مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2025-02-03

الهيمنة مقابل السيطرة

إن التراجع الواضح للنفوذ الإيراني الذي كان مسيطراً في بعض المناطق العربية وبالأخص في سوريا ولبنان وفلسطين فاجأ الجميع بسرعته، وجعل الكثيرين يعيشون في فترة صدمة مما يشاهدونه، وفتح التأويلات على مصراعيها لتحليل هذا التحول الواضح والسريع والمفاجئ لانهيار السيطرة الإيرانية في المنطقة. هذا الأمر يجعلنا كدارسين للسياسة نتساءل عن سبب هذا التراجع وكيف يمكن تفسيره.

في عالم السياسة وحيث غياب اليقين أو الوضوح حول مجريات الأحداث، تسعى الدول دائماً إلى تغليب مصالحها في بيئة ليس للضعيف فيها مكان. وبالتالي فإن الدول تعمل على خلق أجندات لها أو برامج تسعى من خلالها إلى خلق نفوذ في الخارج، وفقاً لاستراتيجية أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، أي من أجل أن أدافع عن نفسي من الأخطار التي يمكن أن تهددني كدولة علي أن أكون نشيطاً في سياستي الخارجية بطريقة تفرض نفسي على الآخرين. وهذا ما تفعله الدول الكبرى بالطبع، وهو ذاته الذي حدث مع إيران التي رأت بأن الأسلوب الأمثل للحفاظ على أمن وسلامة النظام السياسي هناك هو بالذهاب للخارج ومحاولة إيجاد بؤر داعمة ومساندة لتحقيق توازن في القوة أو توازن في الرعب أو التهديد مع الدول أو القوى المنافسة لها في المنطقة.

وهنا تعمل الدول الساعية لتطبيق هذه الفكرة إلى اتباع إحدى الاستراتيجيتين: الهيمنة أو السيطرة. والفرق بينهما أن الهيمنة تعني قدرة الدولة الكبرى على تشكيل الكثير من المعطيات الدولية في إقليم معين أو في العالم والتحكم بها وفقاً لما تراه هي مناسب حسب أجندتها وبرنامجها، وتعمل من خلال ما تملكه من إمكانات القوة الناعمة والخشنة من فرضه على النظام العالمي أو الإقليمي بحيث تصبح الدول الأخرى تابعة لهذه المعطيات التي وضعتها الدولة المهينة، وفي الغالب فإن هذه الدول تتماشى مع هذه المعطيات وشكل النظام وتحاول استثماره والتأقلم معه والاستفادة منه لتحقيق مصالحها. أي أن الدولة المهيمنة قد لا تأتي لتفرض نفسها على الدول الأخرى بالقوة ولكنها تخلق بيئة دولية ترى الدول الأخرى بانها بيئة لا يمكن أن تتجاوزها باعتبارها البيئة التي يمكن أن تحقق من خلالها المكاسب الاقتصادية والسياسية وغيرها من المكاسب. وهذا ما يفسر لنا العمل الذي قامت به الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نجحت في خلق نظام عالمي يعتمد على هيمنتها على المؤسسات الدولية السياسية والاقتصادية، مما جعل الدول الأخرى لا ترى مفراً سوى العمل معه. وهذا هو ما تعمل من خلاله الصين اليوم من محاولات لخلق بيئة دولية جديدة تكون فيها الأجندة الصينية حاضرة ومهمة للآخرين للتعامل معها.

أما في السيطرة فالعملية مختلفة لأنها وبكل بساطة تأتي في الغالب بالقوة والفرض والإكراه ولا تعطي المجال للطرف الآخر أن يقول كلمته، أو يكون لديه الخيار. فتصبح الدول الأخرى عاجزة عن الفرار منه، ومجبرة على التعامل معه بسبب الخوف الوجودي من الطرف الآخر المسيطر الذي يملك القوة لإحداث التغير السريع والمفاجئ. وهو ما سعى، على سبيل المثال، الاتحاد السوفيتي إلى فعله في السابق بهدف فرض سيطرته على دول أوروبا الشرقية بالقوة العسكرية والتهديد والوعيد.

وعند مقارنة هذا الوضع بالحالة الإيرانية فإننا نلحظ أن إيران في فكرها للتوجه والتأثير على الخارج لم تعتمد على خلق بيئة مهيمنة لها على المناطق الأخرى، لأنها لا تمتلك المقومات الداعمة للهيمنة، التي تتطلب قبول لدى الطرف الآخر من خلال توفير ما يرضي الآخر في مجالات التنمية. لذلك سعت إلى فرض نفسها بالقوة، تماماً كما فعل الاتحاد السوفيتي سابقاً على دول محيطه الأوروبي، فكان هناك الوجود والسيطرة ولكن لم يكن هناك القبول لهذا الوجود. فالسيطرة هي أكثر هشاشة من الهيمنة، حيث أن الهيمنة تبني نظام وبيئة يمكن التعايش من خلالها وتطويرها لفترة زمنية طويلة، وتلقى القبول؛ إلا أن السيطرة تنتهي بنهاية المُسيطر، والقبول الشعبي له في الغالب مفقود أو محدود لأنه معتمد على الفرض.

هذا ما حدث لإيران، فوجودها في لبنان وسوريا وفلسطين لم يكن وجوداً قائماً على أساس مشروع مقبول من قبل شعوب تلك الدول حتى يتمكن من البقاء، بل كان مشروعاً سيطري على الآخر، ويفرض الوجود عليه بالقوة. فجاءت النتيجة طبيعية لتراجع أو انهيار للنفوذ الإيراني في مثل تلك الدول. وهذا جرس انذار لكل من يحاول السير وراء أجندات دول تحمل فكر السيطرة على الآخرين، كما هو الحال في اليمن مثلاً، الذي لم تتمكن إيران من خلق هيمنة لها هناك بل خلقت سيطرة بالفرض والقوة. فانهيارها هناك هو مسألة وقت لا أكثر.


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-05-30 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره