2024-04-03
المسؤولية ثمن العظمة
في عام 1943 قدم وينستون تشرشل واحدة من أعظم نصائحه السياسية، وكانت موجهة إلى الولايات المتحدة شعباً وقيادةً قائلاً: «إن المسؤولية هي ثمن العظمة». جاءت تلك النصيحة في خطابه أثناء حصوله على شهادة فخرية من جامعة هارفارد الأمريكية، والذي أراد من خلاله أن يوجه رسالة للأمريكان مفادها أن العزلة والتركيز على الشأن الأمريكي وعدم الاهتمام بشؤون ما يحدث في العالم لن يخلق للولايات المتحدة المكانة العظيمة التي تستحقها. كلماته كانت مدوية بين الحضور المتميز، وكانت واضحة في دعوتها للولايات المتحدة بأن تأخذ زمام المبادرة وتلعب دورها القيادي في العالم، وأن لا تتراجع كما تراجعت بعد الحرب العالمية الأولى عندما انزوت على نفسها وتركت قوى الظلام والشر من النازيين والفاشيين يفرضون هيمنتهم ومكانتهم على العالم. نصيحة كبيرة من شخص كبير لدولة كبيرة.
ما كان من الولايات المتحدة قيادةً وشعباً إلا أن تأخذ بها، وهو ما خلق المكانة القيادية العظمى للولايات المتحدة في النظام العالمي. هذه المكانة التي من المفترض أن تتطلب، من أجل المحافظة عليها، الاستمرار في أخذ زمام المسؤولية العالمية وعدم ترك الأمور تخرج من نطاق الهيمنة الأمريكية، كي لا تنجح القوى الرجعية والساعية لتدمير قواعد النظام العالمي من النجاح تماماً كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى مع بروز القوى الفاشية في كل من المانيا وإيطاليا واليابان. وفي عالم اليوم تبرز لنا قوى مختلفة في النظام العالمي تريد إحداث تغيرات على شكل وقواعد النظام لصالحها، مما يُحتم على الدول الرئيسية في النظام العالمي وبالأخص الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤوليتها تجاه. ففي النهاية، هذه الدول تسعى لمنافسة الهيمنة والسيطرة الأمريكية على النظام العالمي، من خلال محاولة هدم أسسه وإقامة نظام جديد بأسس وقواعد جديدة تصب لصالحها. ولعل الإشارات الضعيفة التي تقدمها الولايات المتحدة من خلال بعض من سياساتها ومواقفها الدولية تُعطي مثل هذه القوى مؤشرات إيجابية على ضرورة الاستمرار فيما تقوم به من أجل تحقيق الهدف الذي تسعى له والمتمثل في كسر الهيمنة الأمريكية وتغيير قواعد النظام العالمي.
ولعل مؤشر الابتعاد عن الوقوف مع الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين هو من أهم المؤشرات التي تحمس وتحفز قوى المنافسة والتغيير على السير في خطاها وما تقوم به في سبيل نجاح ذلك المسعى. فتراجع الولايات المتحدة عن أخذ زمام المبادرة في دعم أوروبا حفز روسيا على استخدام القوة ضد أوكرانيا والتهديد بها ضد دول أخرى. وتراجع الولايات المتحدة عن أخذ زمام المبادرة في دعم دول شرق أسيا وجنوب شرق أسيا يحفز الصين على فرض سيطرتها وهيمنتها على مناطق تابعة لمثل تلك الدول هناك. وتقاعس الولايات المتحدة عن أخذ زمام المبادرة والدفاع عن الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط يحفز دول وقوى الظلام الأخرى من جماعات إرهابية مسلحة على محاولة التوغل في مناطق مهمة وحيوية في المنطقة كسوريا وفلسطين ولبنان واليمن والعراق. بل وأصبحت تتجرأ على إلحاق الضرر بمنظومة التفاعلات التجارية العالمية من خلال تهديد الملاحة عبر أحد أهم المعابر البحرية العالمية، باب المندب.
والحقُ يقال، بأن التخاذل الأمريكي عن أخذ زمام المبادرة منذ بداية المواجهة مع جماعة الحوثيين عندما بدأت الجماعة تفرض سيطرتها على الدولة اليمنية وتهدد شرعيتها هو الذي أعطى الحوثيون ومعهم من يدعمهم من دول الدافع إلى الاستمرار في تهديد الملاحة البحرية العالمية. إن عدم تحمل الولايات المتحدة ومعها الدول الرئيسية في النظام العالمي وبالأخص الأوروبية لمسؤوليتها تجاه مواجهة بروز الحوثيين كان ومازال هو السبب في تفاقم الوضع في اليمن وتصاعد تداعياته على المنظومة الدولية. إن التقديرات الأمريكية والأوروبية كانت خاطئة، وبالتالي فإن ما يحدث اليوم في المنطقة هو نتاج تلك التقديرات التي من المفترض أن تتحمل تبعاتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية المسؤولة عن حماية قواعد النظام العالمي.
لا يمكن لدولة تريد أن تحصل على العظمة والمكانة والاحترام العالمي من دون أن تتحمل مسؤولياتها العالمية التي تجلب لها تلك المكانة والاحترام. والدول لا يمكن أن تبقى حبيسة شعارات، بل تعتمد على ما تراه من أفعال على أرض الواقع من قبل الدول الرئيسية في العالم. فتخاذل الدولة المهيمنة عن تحمل مسؤولياتها يجعل قدرتها على الجذب أقل بكثير، ويفتح المجال أمام الدول في النظام العالمي لفتح قنوات تواصل مع قوى أخرى في محاولة لتحقيق التوازن في معادلاتها الاستراتيجية. فثمن العظمة والمكانة بالفعل مرتبط بمدى التحرك بشكل مسؤول تجاه الحلفاء والشركاء والأصدقاء في العالم.
ارشيف الكاتب
لا يوجد تعليقات