مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2024-04-03

المسؤولية‭ ‬ثمن‭ ‬العظمة

في‭ ‬عام‭ ‬1943‭ ‬قدم‭ ‬وينستون‭ ‬تشرشل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬نصائحه‭ ‬السياسية،‭ ‬وكانت‭ ‬موجهة‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬شعباً‭ ‬وقيادةً‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬إن‭ ‬المسؤولية‭ ‬هي‭ ‬ثمن‭ ‬العظمة‮»‬‭. ‬جاءت‭ ‬تلك‭ ‬النصيحة‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬أثناء‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬فخرية‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد‭ ‬الأمريكية،‭ ‬والذي‭ ‬أراد‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أن‭ ‬يوجه‭ ‬رسالة‭ ‬للأمريكان‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬العزلة‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬الشأن‭ ‬الأمريكي‭ ‬وعدم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشؤون‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لن‭ ‬يخلق‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬المكانة‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬تستحقها‭. ‬كلماته‭ ‬كانت‭ ‬مدوية‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬المتميز،‭ ‬وكانت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬دعوتها‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بأن‭ ‬تأخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬وتلعب‭ ‬دورها‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬تتراجع‭ ‬كما‭ ‬تراجعت‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬عندما‭ ‬انزوت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وتركت‭ ‬قوى‭ ‬الظلام‭ ‬والشر‭ ‬من‭ ‬النازيين‭ ‬والفاشيين‭ ‬يفرضون‭ ‬هيمنتهم‭ ‬ومكانتهم‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬نصيحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬كبير‭ ‬لدولة‭ ‬كبيرة‭. ‬
 
 
ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬قيادةً‭ ‬وشعباً‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬بها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬المكانة‭ ‬القيادية‭ ‬العظمى‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭. ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تتطلب،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المحافظة‭ ‬عليها،‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬زمام‭ ‬المسؤولية‭ ‬العالمية‭ ‬وعدم‭ ‬ترك‭ ‬الأمور‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬نطاق‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تنجح‭ ‬القوى‭ ‬الرجعية‭ ‬والساعية‭ ‬لتدمير‭ ‬قواعد‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬النجاح‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬بروز‭ ‬القوى‭ ‬الفاشية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬المانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬واليابان‭. ‬وفي‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬تبرز‭ ‬لنا‭ ‬قوى‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬تريد‭ ‬إحداث‭ ‬تغيرات‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬وقواعد‭ ‬النظام‭ ‬لصالحها،‭ ‬مما‭ ‬يُحتم‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬وبالأخص‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬تجاه‭. ‬ففي‭ ‬النهاية،‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬تسعى‭ ‬لمنافسة‭ ‬الهيمنة‭ ‬والسيطرة‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العالمي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاولة‭ ‬هدم‭ ‬أسسه‭ ‬وإقامة‭ ‬نظام‭ ‬جديد‭ ‬بأسس‭ ‬وقواعد‭ ‬جديدة‭ ‬تصب‭ ‬لصالحها‭. ‬ولعل‭ ‬الإشارات‭ ‬الضعيفة‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬سياساتها‭ ‬ومواقفها‭ ‬الدولية‭ ‬تُعطي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬مؤشرات‭ ‬إيجابية‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الاستمرار‭ ‬فيما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬تسعى‭ ‬له‭ ‬والمتمثل‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وتغيير‭ ‬قواعد‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭. ‬
 
 
ولعل‭ ‬مؤشر‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬الحلفاء‭ ‬والشركاء‭ ‬الاستراتيجيين‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المؤشرات‭ ‬التي‭ ‬تحمس‭ ‬وتحفز‭ ‬قوى‭ ‬المنافسة‭ ‬والتغيير‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬خطاها‭ ‬وما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬نجاح‭ ‬ذلك‭ ‬المسعى‭. ‬فتراجع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬أخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬أوروبا‭ ‬حفز‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬ضد‭ ‬أوكرانيا‭ ‬والتهديد‭ ‬بها‭ ‬ضد‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭. ‬وتراجع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬أخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬دول‭ ‬شرق‭ ‬أسيا‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬أسيا‭ ‬يحفز‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬سيطرتها‭ ‬وهيمنتها‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬تابعة‭ ‬لمثل‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬هناك‭. ‬وتقاعس‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬أخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحلفاء‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬يحفز‭ ‬دول‭ ‬وقوى‭ ‬الظلام‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬جماعات‭ ‬إرهابية‭ ‬مسلحة‭ ‬على‭ ‬محاولة‭ ‬التوغل‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬مهمة‭ ‬وحيوية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬كسوريا‭ ‬وفلسطين‭ ‬ولبنان‭ ‬واليمن‭ ‬والعراق‭. ‬بل‭ ‬وأصبحت‭ ‬تتجرأ‭ ‬على‭ ‬إلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬بمنظومة‭ ‬التفاعلات‭ ‬التجارية‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تهديد‭ ‬الملاحة‭ ‬عبر‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬المعابر‭ ‬البحرية‭ ‬العالمية،‭ ‬باب‭ ‬المندب‭. ‬
 
 
والحقُ‭ ‬يقال،‭ ‬بأن‭ ‬التخاذل‭ ‬الأمريكي‭ ‬عن‭ ‬أخذ‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬الحوثيين‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬الجماعة‭ ‬تفرض‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬اليمنية‭ ‬وتهدد‭ ‬شرعيتها‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أعطى‭ ‬الحوثيون‭ ‬ومعهم‭ ‬من‭ ‬يدعمهم‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الدافع‭ ‬إلى‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬تهديد‭ ‬الملاحة‭ ‬البحرية‭ ‬العالمية‭. ‬إن‭ ‬عدم‭ ‬تحمل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ومعها‭ ‬الدول‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬وبالأخص‭ ‬الأوروبية‭ ‬لمسؤوليتها‭ ‬تجاه‭ ‬مواجهة‭ ‬بروز‭ ‬الحوثيين‭ ‬كان‭ ‬ومازال‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬تفاقم‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وتصاعد‭ ‬تداعياته‭ ‬على‭ ‬المنظومة‭ ‬الدولية‭. ‬إن‭ ‬التقديرات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والأوروبية‭ ‬كانت‭ ‬خاطئة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬تلك‭ ‬التقديرات‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تتحمل‭ ‬تبعاتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬قواعد‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭. ‬
 
 
لا‭ ‬يمكن‭ ‬لدولة‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬العظمة‭ ‬والمكانة‭ ‬والاحترام‭ ‬العالمي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤولياتها‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬تجلب‭ ‬لها‭ ‬تلك‭ ‬المكانة‭ ‬والاحترام‭. ‬والدول‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬حبيسة‭ ‬شعارات،‭ ‬بل‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدول‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬فتخاذل‭ ‬الدولة‭ ‬المهيمنة‭ ‬عن‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤولياتها‭ ‬يجعل‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الجذب‭ ‬أقل‭ ‬بكثير،‭ ‬ويفتح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬لفتح‭ ‬قنوات‭ ‬تواصل‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬معادلاتها‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬فثمن‭ ‬العظمة‭ ‬والمكانة‭ ‬بالفعل‭ ‬مرتبط‭ ‬بمدى‭ ‬التحرك‭ ‬بشكل‭ ‬مسؤول‭ ‬تجاه‭ ‬الحلفاء‭ ‬والشركاء‭ ‬والأصدقاء‭ ‬في‭ ‬العالم‭.  ‬
 


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره