2023-08-03
لا صوت يعلوا فوق صوت الدولة
لعل أبرز حدث مر على العالم الشهر الماضي هو ما جرى في روسيا من احتكاك عسكري بين قوة فاغنر العسكرية والجيش الروسي، والتهديدات التي أدلى بها رئيس قوة فاغنر ضد قيادات الجيش ولاسيما وزير الدفاع ورئيس الأركان. هذا الحدث أحدث هزة عالمية، وحبس أنفاس الكثيرين حول العالم لما كان يمكن أن يؤل إليه الوضع في بلد بحجم وقوة روسيا. وبالنسبة لدارسي علم السياسة فإن مثل هذه الظواهر يتم دراستها من منطلق أسس ومبادئ علم السياسة.
وفي هذه الحالة لا يمكن لنا إلا أن نقف عند أحد أهم أبرز هذه الأسس وهو مفهوم السياسة، الذي يُعلمنا علم السياسة أن هناك رابط قوي بين قوة الدولة واستقرارها وبين مفهوم احتكار القوة العسكرية. فالسياسة وفقاً لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر هي مجموعة من الأنشطة التي تحتكر من خلالها الدولة وسائل الإكراه والفرض من أجل إدارة التفاعلات في داخل الدولة بشكل يضمن تحقيق الأمن والاستقرار.
وعليه فإن ما حدث في روسيا هو نتاج اختلال واضح لهذا المفهوم، حيث أن الدولة لم يكن لديها الاحتكار على وسائل الإكراه من أجل فرض السيطرة وتحقيق الأمن. فقوة فاغنر هي قوة تحمل السلاح وترفعه في وجه الدولة، الأمر الذي جعل من قدرة الدولة على فرض سيطرتها وفقاً لأسس ومبادئ علم السياسة الرئيسية مفقودة بشكل كبير في هذه الحالة. روسيا بلد من المفترض أن تُسيطر الحكومة وأجهزتها المختلفة على وسائل الفرض حتى تستطيع أن تعمل بشكل طبيعي ومستقر، لكن التحرك الذي أقدمت عليه قوة فاغنر ضد الحكومة ممثلة في وزارة الدفاع يعطي انطباعا بأن السيطرة في بلد شاسع ومهم كروسيا لوسائل الفرض ليست في يد الدولة. مع العلم بأن في روسيا هناك قوى أخرى شبيهة بقوة فاغنر يصل عددها إلى أكثر من 30 قوة عسكرية مسلحة تتبع بولاءاتها لأشخاص وليس للدولة الروسية، وهو ما ينذر بخطر كبير على قدرة الدولة على فرض سيطرتها وهيمنتها على مفاصل الدولة بكل ثقة وتفرد. فالدول لا يمكن أن تخصخص أمنها الوطني لشركات خاصة، وإن فعلت فإنها تعرض أمنها الوطني للخطر.
جميع الدول التي بها جماعات مسلحة هي دول أقل استقراراً من الدول التي تخلوا من مثل هذه الجماعات، وحتى أن العمل السياسي فيها يتعرقل بسبب وجود مثل تلك الجماعات، وفرصة الاحتدام والدخول في صراع مسلح كبيرة. فالسودان ولبنان والعراق واليمن وأفغانستان وسوريا نماذج تعطي صورة واضحة لذلك. إن أهم درس يعلمنا إياه علم السياسة هو ضرورة أن تكون الدولة قوية، وأن لا يكون هناك صوت يعلوا فوق صوت الدولة. فالدولة يجب أن تُنظم نفسها من خلال احتكارها لوسائل الفرض من دون وجود أطراف أخرى تنافسها كميليشيات وفرق عسكرية خارجه عن إطار الدولة حتى تستطيع أن تصبح دولة قوية ومستقرة وآمنه. إن غياب سيطرة الدولة واحتكارها لوسائل الفرض هي معادلة طبيعية لضعف الدولة وفلتانها الأمني.
روسيا ليست كأية دولة، فهي ليست أفغانستان أو سوريا أو العراق أو لبنان أو اليمن، بل هي دولة ذو قوة عسكرية عالمية، تمتلك السلاح النووي، ولديها من الإمكانيات التأثيرية في مجال الطاقة ما يؤهلها لإحداث بلبلة عالمية. لذلك فإن سقوط مثل هكذا دولة في حالة عدم الاستقرار وعدم الأمن يُعرض ليس فقط أمنها للخطر بل أيضاً يُهدد الأمن والاستقرار العالميين. وهذا ما يجعل الكثير من التحليلات تحذرمن ضعف روسيا في ظل تواجد مثل هذه الجماعات المسلحة الخارجة عن السيطرة الكاملة للدولة مثل قوة فاغنر المسلحة.
وهذه القوة تعتمد عليها موسكو في العديد من حروبها سواء كان ذلك في أوكرانيا أو خارجها، لذلك فإن تراجع قوتها من خلال دخولها في صدام مع الدولة الروسية يجعل مشاريع وأهداف موسكو الخارجية في أوكرانيا والعديد من مناطق العالم التي تعمل فيها مثل تلك القوة في خطر. هذا الأمر يهدد قوة روسيا في تحقيق أهدافها هناك. إن تحرك قوة فاغنر أعطى مؤشر قوي على أن روسيا ليست في أحسن حال، بل أن مثل هذه الجماعات أصبحت تدق ناقوس الخطر في قدرة روسيا وقيادتها السياسية على المحافظة على روسيا وحدةً واحدة.
ارشيف الكاتب
لا يوجد تعليقات