مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2022-03-01

هل تنجح استراتيجية ما وراء الأفق الأمريكية في التصدي للإرهاب عن بُعد؟

بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وسقوط كابول في أيدي حركة طالبان، ألقى الرئيس الأمريكي «جو بايدن» خطاباً من البيت الأبيض يوم 16 أغسطس 2021 حول تطورات الأوضاع في كابول، غير أنه ذهب إلى أبعد بكثير مما توقع البعض؛ إذ شدد «بايدن» على تمسكه بقرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، مضيفًا أن «الولايات المتحدة طورت قدرتها على مكافحة الإرهاب عبر الأفق، مما سيسمح لها بإبقاء أعينها ثابتة على أي تهديدات مباشرة لها في المنطقة، والتصرف بسرعة وحسم إذا لزم الأمر».
 
 أ. هديـــر مصطفى
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعول فيها «بايدن» على استراتيجية «ما وراء الأفق» كبديل لمواصلة الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب في أفغانستان في ظل عدم وجود قوات عسكرية على الأرض؛ إذ كانت هذه الاستراتيجية عنصرًا رئيسًا في خطابه لإعلان الانسحاب من أفغانستان يوم 14 أبريل الماضي، وكذلك في خطابات أخرى ألقاها في شهري مايو ويوليو المنقضييْن. 
والمقصود باستراتيجية «ما وراء الأفق» (Over the Horizon)، هو اتخاذ خطوات بعضها دبلوماسي وبعضها عسكري؛ للحيلولة دون أن تصبح أفغانستان ملاذًا آمنًا للإرهابيين في ظل غياب الوجود العسكري الأمريكي الفعلي على الأرض.  وجوهر الاستراتيجية المذكورة هو استخدام الأقمار الصناعية لجمع ما يلزم من معلومات استخباراتية حول العناصر الإرهابية في أفغانستان، واستخدام الطائرات المسيرة والمقاتلات الأمريكية لردع أي هجمات محتملة على الأهداف الأمريكية في المنطقة عن بُعد، علاوةً على إمكانية شن هجمات بواسطة القوات العسكرية الخاصة “الكوماندوز” متى استدعى الأمر.
 
 ولعل الاختبار - أو ما يمكن أن نسميه بالإخفاق - الأبرز لهذه الاستراتيجية في أفغانستان كان يوم 29 أغسطس الماضي، حيث الضربة الجوية الفاشلة التي شنتها الولايات المتحدة لاستهداف عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، بعد ثلاثة أيام من التفجير الذي شهده محيط مطار كابول؛ إذ اعترف البنتاجون على لسان قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط «كينيث ماكينزي» يوم 17 سبتمبر الماضي - أي بعد حوالي أسبوعين من الغارة - بأن الضربة التي شنها في كابول نهاية شهر أغسطس كانت «خطأ مأسويًّا» أودى بحياة 10 مدنيين، بينهم7 أطفال.  وبالنظر إلى أن «بايدن» كان يستشهد بهذه الضربة - التي اعتبرها ناجحة في خطابه يوم 31 أغسطس لإعلان انتهاء الحرب في أفغانستان - كنموذج لنجاح استراتيجية «ما وراء الأفق» في التصدي للتهديدات الإرهابية عن بُعد،  لم يكن غريبًا أن تثور تساؤلات عديدة بشأن مدى فعالية مقاربة «بايدن» لمكافحة الإرهاب عن بُعد في أفغانستان، أو ما يُسمَّى باستراتيجية «ما وراء الأفق»، وهو ما سيتطرق إليه هذا المقال بشيء من التفصيل استنادًا إلى تحليل «SWOT»، من خلال الوقوف على عناصر القوة والضعف الكامنة في الاستراتيجية المذكورة، وكذلك الفرص والتهديدات، ومن ثمَّ التنبؤ بمدى نجاح أو تعثر هذه الاستراتيجية. 
 
استراتيجية “ما وراء الأفق”.. مواضع القوة والضعف 
تستند أن استراتيجية «ما وراء الأفق» إلى عددٍ من مواطن القوة تتمحور حول التطور الكبير الذي شهدته القدرات العسكرية الأمريكية في مجال تعقب وملاحقة العناصر الإرهابية عن بُعد، ففي حالات كثيرة، تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من الاضطلاع بمهام مكافحة الإرهاب على نحوٍ فعَّال في بلدان ليس لها وجود عسكري دائم فيها،  هذا ولا يزال بإمكان القوات الأمريكية الاعتماد على القواعد العسكرية الأمريكية المتمركزة في قطر ودول الخليج العربي الأخرى لمواصلة مهام الاستطلاع والمراقبة، وردع التهديدات المحتملة، في ظل غياب الوجود العسكري المباشر على الأرض.
 
ومع ذلك، لم تخلُ مقاربة «بايدن» لمكافحة الإرهاب عن بُعد من أوجه قصور متعددة، للحد الذي يصعب معه التنبؤ بنجاحها وعدم اضطرار الولايات المتحدة الأمريكية للعودة مُجددًا إلى أفغانستان. وفيما يلي إشارة إلى أبرز نقاط الضعف الكامنة في استراتيجية «ما وراء الأفق»:
ضـعــف الـقـــدرة على الـحـصــــول على معلومات استخباراتية موثوقة؛ فمع انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان، وانهيار أجهزة الأمن الأفغانية، فقدت القوات العسكرية الأمريكية “عيونًا وآذانًا” استخباراتية كثيرة على الأرض، كانت توفر لها قدرًا كبيرًا من المعلومات بشأن العناصر الإرهابية، مما سيحد من فاعلية العمليات الأمريكية لتعقب واستهداف الجماعات الجهادية في البلاد؛  فوفقًا لمسؤولين أمريكيين، فإن القوات العسكرية الأمريكية فقدت نحو %90 من قدراتها على جمع المعلومات الاستخباراتية قبل بدء سحب القوات في شهر مايو الماضي. وفي هذا السياق، تتصاعد التحذيرات بشأن خطورة الاستعانة بمعلومات استخباراتية غير دقيقة؛ مما يُسفر عن وقوع خسائر في صفوف المدنيين، ومن ثمَّ إثارة حنق الأفغان ضد الولايات المتحدة، وخلق المزيد من العناصر الإرهابية وليس اجتثاثها.
 
العامل التكنولوجي لا يمكن التعويل عليه كثيرًا؛ فرغم التطورات المتسارعة في القدرات التكنولوجية للقوات العسكرية الأمريكية على مدار العقدين الماضيين مقارنة بما كان عليه الحال قبل هجمات 11 سبتمبر 2001، فإن العنصر التكنولوجي يتسم بطبيعته المزدوجة؛ إذ إنه يُعزز أيضًا من قدرات الجماعات الجهادية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية أخرى، يُقر مسؤولون أمريكيون عسكريون واستخباراتيون بأن التقنيات العسكرية بشكل عام تصبح أقل دقة وفعالية في غياب وجود قوات عسكرية أمريكية أو شركاء محليين على الأرض في مناطق الصراع. وبالفعل، ارتكب البنتاجون أخطاء عديدة في إطار الضربات الجوية التي شنها باستخدام الطائرات بدون طيار، ليس آخرها ضربته الفاشلة في كابول أواخر أغسطس الماضي؛ فوفقًا لتقديرات مكتب الصحافة الاستقصائية، لقي ما بين 300 إلى 909 مدنيين حتفهم في غارات أمريكية في أفغانستان منذ يناير 2004، هذا وقد اعترف البنتاجون بأن الضربات الجوية الأمريكية في العراق أودت بحياة ما يزيد على 1400 مدني منذ بدء العمليات العسكرية ضد تنظيم «داعش» في البلاد عام 2014.
 
عدم وجود قواعد عسكرية أمريكية في آسيا الوسطى؛ مما يضع عراقيل إضافية أمام إمكانية تتبع وملاحقة العناصر الإرهابية، مقارنة بالعمليات العسكرية الأمريكية المماثلة في دول أخرى، مثل: ليبيا، والصومال، وسوريا، والعراق، ومنطقة الساحل الإفريقي، حيث تمتلك الولايات المتحدة قواعد عسكرية في دول مجاورة، مما عزَّز قدرتها على شن ضربات جوية سريعة وقتما تطلب الأمر. ورغم العرض الذي طرحه الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» خلال اجتماعه مع نظيره الأمريكي «جو بايدن» يوم 16 يونيو الماضي في قمة جنيف، بشأن استخدام القواعد الروسية في طاجيكستان وقيرغيزستان كبديل عن إنشاء قواعد أمريكية في دول آسيا الوسطى، فإنه لم يتضح بعد مدى جدية المقترح الروسي، كما لم تنتهِ المحادثات الأمريكية الروسية رفيعة المستوى التي عُقدت في هلسنكي يوم 22 سبتمبر الماضي، بين رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال «مارك ميلي» ونظيره الروسي الجنرال «فاليري جيراسيموف»، إلى نتائج حاسمة بشأن المقترح الروسي. وبشكلٍ عام، فإن فكرة التعاون العسكري مع روسيا محفوفة بالمخاطر؛ فمن ناحية، لا يزال بعض أعضاء الكونجرس متشككين في النوايا الروسية وراء مقترح «بوتين»، ومن ناحية أخرى، سبق أن سن الكونجرس تشريعًا تم إقراره عام 2017، يحظر التعاون العسكري مع روسيا، على خلفية ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم في عام 2014.
 
صعوبات لوجستية؛ ففي ظل غياب وجود قواعد أمريكية في آسيا الوسطى، سيتعين على الولايات المتحدة الاعتماد على قواعدها العسكرية في منطقة الخليج العربي لشن ضربات جوية عن بُعد، بما يعني أن الطائرات بدون طيار ستضطر إلى التحليق من على بُعد مئات الأميال، في رحلة تستغرق من ست إلى ثماني ساعات، أي أن الطائرات المسيرة ستقضي أكثر من %60 من مهمتها في الطيران من وإلى أفغانستان، وفقًا لتقديرات خبراء عسكريين.
 
فرص محدودة.. وتحديات جسيمة 
المُتابع لتطورات الأحداث التي أعقبت سقوط أفغانستان، يتبيَّن بوضوح محدودية الفرص المتاحة لإنجاح استراتيجية «ما وراء الأفق» الأمريكية من قبيل إجراء كبار المسؤولين الأمريكيين مناقشات مكثَّفة مع باكستان في الآونة الأخيرة؛ بهدف تعزيز التنسيق الأمني بين الجانبين، ورغم معارضة القيادة الباكستانية لاستضافة قواعد أمريكية داخل البلاد، فإنها تسمح بتحليق الطائرات الأمريكية في مجالها الجوي، وهو ما تحتاجه الطائرات والمقاتلات الأمريكية لاستهداف العناصر الإرهابية في أفغانستان. هذا ويمكن لبعض الدول التي ستقيم علاقات دبلوماسية واقتصادية مع أفغانستان، أن تدعم قدرة الولايات المتحدة على جمع المعلومات الاستخباراتية بشأن التهديدات الإرهابية في البلاد.
 
وفي المقابل، هناك جملة من التحديات/التهديدات بالغة الخطورة، والتي قد تقود لعرقلة الجهود الأمريكية استنادًا لاستراتيجية «ما وراء الأفق» أو ما يُعرف بـ «مكافحة الإرهاب عن بُعد»، ولعل في طليعتها:
تصاعد حدة التهديدات الإرهابية؛ فلا شك أن سيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان ينذر بتحول البلاد إلى حاضنة للجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيما القاعدة، وداعش، كما كان عليه الحال قبل 11 سبتمبر2001، لا سيما في ضوء التوقعات المُثارة بأن يتمكن التنظيمان من جمع شتاتهما، ومن ثمَّ ممارسة تهديد حقيقي ضد الأهداف الأمريكية في غضون عام أو ثلاثة أعوام على الأكثر، وفقًا لشهادة الجنرال “مارك ميلي”، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، أمام مجلس الشيوخ في 28 سبتمبر الماضي.  ومن غير المُرجَّح أن تتمكن طالبان من كبح جماح هذه التنظيمات الإرهابية؛ فخلال الشهور الأربع الأولى من العام الجاري، نفذ تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان نحو 77 هجومًا في أفغانستان، وذلك مقارنة بـ 21 هجومًا خلال الفترة نفسها من عام 2020، وفقًا لتقديرات بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان، وبالفعل حذر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في بيانٍ له في أغسطس 2021 من “التوسع المثير للقلق” للتنظيم في العديد من المناطق.
 
الطبيعة الجغرافية الأفغانية؛ فمن جهة، توفر الطبيعة الجبلية الوعرة في أفغانستان ملاذًا آمنًا للعناصر الجهادية، كما تحد الظروف المناخية أحيانًا من قدرة الأقمار الصناعية على مراقبة ورصد البؤر الإرهابية. ومن جهة أخرى، فإن كون أفغانستان بلدًا غير ساحلي، يعني أن قدرة الولايات المتحدة للوصول إلى الأهداف الإرهابية الناشئة في البلاد وضربها، ستكون مرهونة باستخدام المجال الجوي لدول الجوار الأفغاني، وخصوصًا باكستان، الحليف التاريخي لحركة طالبان، والذي يمكنه تقويض هذه القدرة في أي وقت.
 
الافتقار إلى حليف موثوق يمكن لواشنطن الاعتماد عليه؛ ففي أعقاب انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان، أضحت واشنطن في حاجة ملحة للاعتماد على حليف موثوق في أفغانستان، وبالنظر إلى قرار الانسحاب الأمريكي أحادي الجانب الذي اتخذه الرئيس «بايدن» دون التشاور مع الشركاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، فمن غير المُرجَّح أن يهب شركاء «الناتو» للتضامن عسكريًّا مع واشنطن مرة أخرى كما حدث بعد 11 سبتمبر 2001.
 
وفي ضوء ما تقدَّم، يمكن القول بأن الطريق أمام نجاح استراتيجية «ما وراء الأفق» في مكافحة الإرهاب عن بُعد في أفغانستان، ليس ممهدًا بما فيه الكفاية؛ بالنظر إلى التحديات الجسيمة التي ستضطر الولايات المتحدة إلى مواجهتها في ظل غياب وجود عسكري مباشر لها على الأرض، جنبًا إلى جنب مع خسارة الشركاء المحليين في أفغانستان إثر انهيار أجهزة الأمن الأفغانية، وتراجع قدرة واشنطن على جمع المعلومات الاستخباراتية الموثوقة بشأن الأهداف الإرهابية الناشئة في البلاد، وافتقارها إلى قواعد عسكرية تدعم الحضور الأمريكي النشط في منطقة آسيا الوسطى الاستراتيجية.  
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره