوامش خطأ واضحة، وسوء اختيار بعض العينات، لكن كثيرين أغفلوا سبباً رئيسياً يتعلق بأن الاعتماد على وسائل الإعلام الجماهيرية لتقدير حظوظ المرشحين لم يكن عملاً سليماً أو منصفاً؛ إذ إن ترامب كان يلعب في مساحة أخرى تماماً هي ميدان “التواصل الاجتماعي”، الذي حقق فيه آنذاك تقدماً ساحقاً وملحوظاً.
 
ساحة ترامب المفضلة
في أكتوبر من العام 2017، قال ترامب: “لولا (تويتر) ما أصبحت رئيساً”؛ إذ إنه في هذه الأثناء كان يحظى بفرص واسعة على هذه المنصة وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، وهو استطاع من خلال هذه المنصات أن يلتف على العداء الظاهر له في وسائل الإعلام الجماهيرية وأن يحقق الاختراق المذهل ويفوز بانتخابات 2016 أمام مرشحة معتبرة هي هيلاري كلينتون.
لقد انتبه المعسكر المناوئ لترامب لقيمة هذه الوسائل وتأثيرها الحاسم في مسار العملية الانتخابية، خصوصاً أن ترامب بات يمتلك نحو 90 مليون متابع على “تويتر”، وبات المعسكر الداعم له قادراً على تشكيل الرأي العام عبرها.
 
ولذلك، فإن الاستراتيجية الإعلامية الهادفة إلى تقويض حظوظ ترامب تجاوزت الخطأ السابق الذي منيت بالخسارة بسببه؛ وهو الخطأ المتمثل في اعتبار أن المجال الإعلامي قاصر على وسائل الإعلام الجماهيرية، وبدلاً من أن تركز الاستراتيجية المناهضة لترامب على هذا المجال وحده، راحت توزع مواردها وجهودها على الوسطين: الإعلام الجماهيري ووسائط “التواصل الاجتماعي”.
لكن الإشكال ظهر هنا؛ إذ بدا مجال “التواصل الاجتماعي” حراً ومنفتحاً ومتسعاً بشكل لا يمكن السيطرة عليه والحد من آثاره عبر التفاعلات التقليدية، ولذلك، فقد كان لزاماً على المعسكر المناوئ لترامب أن يجد طريقة يحد بها من قدرات معسكر ترامب على النفاذ والتأثير عبر تلك الوسائط.
 
دور الإعلام الحاسم يتغير
لقد حافظ الإعلام على قدرته على لعب دور مؤثر في حسم نتائج الانتخابات في الدول التي تتبنى آليات تنافس منفتحة وديمقراطية، لكن هذا الدور تغير لأن المشهد الاتصالي العالمي تغير إثر دخول الوافد الجديد إلى الساحة (السوشيال ميديا) وزيادة قدرته التأثيرية بشكل واضح.
 
والواقع أن عدداً كبيراً من باحثي وخبراء الإعلام يتفقون على أن التغطية الإعلامية للعمليات السياسية والاجتماعية المختلفة تلعب دوراً كبيراً في تشكيل اتجاهات الجمهور تجاه تلك العمليات، بشكل ربما يفوق تأثير بعض المؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحيوية الأخرى.
 
كما أظهر العديد من البحوث أن النسبة الأكبر من الجمهور تستقي معلوماتها في شأن العمليات الانتخابية من الإعلام بالدرجة الأولى، وهو الأمر الذي يزيد من أهمية التغطية الإعلامية لتلك العمليات، ويضع تأثيرها في مرتبة متقدمة بين العديد من العناصر المؤثرة الأخرى.
 
وفي هذا الصدد يؤكد عدد من الدراسات العلمية الموثوقة أن “التغطية الخبرية للعمليات الاجتماعية والسياسية المختلفة تؤثر في اتجاهات الجمهور بشكل يقوده إلى اتخاذ قرارات ودعم أو رفض سياسات بعينها”.
 
والواقع أن قيام بعض وسائل الإعلام بدعم أحزاب ومرشحين معينين في الانتخابات يحدث في مختلف دول العالم، لكن الخطر الكبير ينشأ عادة حين يتم حرف التغطية الخبرية من أجل هذا الدعم.
فالتغطية الخبرية لأي وسيلة إعلامية ذات كفاءة واحترافية يجب أن تتجرد من الرأي، وتراعي معايير الحياد والتوازن والموضوعية. 
 
يمكن تفهم أن يكون لأي وسيلة إعلام خاصة موقف داعم لمرشحين أو أحزاب معينة في أي انتخابات سياسية أو غير سياسية، لكن تسخير الأخبار لخدمة هذا الموقف عبر تلوينها وحرفها أمر خاطئ وغير مهني. 
 
وفي هذا الصدد يؤكد الخبير الأمريكي جراهام رامسدين، المختص ببحوث “الإعلام والديمقراطية”، أن “الدراسات العلمية أثبتت أن التغطية الخبرية للعمليات الاجتماعية المختلفة تؤثر في اتجاهات الجمهور وربما تقوده إلى اتخاذ قرارات ودعم أو رفض سياسات بعينها”.
 
وهو الأمر ذاته الذي يوضحه المفكر الأمريكي بول كروجمان بقوله: “كان يمكن للانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2000، أن تنتهي بنصر مؤزر لآل جور، لو لم يتخذ الإعلاميون موقفاً سلبياً منه”.
وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2008، كان هناك اقتناع كبير لدى قطاعات أكاديمية وسياسية وبين صفوف الجمهور بأن إتقان أوباما، وأركان حملته، التعاطي مع وسائل الإعلام كان أحد الأسباب الرئيسة وراء نجاحه.
 
لكن ما جرى في انتخابات 2016 كان مختلفاً، لأنه دشن عصر تفوق وسائط “التواصل الاجتماعي” في هذا المجال، أما ما جرى في الانتخابات الأخيرة فقد كان محاولة لغل أيدي تلك الوسائط عن صنع الفارق.
 
ثلاث آليات
لقد تحققت هزيمة ترامب في الإعلام عبر العمل من خلال ثلاث آليات أساسية؛ أولاها تتمثل في الحفاظ على التفوق التقليدي للديمقراطيين في مجال وسائل الإعلام الجماهيرية، حيث اصطف معظم تلك الوسائل إلى جانب بايدن ومعسكره.
 
أما ثانية تلك الآليات فقد برزت عبر تقليم أظافر ترامب ومعسكره في ساحته الأثيرة؛ أي مجال “التواصل الاجتماعي”، وهو الأمر الذي تحقق عبر الضغط على شركات التكنولوجيا العملاقة التي تملك تلك الوسائل لكي تضع قيوداً على استخدامات ترامب ومعسكره بدعاوى تنظيمية.
 
بينما تم تفعيل الآلية الثالثة من خلال تنظيم تفاعلات المعسكر الديمقراطي والمناوئ لترامب على تلك الوسائط، لكي يزيد مردوده ويتعاظم بشكل يحرم ترامب ومؤيديه من ميزة التمركز الجيد والتفوق الواضح. 
 
“غرف الصدى”
لقد تم رصد مئات الناشطين على مواقع “التواصل الاجتماعي” الذين لعبوا أدواراً جوهرية في تعزيز حظوظ الديمقراطيين ومقاومة النفاذ الواضح والتأثير الكبير لمؤيدي ترامب على تلك الوسائط.
ومن بين هؤلاء نجوم مؤثرون، حظيت حساباتهم على مواقع “التواصل الاجتماعي” بمشاركات زادت بأضعاف عما تحظى به وسائل إعلام جماهيرية عريقة واصلت عملها لعقود بتفوق وامتياز.
 
تم إطلاق مصطلح “غرف الصدى” على المجال الذي أبدع فيه هؤلاء المؤثرون، وعبر استخدام آليات التنفير من ترامب ومشروعه والتركيز على نجاعة المنافس وتصليب حظوظه، خسر الرئيس المنتهية ولايته تفوقه في هذا المجال.
 
لكن الضربة الحاسمة التي تم توجيهها لترامب ومعسكره تمثلت في وضع قيود على تفاعلاته عبر تقييد وصول تغريداته، أو وصمها بـ “الكاذبة”، أو إخضاعها لـ “ضرورة التحقق”.
لقد جرت هزيمة ترامب في الإعلام عبر تقييد تفوقه الظاهر على الوسائط الجديدة، والحفاظ على وضعه السيء في الوسائل الجماهيرية، بينما تكفل الاستقطاب الحاد بتأجيج المعركة، وجاء صوت “كوفيد 19” الحاسم لينهي حظوظه.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-02-26 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره