مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2021-11-01

هل بات العالم على أعتاب حوكمة بحرية صينية؟

أصبحت المحيطات والبحار ساحة رئيسية في الصراع الدولي، خاصة بين القوة المهيمنة على النظام العالمي، ممثلة في الولايات المتحدة، والقوة الصاعدة الرئيسية داخل النظام، ممثلة في الصين. وقد عبر عن هذا التحول المهم ظهور مفهوم «الإندوباسيفيك» (المحيطين الهادئ والهندي) كساحة رئيسية للتفاعلات الدولية التي تجري على قمة النظام العالمي، وما تبع ذلك من ظهور تحالفات جديدة، أبرزها «الحوار الأمني الرباعي» المعروف بـ»كواد» (في 2017)، والذي يضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، ثم «أوكوس» AUKUS (في 2021) الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة. 
 
بقلم: د. محمد فايز فرحات
مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
 
عوامل كثيرة تفسر عودة البحار والمحيطات كساحة للتفاعلات الدولية، يتعلق بعضها بتزايد معدل وفرص اكتشاف الثروات الاقتصادية وتزايد الأهمية النسبية للمسطحات المائية كقنوات ربط connectivity بين أقاليم العالم، لكن العامل الأهم يتعلق بتنامي الأهمية النسبية للقدرات العسكرية البحرية كعنصر رئيسي في بناء الجيوش، ما أدى بدوره إلى تزايد الأهمية النسبية للمحيطات والبحار كساحة للصراع. هذا العامل يفسر لنا لماذا يتجه الصراع الأمريكي- الصيني إلى التركز في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وظهور مفهوم “الإندوباسيفيك.
 
في هذا السياق يجب أيضا فهم السعي الصيني الحثيث إلى بناء “حوكمة بحرية” بديلة أو موازية للحوكمة البحرية القائمة. والمقصود بالحوكمة البحرية هي مجموعة القواعد والمؤسسات والنظم الحاكمة للتفاعلات الدولية في المجال البحري. وهنا يجب الالتفات إلى الوثيقة المهمة التي أصدرتها الحكومة الصينية، من خلال “اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح” بالتعاون مع “المصلحة الوطنية للبحار والمحيطات”، في يونيو 2017، حول التعاون البحري تحت عنوان “رؤية للتعاون البحري في بناء الحزام والطريق” “Vision for Maritime Cooperation under the Belt and Road Initiative”.
 
وثيقة الخطط الأمنية
وقد جاء الإعلان عن هذه الوثيقة المهمة في سياق الخطط الصينية في إدارة التعاون الصيني مع الدول والأقاليم الواقعة على مسار المكون البحري لمبادرة الحزام والطريق، لكنها تعكس في حقيقة الأمر توجها صينيا في المجال البحري. وتضمنت الوثيقة قائمة واسعة من الأفكار، توزعت على خمسة مجالات أساسية.
المجال الأول، يتعلق بحماية البيئة البحرية، أو ما اسمته الوثيقة «سلوك طريق التنمية الخضراء معا»، ويشمل  حماية البيئات البحرية وإعادة تأهيلها، وتوسيع نطاق الخدمات البيئية البحرية، وضمان سلامة النظام البيئي البحري والتنوع الحيوي، والتشارك في بناء ممرات إيكولوجية بحرية عابرة للحدود، وبناء أنظمة مشتركة لمراقبة ورصد النظم الأيكولوجية البحرية، وإصدار تقارير دولية مشتركة حول أوضاع البيئة البحرية، وحماية النظم البيئية للجزر والأراضي الساحلية الرطبة، ومكافحة تلوث البيئة البحرية، ومعالجة النفايات البحرية، وتعزيز التعاون في مواجهة تغير المناخ في المجال البحري من خلال تقديم الدعم (الصيني) للدول الجزر الصغيرة على طول طريق الحرير البحري لمساعدتها على مواجهة تحديات تغير المناخ العالمي والكوارث البحرية، ومشكلات ارتفاع سطح البحر وتآكل السواحل، وتدهور النظام البيئي البحري، وتقييم أوضاع الجزر والأحزمة الساحلية، وتنظيم منتدى دولي للأراضي الرطبة الساحلية، بالإضافة إلى إطلاق «خطة الكربون لطريق الحرير البحري» بهدف مراقبة النظام البيئي للكربون الأزرق في البحار والأحزمة الساحلية ومعايرة مواصفاته وإصدار التقارير المشتركة حول هذا الموضوع، وعقد منتدى دولي للكربون الأزرق، ووضع آلية لمكافحة التلوث البحري. 
 
المجال الثاني، يتعلق بتوسيع نطاق التنمية المشتركة المستندة إلى البحار، من خلال التعاون في تنمية واستغلال الموارد البحرية على طول طريق الحرير البحري، بدءا من مسح هذه الموارد وإنشاء دليل وبنك للمعلومات حولها، ومساعدة الدول النامية الواقعة على مسار الطريق لوضع خطط لاستثمار الموارد البحرية وتقديم المساعدات الفنية اللازمة لها، والارتقاء بمستوى التعاون في مجال الصناعة البحرية من خلال بناء الحدائق الصناعية البحرية ومناطق للتعاون الاقتصادي والتجاري، وتشجيع السياحة البحرية وإنشاء آلية لتبادل وتقاسم المعلومات السياحية، وتشجيع الترابط البحري من خلال تعزيز التعاون في مجال النقل البحري وبناء شبكات خدمات الشحن البحري بين البلدان الواقعة على مسار الطريق، وبناء مراكز ملاحية دولية وإقليمية، وتقوية التعاون بين الموانئ الواقعة على مسار الطريق، وتشكيل اتحاد للموانئ البحرية، وتقديم الدعم الصيني للدول الواقعة على مسار الطريق في مجال بناء وإدارة الموانئ، والتوسع في مشروعات كابلات الألياف الضوئية تحت البحار بهدف رفع مستوى التواصل والترابط بين الدول الواقعة على مسار الطريق.
 
أضف إلى ذلك الارتقاء بمستوى تسهيل النقل البحري من خلال توسيع نطاق التعاون في مجالات معايرة سوق النقل الدولي، وتوسيع الاعتراف المتبادل بنتائج الإشراف على الموانئ، والمساعدة المتبادلة في تنفيذ القانون، وبناء منظومة لنقل المعلومات ومعالجتها وإدارتها وتطبيقها، وبناء نظام للمواصفات القياسية للمعلومات، وبناء نظام لضمان الأمن المعلوماتي، وتوفير منصة عامة لتحقيق التواصل والترابط الشبكي وتقاسم المعلومات. كذلك كان ملحوظا تضمين الوثيقة بندا مهما في هذا المجال حول الاستثمار المشترك للقطب الشمالي، من خلال تشجيع التعاون متعدد الأطراف لإجراء استطلاعات علمية شاملة حول الممرات الملاحية بالقطب، وإنشاء محطة لرصد أساس الشواطئ، ودراسة تغيرات المناخ والبيئة وتأثيراتها، وتقديم خدمات التنبؤ بأحوال الممرات الملاحية هناك. وأكدت الوثيقة في هذا الإطار استعداد الحكومة الصينية لتقديم الدعم للدول المطلة على المحيط المتجمد الشمالي لتحسين ظروف النقل بالممرات الملاحية بالقطب وتقييم الطاقة الكامنة للموارد بالمنطقة، وتشجيع المؤسسات الصينية على الاشتراك في الاستخدام التجاري لهذه الممرات الملاحية، وإسهام هذه المؤسسات في الاستثمار المستدام للموارد بمنطقة القطب. 
 
المجال الثالث، يتعلق بالأمن البحري المشترك، المستند –وفقا لما جاء بالوثيقة- إلى مفاهيم المنفعة المتبادلة والفوز المشترك، وذلك من خلال تعزيز التعاون البحري عبر التشارك في بناء “الخدمات العامة البحرية” على طول طريق الحرير البحري، وبناء شبكة لرصد ومراقبة البحار، ومساعدة الدول النامية الواقعة على مسار الطريق في الحصول على التقنيات والمعدات اللازمة لرصد ومراقبة البحار، وتعزيز التعاون الدولي بشأن التوسع في تطبيق النظام الصيني لخدمات «الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية» (بيدو) BeiDou، وغيرها من الأنظمة المهمة في هذا الشأن، وتطوير التعاون في مجال أمن وسلامة الملاحة البحرية من خلال وضع آلية للإدارة والسيطرة -الثنائية ومتعددة الأطراف- لأمن وسلامة الملاحة البحرية، والمكافحة المشتركة للجرائم المرتكبة بالبحار، والعمل على حماية أمن وسلامة الملاحة البحرية، مع تأكيد الوثيقة استعداد الصين لتحملها الالتزامات الدولية «المناسبة» في هذا المجال. 
 
أضف إلى ذلك تعزيز التعاون في مجالات تبادل المعلومات وأعمال التفتيش والإنقاذ المشتركة بين الدول الواقعة على مسار الطريق، وإنشاء آلية لتبادل الزيارات بين وحدات التفتيش والإنقاذ البحري وتقاسم المعلومات وتنظيم الدورات التأهيلية والتدريبية في هذا المجال، ورفع القدرة المشتركة على مواجهة الطوارئ ومعالجة الكوارث والأمن السياحي، وبناء نظام للإنذار المبكر والتنبؤ بالكوارث البحرية في بحر الصين الجنوبي وبحر العرب وخليج عدن وغيرها. فضلا عن التعاون في مجال تنفيذ قانون البحار، على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف، في مجالات صيد الأسماك ومكافحة الإرهاب وأنشطة العنف بالبحار، وإنشاء آلية للتعاون في هذا المجال. 
 
المجال الرابع، يتعلق بتشجيع المعرفة والابتكار في مجالات بحوث العلوم البحرية، من خلال تطبيق برامج للتعاون العلمي البحري بين الدول الواقعة على مسار الطريق، وتنفيذ المسوح البحرية، وبناء منشآت للبنية التحتية ذات الصلة بالبحوث البحرية، وتشجيع التعاون عبر المؤسسات البحثية المشتركة ذات الصلة بالعلوم البحرية بين الصين وعدد من الدول الواقعة على مسار الطريق، وتطوير التبادلات التعليمية والثقافية البحرية من خلال تنفيذ برامج للمنح الدراسية مع الدول الواقعة على مسار المبادرة، وإقامة الفعاليات السنوية الثقافية البحرية والمهرجانات الفنية البحرية، والتعاون في مجال نشر الثقافة ذات الصلة بالشئون البحرية، وتعزيز التعاون الإعلامي في هذا المجال. 
 
المجال الخامس، يتعلق بالتشارك فيما أسمته الوثيقة «الحوكمة البحرية” وتوسيع مجالاتها، من خلال إنشاء آلية حوار رفيع المستوى للتعاون البحري بين الدول الواقعة على مسار الطريق، وتوقيع سلسلة من وثائق التعاون البحري بين الحكومات، والتشارك في وضع خطط للتعاون وتنفيذ المشروعات ومجالات التعاون المختلفة. واقترحت الوثيقة في هذا الإطار إنشاء “المائدة المستديرة لوزراء الشئون البحرية للصين والدول الجزر الصغيرة”، و”منتدى التعاون البحري بين الصين ودول جنوب أوروبا”، و”منتدى شراكة الاقتصاد الأزرق العالمي”، و”المنتدى الدولي لتخطيط الحيز البحري”، بالإضافة إلى التأكيد على إصدار التقارير الدورية حول «الاقتصاد الأزرق». 
 
وتشير قراءة الوثيقة إلى استنتاج مهم؛ إذ أنه رغم أهمية الدوافع الأمنية للصين والمتعلقة بأمن الممرات والمضايق البحرية، إلا أن الوثيقة أفردت مساحة محدودة نسبيا لمجال الأمن البحري (المجال الثالث ضمن مجالات التعاون) بالمقارنة بباقي المجالات التي استحوذت على المساحة الأكبر من الوثيقة، ويرجع ذلك إلى حرص الصين التأكيد على الطابع الاقتصادي التنموي للسلوك البحري الصيني في الإندوباسيفيك، خاصة في ظل وجود نزاعات حدودية بحرية بين الصين وعدد من الدول الواقعة على مسار طريق الحرير البحري في منطقة جنوب شرقي آسيا (النزاع في بحر الصين الجنوبي)، فضلا عن التنافس الصيني- الهندي في هذا المجال. وفي المقابل، أعلت الوثيقة من أهمية المنهج “الفني” “الوظيفي” في بناء تعاون بحري بين الصين والدول الواقعة على مسار الطريق البحري، من خلال خلق وتعظيم المصالح المشتركة لدى الحكومات والفاعلين في الدول الواقعة على مسار الطريق للتعاون الوظيفي في عدد كبير من المجالات على النحو السابق الإشارة إليه.   
 
ولا يمكن فصل الأهداف النهائية للتعاون البحري، على النحو السابق مناقشته، عن سعي الصين إلى تطوير الوعي بوجود “جماعة دولية” community حول مسار طريق الحرير البحري، من خلال العمل على تعظيم مفهوم “الخدمات العامة البحرية” Maritime Public Service، والعمل على إيجاد مصالح وآليات عمل مشتركة بين هذه الدول تميزها عن غيرها، وزيادة معدل الترابط و”التشبيك” connectivity and networking فيما بينها، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى نمو وعي بهذه “الجماعة” وتمايزها عن باقي أعضاء المجتمع الدولي، أو على الأقل اعتمادها على الصين كمركز رئيسي. 
 
هذا التوجه الصيني في التعامل مع مجموعة الدول والأقاليم الواقعة على مسار طريق الحرير البحري، سواء فيما يتعلق بتعميق التعاون الفني الوظيفي أو العمل على بناء ما يمكن وصفه بـ”الجماعة الدولية حول طريق الحرير البحري” Maritime Silk Road Community، سيكون له تأثيره غير المباشر في تحقيق الأمن البحري وفقا للحسابات والمصالح والرؤي الصينية. 
 
الهدف الصيني بعيد المدى هنا هو خلق حالة من الاعتماد الدولي المتبادل في الإندوباسيفيك (حول المكون البحري لمبادرة الحزام والطريق) وتحويل الصين إلى مركز لهذا “الاعتماد”، أو ما يمكن وصفه بالحوكمة الموازية للحوكمة القائمة التي تمركزت خلال العقود السابقة حول الولايات المتحدة، وذلك اعتمادا على تكثيف المعاملات والاتصالات والتعاون الفني الوظيفي أو القطاعي البحري، وهي مداخل نلاحظ حضورها بقوة في الوثيقة، سواء فيما يتعلق بالمبادئ الحاكمة للتعاون، أو مجالات هذا التعاون، أو الأطر الوظيفية المقترح استحداثها لتنظيم هذا التعاون، بهدف الوصول إلى حالة “مجتمع الأمن” -وفقا لمقولات كارل دويتش- أو الوصول إلى حالة التكامل الوظيفي من خلال بناء شبكة من المؤسسات الوظيفية، وفقا لمقولات النظرية الوظيفية في التكامل، وخلق نخب وقوى سياسية وجماعات مصلحة تقف وراء هذا الاعتماد المتبادل الجاري تشكيله حول الصين، حسبما يذهب الوظيفيون الجدد. 
 
وفي جميع الحالات، فإن نجاح الصين في تحقيق هذه الأهداف سيحجم من ناحية قدرة الولايات المتحدة وشبكة التحالفات الجديدة في الإندوباسيفيك على مواجهة الصين أو احتوائها. كما سيؤدي، من ناحية أخرى، إلي تعزيز قدرة الصين على إدارة تعاون بحري عالمي وفق “حوكمة بحرية» جديدة أو موازية، ستؤدي في التحليل الأخير إلى تراجع الأهمية النسبية للنزاعات الحدودية البحرية في الإندوباسيفيك بشكل عام، وفي منطقة بحر الصين الجنوبي ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة للصين، بشكل خاص. 
 
 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره