مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2023-08-03

لا‭ ‬صوت‭ ‬يعلوا‭ ‬فوق‭ ‬صوت‭ ‬الدولة

لعل‭ ‬أبرز‭ ‬حدث‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬الشهر‭ ‬الماضي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬من‭ ‬احتكاك‭ ‬عسكري‭ ‬بين‭ ‬قوة‭ ‬فاغنر‭ ‬العسكرية‭ ‬والجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬والتهديدات‭ ‬التي‭ ‬أدلى‭ ‬بها‭ ‬رئيس‭ ‬قوة‭ ‬فاغنر‭ ‬ضد‭ ‬قيادات‭ ‬الجيش‭ ‬ولاسيما‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬ورئيس‭ ‬الأركان‭. ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬أحدث‭ ‬هزة‭ ‬عالمية،‭ ‬وحبس‭ ‬أنفاس‭ ‬الكثيرين‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤل‭ ‬إليه‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬بحجم‭ ‬وقوة‭ ‬روسيا‭. ‬وبالنسبة‭ ‬لدارسي‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬فإن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬يتم‭ ‬دراستها‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أسس‭ ‬ومبادئ‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭.‬
 
 
وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬عند‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الأسس‭ ‬وهو‭ ‬مفهوم‭ ‬السياسة،‭ ‬الذي‭ ‬يُعلمنا‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬رابط‭ ‬قوي‭ ‬بين‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬واستقرارها‭ ‬وبين‭ ‬مفهوم‭ ‬احتكار‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭. ‬فالسياسة‭ ‬وفقاً‭ ‬لعالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الألماني‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬التي‭ ‬تحتكر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الدولة‭ ‬وسائل‭ ‬الإكراه‭ ‬والفرض‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إدارة‭ ‬التفاعلات‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الدولة‭ ‬بشكل‭ ‬يضمن‭ ‬تحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭.‬
 
 
وعليه‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬اختلال‭ ‬واضح‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديها‭ ‬الاحتكار‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الإكراه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فرض‭ ‬السيطرة‭ ‬وتحقيق‭ ‬الأمن‭. ‬فقوة‭ ‬فاغنر‭ ‬هي‭ ‬قوة‭ ‬تحمل‭ ‬السلاح‭ ‬وترفعه‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الدولة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬سيطرتها‭ ‬وفقاً‭ ‬لأسس‭ ‬ومبادئ‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬الرئيسية‭ ‬مفقودة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭. ‬روسيا‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تُسيطر‭ ‬الحكومة‭ ‬وأجهزتها‭ ‬المختلفة‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الفرض‭ ‬حتى‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعمل‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬ومستقر،‭ ‬لكن‭ ‬التحرك‭ ‬الذي‭ ‬أقدمت‭ ‬عليه‭ ‬قوة‭ ‬فاغنر‭ ‬ضد‭ ‬الحكومة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬يعطي‭ ‬انطباعا‭ ‬بأن‭ ‬السيطرة‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬شاسع‭ ‬ومهم‭ ‬كروسيا‭ ‬لوسائل‭ ‬الفرض‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الدولة‭. ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬بأن‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬هناك‭ ‬قوى‭ ‬أخرى‭ ‬شبيهة‭ ‬بقوة‭ ‬فاغنر‭ ‬يصل‭ ‬عددها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬مسلحة‭ ‬تتبع‭ ‬بولاءاتها‭ ‬لأشخاص‭ ‬وليس‭ ‬للدولة‭ ‬الروسية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينذر‭ ‬بخطر‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬سيطرتها‭ ‬وهيمنتها‭ ‬على‭ ‬مفاصل‭ ‬الدولة‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬وتفرد‭. ‬فالدول‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخصخص‭ ‬أمنها‭ ‬الوطني‭ ‬لشركات‭ ‬خاصة،‭ ‬وإن‭ ‬فعلت‭ ‬فإنها‭ ‬تعرض‭ ‬أمنها‭ ‬الوطني‭ ‬للخطر‭.‬
 
 
جميع‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬جماعات‭ ‬مسلحة‭ ‬هي‭ ‬دول‭ ‬أقل‭ ‬استقراراً‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تخلوا‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات،‭ ‬وحتى‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬فيها‭ ‬يتعرقل‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الجماعات،‭ ‬وفرصة‭ ‬الاحتدام‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬مسلح‭ ‬كبيرة‭. ‬فالسودان‭ ‬ولبنان‭ ‬والعراق‭ ‬واليمن‭ ‬وأفغانستان‭ ‬وسوريا‭ ‬نماذج‭ ‬تعطي‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬لذلك‭. ‬إن‭ ‬أهم‭ ‬درس‭ ‬يعلمنا‭ ‬إياه‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الدولة‭ ‬قوية،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬صوت‭ ‬يعلوا‭ ‬فوق‭ ‬صوت‭ ‬الدولة‭. ‬فالدولة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُنظم‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬احتكارها‭ ‬لوسائل‭ ‬الفرض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وجود‭ ‬أطراف‭ ‬أخرى‭ ‬تنافسها‭ ‬كميليشيات‭ ‬وفرق‭ ‬عسكرية‭ ‬خارجه‭ ‬عن‭ ‬إطار‭ ‬الدولة‭ ‬حتى‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬دولة‭ ‬قوية‭ ‬ومستقرة‭ ‬وآمنه‭. ‬إن‭ ‬غياب‭ ‬سيطرة‭ ‬الدولة‭ ‬واحتكارها‭ ‬لوسائل‭ ‬الفرض‭ ‬هي‭ ‬معادلة‭ ‬طبيعية‭ ‬لضعف‭ ‬الدولة‭ ‬وفلتانها‭ ‬الأمني‭. ‬
 
 
روسيا‭ ‬ليست‭ ‬كأية‭ ‬دولة،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬أفغانستان‭ ‬أو‭ ‬سوريا‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬لبنان‭ ‬أو‭ ‬اليمن،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬دولة‭ ‬ذو‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬عالمية،‭ ‬تمتلك‭ ‬السلاح‭ ‬النووي،‭ ‬ولديها‭ ‬من‭ ‬الإمكانيات‭ ‬التأثيرية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطاقة‭ ‬ما‭ ‬يؤهلها‭ ‬لإحداث‭ ‬بلبلة‭ ‬عالمية‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬سقوط‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬وعدم‭ ‬الأمن‭ ‬يُعرض‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬أمنها‭ ‬للخطر‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬يُهدد‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬العالميين‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التحليلات‭ ‬تحذرمن‭ ‬ضعف‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تواجد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلحة‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬السيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬للدولة‭ ‬مثل‭ ‬قوة‭ ‬فاغنر‭ ‬المسلحة‭. ‬
 
وهذه‭ ‬القوة‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭ ‬موسكو‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬حروبها‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬أو‭ ‬خارجها،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬تراجع‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دخولها‭ ‬في‭ ‬صدام‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬الروسية‭ ‬يجعل‭ ‬مشاريع‭ ‬وأهداف‭ ‬موسكو‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬خطر‭. ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يهدد‭ ‬قوة‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬هناك‭. ‬إن‭ ‬تحرك‭ ‬قوة‭ ‬فاغنر‭ ‬أعطى‭ ‬مؤشر‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬حال،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬أصبحت‭ ‬تدق‭ ‬ناقوس‭ ‬الخطر‭ ‬في‭ ‬قدرة‭ ‬روسيا‭ ‬وقيادتها‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬روسيا‭ ‬وحدةً‭ ‬واحدة‭.‬


ارشيف الكاتب

اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره