مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2020-07-07

مسارت التنافس على إعادة تشكيل النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا

يكشف تاريخ العلاقات الدولية أن الأوبئة المتفشية القاتلة شكلت دوماً لحظة فارقة في مسارات الإنسانية بما تحدثه من تغييرات في شكل النظم السياسية وتحولات في مكانة الدول وتأثيرها في النظام الدولي بناء على تعاملها مع هذه الأوبئة وكيفية احتواء تداعياتها.
 
بقلم : داليا السيد أحمد
 
خاصة مع وباء من نوعية كورونا المستجد «كوفيد-19»، الذي أظهر بوضوح جوانب الخلل في بنية النظام الدولي الراهن، وعجز مؤسساته المختلفة ليس فقط في وقف انتشار هذا الوباء، وإنما أيضاً في تطوير استجابة دولية فاعلة في مواجهة تداعياته السلبية التي طالت مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والدفاعية والأمنية والعسكرية. وهذا بدوره يثير العديد من التساؤلات حول إمكانية أن يشهد العالم في أعقاب نهاية هذا الوباء ميلاد نظام دولي جديد؟ وما هي القوى الفاعلة فيه؟ وما هي مسارات التنافس المحتملة على عملية إعادة تشكيله؟
 
كورونا .. والخلل في بنية النظام الدولي الراهن
لا شك في أن النظام الدولي الراهن شهد على مدار العقد الماضي تحولات مهمة في هيكل توزيع القوى المسيطرة علىه، فلم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة الوحيدة، بل برزت كل من روسيا والصين، كمنافسين محتملين لها، حيث تشير استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عام 2017، إلى أن «الصين وروسيا تتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأمريكية وتسعيان الى تقويض الأمن والازدهار الأمريكيين»، وذلك في اعتراف واضح بأن الدولتين تشكلان لاعبين أساسيين على المستوى الدولي، ويعملان على تحويل موازين القوى لخدمة مصالحهما، والحد من النفوذ الأمريكي وزعزعة سيطرته على العديد من المناطق حول العالم، فالصين بات قوة اقتصادية هائلة تكاد تتربع على عرش النظام الاقتصادي الدولي، بينما تمضي في تعظيم قوتها العسكرية لتنافس الولايات المتحدة في هذا الشأن. 
 
كما يعاني النظام الدولي منذ سنوات من تراجع دور الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، فالاستخدام المتزايد لحق النقض»الفيتو» من جانب كل من الولايات المتحدة وروسيا أصاب مجلس الأمن بـ»الشلل»، وجعله عاجزاً ليس فقط عن القيام بدوره الحيوي في حفظ الأمن والسلم الدوليين، وإنما أيضاً، وربما الأخطر، في إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في العالم، وتزايد اللجوء إلى القوة في إدارة الصراعات الإقليمية والدولية. كما تراجعت خلال السنوات الماضية قيمة الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية، حينما أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الانسحاب من العديد من المعاهدات الدولية والمنظمات الأممية في خطوة شكلت ضربة قوية لبنية النظام الدولي الراهن، فقد انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، ومجلس حقوق الإنسان الدولي التابع للمنظمة الأممية، ومن اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، واتفاقية باريس للمناخ، ومعاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة التي تم توقيعها مع الاتحاد السوفيتي»السابق» إبان حقبة الحرب الباردة.  
 
في ظل هذه التحولات ظهر وباء كورونا المستجد «كوفيد-19» في ديسمبر 2019 في مدينة ووهان الصينية ليؤكد بالفعل أن العالم مقبل على المزيد من التحولات الهيكيلية المتسارعة، خاصة أن الولايات المتحدة التي تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها على النظام الدولي الراهن، والحيلولة دون ظهور قوى منافسة لها بدت عاجزة عن التعامل مع هذا الوباء، وتراجعت عن قيادتها «الأخلاقية « للعالم في مواجهة هذه النوعية من الأزمات الكونية، واقترن بذلك تصاعد الجدل حول طبيعة دور منظمة الصحة العالمية، في ظل ما وُجه لها من انتقادات في هذا الشأن خاصة فيما يتعلق بالتباطؤ في إعلان هذا الفيروس»جائحة عالمية»، أو «الانحياز» إلى الصين، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب منها في مايو 2020 بعد أن كانت علقت مساهماتها في تمويل المنظمة في شهر أبريل من العام نفسه، بدعوى سوء إدارتها لهذه الجائحة، واتهامها أيضاً بـتقديم معلومات خاطئة حول  كيفية انتقال العدوى والوفيات الناجمة عنها. ولا شك في أن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية في هذا التوقيت، وما صاحبه من محاولات لـ«تسييس» وباء كورونا في ظل الاتهامات المتبادلة مع الصين حول المسئولية عن انتشار هذا الوباء إنما يكشف عن جوانب الخلل في بنية النظام الدولي الراهن، في وقت يفترض أن تتوحد الجهود الدولية للتصدي لهذا الوباء.
 
لقد أثار وباء كورونا العديد من التساؤلات الجوهرية حول المدى الذي سيستمر فيه النظام الدولي الراهن، خاصة أن هذا الوباء فرض على العالم قواعد جديدة سواء في العلاقات بين الدول أو فيما يتعلق بدور المنظمات الأممية المسئولة عن إدارة الأزمات الكونية التي تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، فالثابت – حتى وقتنا هذا- أن التفاعلات التي أحدثها هذا الوباء على الصعد كافة، الأمنية والاقتصادية والسياسية، تؤسس لتحولات جوهرية في توازن القوى الدولي في مرحلة ما بعد كورونا، بعدما أظهرت الصين ومعها العديد من الـدول الآســــيويـة قـــدرات هائلــة في التعامل مع هذا الوباء ووقف انتشاره واحتواء تداعياته سـريعاً، مقارنـة بالولايـات المتحــدة والعديــد مـن الدول الأوروبية الأخرى التي كشف هذا الوباء هشــاشـــة أنظمتهـــا الصحيــــة والطبيـــة، وأنها لا تمتلك منظومة متـطــــورة فــي إدارة الأزمات. 
 
الصـــين حاولـت الترويـــج لنموذجها الفاعل في إدارة الأزمة، وتوظيفه سياسياً لتعزيز مكانتها ، وربما قيادتها، لأي تحولات مستقبلية في عالم ما بعد كورونا، ووظفت في ذلك «الدبلوماسية الصحية» لاكتساب مناطق نفوذ وتأثير جديدة خاصة في أوروبا، حينما سارعت إلى تقديم العديد من المساعدات للدول الأوروبية التي عانت بشدة من هذا الوباء، كإيطاليا وأسبانيا وبعض دول أوروبا الشرقية، رافعة شعار «التضامن والوحدة» في مواجهة هذا التحدي، وكأنها تروج لنفسها باعتبارها القيادة الأخلاقية البديلة القادرة على إدارة النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا.
 
وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة، ومعها العديد من الدول الأوروبية الكبرى، كبريطانيا وفرنسا، عارضت هذه التحركات الصينية الي تسعى إلى «استغلال» هذا الوباء على حساب مصالحها، بل وصدرت اتهامات من مسئولين أوروبيين لبكين بأن المساعدات الطبية التي تقدمها لبعض الدول  تتجاوز الاعتبارات الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية. وهذا ما أشار إليه بوضوح جوسيب بوريل، مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، حينما قال: «إن أوروبا يجب أن تدرك أن هناك مكوناً جيوسياسياً للأزمة بما في ذلك الصراع من أجل النفوذ من خلال الغزل وسياسة الكرم»، وذلك في إشارة واضحة إلى التحذير من مخاطر الدبلوماسية الصحية التي تنتهجها الصين في التعامل مع بعض الدول الأوروبية ، كوسيلة للتغلغل وتحقيق المزيد من النفوذ في القارة. 
 
كورونا وسيناريوهات التنافس على تشكيل النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا
إذا كانت المعطيات السابق الإشارة إليها تؤشر إلى طبيعة التحولات المحتملة في بنية النظام الدولي الراهنة، إلا أنها لا يمكن أن تؤسس لميلاد نظام دولي جديد، لأن ذلك عملية معقدة قد تستغرق أعواماً عديدة، ريثما يتم الاانتهاء من التصدي لجائحة كورونا، وتقييم الخبرات الدولية في التعامل معها، ودراسة التداعيات الناجمة عنها على الصعد كافة. لكن مع ذلك، فإن التحولات التي ترتبت على كورونا يمكن النظر إليها باعتبارها مؤشرات واضحة على التنافس بين القوى الكبرى والإقليمية على عملية تشكيل مسارات النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدد من السيناريوهات المحتملة، وذلك على النحو التالي: 
 
السيناريو الأول: إبقاء الولايات المتحدة على النظام الدولي الراهن بصيغته الحالية، والتي تلعب فيه دور القيادة، مع الاعتراف بكل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، باعتبارها قوى دولية مؤثرة في تفاعلات هذا النظام. معنى هذا السيناريو أن الولايات المتحدة ترفض الاعتراف بأن وباء كورونا سيؤثر على قيادتها للنظام الدولي، ومن ثم فإنها تسعى إلى مقاومة أية تحركات تستهدف تغيير بنية النظام الدولي الراهنة، لصالح قوى أخرى بديلة، وخاصة الصين، ولهذا تتحرك من أجل الحفاظ على سيطرتها على تفاعلات هذا النظام، كي تظل القوة العظمى الرئيسية المهيمنة علىه. 
 
ووفقاً لهذا السيناريو فإن الولايات المتحدة لا تسعى فقط إلى تجديد قيادتها للنظام الدولي الراهن، وإنما الحيلولة أيضاَ دون ظهور قوى دولية منافسة، ولعل هذا يفسر تحركاتها الرامية إلى تحميل الصين مسئولية انتشار هذا الوباء، وإثارة الأزمات التي قد تشغلها عن التفكير في قيادة النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا، ومن الأمثلة على هذه التحركات:
 
1 - محاولة تحميل الصين مسئولية انتشار هذا الوباء في العالم، وهذا ما يفهم من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمره الصحفي في الثامن عشر من أبريل 2020، والتي حملت تهديدات واضحة لها، حينما قال صراحة:» أن علىها أن تتحمل العواقب إذا ثبت أنها مسؤولة عن عمد عن وباء فيروس كورونا».  
 
2 - التلويح بورقتي تايوان وهونج غونج: حيث أعلنت الولايات المتحدة، في شهر مايو 2020 أنها وافقت على بيع تايوان 18 طوربيداً ثقيلاً من طراز أم كي- 48 في صفقة تبلغ قيمتها 180 مليون دولار. ولا يمكن النظر إلى هذه الصفقة بمعزل عن رغبة الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في منطقة آسيا، إذ أن تلويحها بورقة تايوان في هذا التوقيت يمكن فهمه في سياق تحركاتها الرامية لمنع الصين من تعزيز مكانتها ونفوذها في النظام الدولي، وتسعى إلى إثارة هذه القضية في محاولة لإشغالها، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن الإعلان عن هذه الصفقة تزامن مع اليوم الذي أدت فيه رئيسة تايوان تساي إينج وين اليمين القانونية لولاية ثانية، وأكدت بعدها إن بلادها لا يمكنها القبول بأن تكون جزءا من الصين بموجب صيغة «دولة واحدة ونظامان»، لترفض بذلك مطالب السيادة الصينية رفضا شديداً. 
 
كما حاولت الولايات المتحدة في شهر مايو 2020 التدخل في الأزمة السياسية في هونج غونج، التي تتمتع بالحكم الذاتي أيضاً بعد استعادتها من الصين عام 1997، حينما طلبت من مجلس الأمن الدولي الانعقاد لمناقشة خطة الصين لفرض تشريع جديد للأمن القومي في هونغ كونغ، وهو ما اعتبرته الصين» أمراً داخلياً» لا علاقة لمجلس الأمن الدولي به، بينما قالت الولايات المتحدة إن معارضة الصين عقد اجتماع لمجلس الأمن حول هونغ كونغ، إضافة إلى «تسترها الشديد وسوء إدارتها لأزمة كورونا، وانتهاكاتها المستمرة لالتزاماتها الدولية بحقوق الإنسان، وسلوكها في بحر الصين الجنوبي، يجب أن يُظهر جلياً للجميع أن بكين لا تتصرف مثل عضو مسؤول في الأمم المتحدة».  
 
3 - التصدي للتحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي: فقد شهدت الأسابيع الماضية بعض المناوشات البسيطة بين السفن الحربية الأمريكية، مع السفن الحربية الصينية أثناء تسيير الدوريات البحرية في بحر الصين الجنوبي، وهذا إنما يكشف عن اختلاف رؤيتهما بشأن هذه القضية، ففي الوقت الذي تذهب فيه الصين إلى سيطرتها على هذا الممر المائي، فإن الولايات المتحدة ترى أن مياه هذا البحر هي مياه دولية بالأساس، وتندرج تحت فئة “أعالي البحار” ضمن بنود القانون الدولي.
 
ومن الواضح أن هذه التحركات الأمريكيــة تستهدف في جوهرها إنهاك الصين في سلسلة من الأزمات الداخلية والخارجية، وإبعادها عن التفكير في قيادة النظام الدولي في عالم ما بعد كورونا. 
 
السيناريو الثاني: التحول إلى حرب باردة جديدة: فلا شك أن الحديث عن تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة، ومحاولة الصين الترويج لنموذجها على أمل قيادة العالم، وتصاعد التنافس بين العديد من القوى الإقليمية والدولية، إنما يعني أن العالم يعيش الآن حالة من «الفراغ القيادي» قد تقود إلى نشوب حرب باردة جديدة تختلف عن تلك التي سادت لعقود بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في القرن الماضي، وهذه الحرب الباردة الجديدة ترتبط بالأساس بمحاولة القوى الدولية والإقليمية تثبيت مصالحها وتعزيز نفوذها في عالم ما بعد كورونا، ولعل أهم مؤشراتها:
 
1 - التنافس بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ في أفريقيا من بوابة تقديم المساعدات لمواجهة وباء كورونا، وبدا هذا واضحاً في تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مؤخراً قال فيها «لن تنافس أي دولة ما تفعله الولايات المتحدة» فيما يتعلق بدعم الحرب ضد فيروس كورونا في أفريقيا. فيمــا عمــدت بكـــين إلـى تكثيف دبلوماسية المساعدات الصحية إلى الدول الأفريقية؛ لمساعدتها على مواجهة كورونا، في محاولة لإقناع هذه الدول بتبني نموذجها التنموي والسياسي، بعدما كشف وباء كورونا هشاشة أنظمة الصحة والأزمات في الولايات المتحدة والغرب.
 
2 - استمرار سباق التسلح رغم جائحة كورونا، ففي الوقت الذي كان يفترض أن تتوقف القوى الكبرى عن سباق التسلح الذي يستنزف مليارات الدولارات سنوياً ، وتخصيص جزء منه للإنفاق على الرعاية الصحية والاجتماعية، فإن الواقع يشير إلى غير ذلك، والدليل على ذلك الطلب الذي تقدمت به القيادة الهندية الباسيفيكية (القيادة الأمريكية لمنطقة الهند والمحيط الهادئ)، إلى الكونجرس الأمريكي بتوفير معدات وتدريبات واستثمارات دفاعية بقيمة 20.1 مليار دولار في عام 2021،  لردع الصين في المستقبل وخاصة بعد انتهاء أزمة كورونا، وتعزيز مكانة واشنطن في آسيا والمحيط الهادي، حيث ستسهم هذه المبالغ في تحسين قدرة الجيش الأميركي في مواجهة نظيره الصين، ومن المقرر أن يتم انفاقها، بين عامي 2021 و2026، على أنظمة الإنذار الراداري الجديدة وصواريخ كروز، وإجراء المزيد من التدريبات مع الحلفاء، ونشر قوات إضافية ومراكز جديدة لتبادل المعلومات الاستخبارية. ويظهر الطلب أن الكثيرين في الجيش يعتقدون أن التوترات بين الولايات المتحدة والصين من المرجح أن تتزايد بسبب وباء كورونا.
 
3 - تجدد الخلافات الحدودية بين الصين والهند في شهري مايو ويونيو من العام 2020، وهي نزاعات تدور على طول الحدود بينهما الممتدة على 3500 كلم، وخصوصاً في منطقة لاداخ المرتفعة في شمال الهند. وتطورت هذه الخلافات في شهر يونيو 2020 حينما أعلن الجيش الهندي عن مقتل 20 من جنوده على الأقل في مواجهة عنيفة مع جنود صينيين عند الحدود في منطقة الهيملايا المتنازع علىها، في أعنف حصيلة اشتباك بين القوتين النوويتين منذ 53 سنة، وهذا التوتر يؤشر بالطبع إلى خطورة هذه النوعية من النزاعات الحدودية التي قد تنزلق إلى مواجهة عسكرية، إذ لم يتم اللجوء إلى الآليات القانونية لحلها. 
 
السيناريو الثالث: التحول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، خاصة أن جائحة كورونا أظهرت أنه ليس بمقدور أي دولة مهما كانت قدراتها وإمكانياتها أن تتصدى بمفردها لهذه النوعية من الأزمات الصحية ذات الطابع الكوني، وأنه من مصلحة العالم في مرحلة ما بعد كورونا البحث عن صيغ بديلة للأطر المؤسسية المنظمة للتعاون الدولي في وقتنا الراهن، وذلك كما حدث خلال القرن الماضي، حينما أدى انتشار وباء الأنفلونزا الأسبانية  إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية والتي تبلورت بشكل واضح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما برزت الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد السوفيتي «السابق»، كقوتان عظميتان يقودان النظام الدولي لمدة أكثر من أربع عقود خلال ما اصطلح على تسميته بـ»الحرب الباردة».
 
وبالفعل يمكن القول أن التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية والدفاعية التي ترتبت على وباء كورونا قد تؤسس لتحولات عميقة في بنية النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا؛ لصالح بناء نظام متعدد الأقطاب، تبرز فيها الصين وروسيا كأحد أهم هذه الأقطاب، فضلاً عن تصاعد الوزن النسبي للعديد من القوى الآسيوية في هذا النظام المحتمل بشكل مواز مع الاتحاد الأوروبي، بناء على التجارب المختلفة في الاستجابة مع وباء كورونا . 
 
ووفق هذا السيناريو، فإن القيادة المشتركة هي التصور المحتمل لإدارة النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا، من خلال التعاون بين القوى الدولية والإقليمية  في مواجهة الأزمات والتحديات الكونية التي يمكن أن تواجه العالم في المستقبل على غرار»كورونا»، والاستفادة من الخبرات والقدرات المختلفة في التصدي لها واحتواء تداعياتها. وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً على المدى المتوسط(10-5) سنوات، خاصة في ظل المعطيات التالية:
 
1 - تراجع دور الولايات المتحدة القيادي، وهذا الأمر ليس بسسب كورونا فقط، وإنما يعود إلى سنوات سابقة، حينما انسحبت الولايات المتحدة من العديد من المناطق الرئيسية في العالم، والتي كانت تشكل نفوذ استراتيجي لها، وحينما تخلت عن مسئولياتها في تعزيز التعاون الدولي بالانسحاب من المعاهدات والاتفاقيات الدولية المهمة.
 
2 - تصاعد الوزن النسبي للصين في تفاعلات النظام الدولي في الآونة الأخيرة، صحيح أن تجربتها الناجحة في إدارة أزمة وباء كورونا جعلت منها نموذجاً يحتذى لدى العديد من دول العالم، لكنها في الواقع وفي ظل قيادة الرئيس الحالي  شي جينبينغ- تسعى منذ سنوات إلى تحويل قوتها اقتصادية إلى دور سياسي مؤثر في تفاعلات النظام الدولي، حيث طرح رؤية طموحة عن مستقبل الصين أطلق علىها اسم «حلم الصين» في إطار مشروع بعنوان «إعادة بعث الأمة الصينية»، وبالفعل بدأت الصين تترجم ذلك المشروع في تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي، وترجمت ذلك في إحياء مشروع طريق الحرير، والسيطرة على بحر الصين الجنوبي رغم المعارضة الدولية وتعزيز تواجدها في القارة الأفريقية والآسيوية عن طريق ضخ مليارات الدولارات في العديد من المشروعات.
 
3 - روسيا هي الأخرى تطرح نفسها كواحدة من أهم القوى الدولية المشاركة في قيادة النظام الدولي المحتمل، ليس فقط لقوتها العسكرية التي تسعى لتطويرها باستمرار، وإنما أيضاً لأنها صاحبة التأثير الرئيسي في العديد من الأزمات الإقليمية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها عملت أيضاً على توظيف وباء كورونا من خلال «دبلوماسية المساعدات الصحية»، إلى تعظيم نفوذها في العديد من المناطق حول العالم. وهذا يتوافق مع مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استعادة مكانة بلاده كقوة عظمى مؤثرة في النظام الدولي.
 
4 -  تزايد الحضور الخليجي في المشهد الدولي في عالم ما بعد كورونا، خاصة أن جائحة كورونا شكلت فرصة لتعزيز الحضور العالمي المؤثر لكل من دولة الإمارات العربية العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في مواجهة هذه الجائحة، فالإمارات برزت كعاصمة للعطاء العالمي، وأعلت من الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع هذه الأزمة، بينما  عملت السعودية على تفعيل مجموعة العشرين، وترأست سلسلة من الاجتماعات الوزارية والفنية خلال النصف الأول من العام 2020 لتنسيق الجهود الدولية لمواجهة خطر كورونا. 
 
 خاتمــــــــة 
لا شك أن وباء كورونا كشف عن العديد من أوجه الخلل في بنية النظام الدولي الراهن، لكن قد يكون من المبكر تصور كيفي يكون شكل النظام الدولي بدرجة واضحة في عالم ما بعد كورونا، لكن المرجح أن عملية تشكيله وتحديد الوزن النسبي للقوى الفاعلة والمؤثرة فيه قد تستغرق عدة سنوات، لكن في كل الأحوال ووفقاً للمعطيات السابقة فإن النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا يميل إلى أن يكون نظام متعدد الأقطاب، يتسم بالتشاركية وتحمل الأعباء بين قواه الرئيسية، الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي وبعض القوى الآسيوية الصاعدة كالهند، فضلاً عن تصاعد الوزن النسبي للإمارات والسعودية، بعدما أثبتتا أنهما يمتلكان العديد من مقومات القوة والتأثير والفاعلىة في مواجهة الأزمات الكونية.  
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره