مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2015-07-09

العلاقـات العربيـة-الإيرانيـة: تشابكات السـياسة والدين والتاريخ والجغرافـيا

طهـــران تمتـلك رؤى استراتيجيـــــة مهيمنــة تهــدد الأمـــــــــــن والاستقــرار الخليجي والعربي
 
المتابع لمسار العلاقات العربية الإيرانية خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ بداية أحداث ما يسمى إعلاميا “الربيع العربي”، يلاحظ غلبة طابع الصراع والتوتر على هذه العلاقات، سواء بسبب الخلاف بين الجانبين حول قضايا المنطقة، وكيفية التعامل معها، أو بسبب تدخلات إيران في شؤون العديد من دول المنطقة، دون مراعاة لمبادئ حسن الجوار، أو بسبب إصرار إيران على التصرف بمنطق المهيمن أو المسيطر على المنطقة، والتي وصلت لدرجة أن يقول أحد مسؤوليها إنها، أي إيران، أصبحت إمبراطورية، مركزها بغداد، وأنها تسيطر على أربع عواصم عربية. وفي هذا العدد تسلط “درع الوطن” الضوء على العلاقات العربية-الإيرانية في محاولة لتفكيك تشابكات الدين والسياسة والجغرافيا والتاريخ في هذه العلاقات وصولاً إلى فهم بواعث التوتر الذي يطغى على علاقات الجانبين، ويسهم في اضطراب الأمن والاستقرار الإقليمي.
 
إعداد: التحرير
 
الواضح أن الصراع العربي-الإيراني في تجلياته الراهنة، هو صراع سياسي واستراتيجي بامتياز، صحيح أن له خلفياته الدينية والمذهبية، لكنها لا تعدو أن تكون متغيراً تابعاً أو بالأحرى يتم توظيفها سياسياً، وخاصة من جانب النظام الإيراني، الذي يسعى إلى تقديم نفسه للشعوب العربية والإسلامية زاعماً أنه المدافع الأول عن المظلومين والمستضعفين في أي مكان بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية، لكن ممارساته على الأرض تكشف زيف هذه الدعاوى، وتؤكد حقيقة أساسية أن المصلحة والبرجماتية هي المحرك الرئيسي لسياسات إيران ومواقفها إزاء العالم العربي.
 
 
الأمر المهم الآخر أن الصراع العربي-الإيراني، لا ينفصل في جانب منه، عن محاولات إيران الحثيثة لاستثمار الأزمات والقضايا العربية، من منطلق تسويق “الدور” الإيراني للقوى الكبرى، وعلى اعتبار أنها تملك أوراق الحل لكثير من أزمات وقضايا المنطقة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وبدا هذا واضحاً خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث سعت إيران إلى توظيف أزمات المنطقة كأوراق ضغط ومساومة مع الغرب في قضيتها الرئيسية، المفاوضات النووية، من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب النووية، وتنصيب نفسها مجدداً كشرطي للمنطقة، أو كقائد مهيمن على شؤونها، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف السياسي- الاستراتيجي، فإنها تستخدم الأوراق كافة، حتى لو كانت ذات طابع ديني أو مذهبي، أي إنها هنا لا تختلف كثيراً عن الجماعات الدينية أو حركات الإسلام السياسي أو الجماعات الجهادية المتطرفة التي توظف الدين من أجل تحقيق مصالحها الضيقة، فإذا كانت هذه الحركات تستخدم الدين كوسيلة للوصول إلى السلطة، فإن النظام الإيراني يستخدمه من أجل الهيمنة والسيطرة وتعظيم النفوذ أو بالأحرى بناء نظام إقليمي خاص به، يحدد طبيعة أدواره وأدواته.
 
 
في ظل هذا الواقع المتأزم للعلاقات العربية-الإيرانية، كان طبيعياً أن تثار خلال الآونة الأخيرة تساؤلات حول طبيعة الصراع العربي-الإيراني، وهل هو سياسي أم مذهبي ديني؟ وماذا وراء الخطاب الإيراني الذي يستخدم مفردات دينية تركز على تسويق فكرة الدفاع عن «المظلومين» في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط؟ وما هي الآثار المترتبة على هذا الخطاب على مستقبل العلاقات الإيرانية-العربية؟ 
 
 
العلاقات بين الماضي والحاضر
لا يمكن بأي حال فصل التوتر الراهن في العلاقات العربية-الإيرانية عن الميراث التاريخي للعلاقات بين الجانبين، والذي جعل العلاقة مع إيران يشوبها شك وارتياب، فضلاً عن اعتبارات الجغرافيا والتصور المختلف للدور، كلها محددات تفسر المشهد الراهن في العلاقات العربية-الإيرانية، ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
 
 
أولاً: الميراث التاريخي: لم تسلم العلاقات بين إيران والعرب من حضور التاريخ بكامل ثقله. فالعرب انهوا الإمبراطورية الساسانية، التي كانت آخر مراحل الإمبراطورية الإيرانية قبل مجيء الإسلام. أما الإيرانيون، فيرون في أنفسهم أنهم الإمبراطورية التي وصلت إلى البحر المتوسط قبل الإسلام في عهد الإمبراطورية الإخمينية، ثم عادوا لذلك في عصر الجمهورية الإسلامية التي أسستها الثورة الإيرانية عام 1979. وإذا انتقلنا إلى التاريخ المعاصر، فقد دخلت العلاقات العربية-الإيرانية منذ بداية القرن العشرين دائرة من الأزمات ارتبط بعضها بالأطماع في الأراضي العربية (الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) والادعاء بتبعية أرض مملكة البحرين، وبعضها الآخر أرتبط بمحاولات إيران لعب دور شرطي المنطقة إبان حكم الشاه، ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988) لتعمق من ميراث الشك والتوجس لدى الجانبين، خاصة أن هذه الحرب شهدت تحالفاً خليجياً مع العراق، وتحالفاً سورياً مع إيران، ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما أعقبه من إطاحة نظام صدام حسين لتمثل حلقة جديدة من الصراع العربي-الإيراني، سعت خلاله إيران إلى تعظيم نفوذها في المنطقة انطلاقاً من العراق، ومارست سياسة تدخلية في أكثر من دولة عربية، متجاهلة مبادئ حسن الجوار، ومع كل هذه الأزمات والقضايا كان طبيعياً أن يطغى الصراع على العلاقات العربية-الإيرانية.
 
 
 
ثانياً: الرؤية الاستراتيجية الإيرانية للدور الإقليمي: وهي رؤية تتسم بالاستعلاء والغرور، حيث يلاحظ دائماً أن إيران تنظر إلى تميزها الحضاري واللغوي والثقافي وتعدادها السكاني وطموحاتها القيادية في المنطقة، كدعائم تؤهلها للاضطلاع بدور إقليمي مُتميز يدعمها في ذلك موقعها الهام الذي تحتله على رأس الخليج والذي يُمكنها من التحكُم في عصب اقتصاديات دول المنطقة وهو الطاقة. ولهذا تسعى إيران دوماً إلى ترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع، وظل حلم بلوغ القوة العظمى الإقليمية قائماً في استراتيجيات إيران منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، إلا أن الظروف الدولية والإقليمية حالت دون تحقيق ذلك، وعندما واتتها هذه الظروف من جديد في أعقاب ما يسمى «الربيع العربي»، سعت لتحقيقها، ومن ثم مارست السياسات واتبعت الأساليب التي تحقق لها ذلك، وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية لصراعها مع العالم العربي، خاصة أن رؤيتها لدورها إما أن تتجاهل الدول العربية، كما هي الحال لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث تسعى إيران إلى فرض رؤيتها الخاصة بأمن الخليج العربي على هذه الدول، وإما أن تتعارض مع الموقف العربي العام إزاء قضايا وأزمات المنطقة، وكيفية تسويتها، كالأزمة السورية والأزمة اليمنية على سبيل المثال لا الحصر.
 
 
ولعل المتابع لتحركات إيران خلال الأعوام الثلاثة الماضية يلاحظ بوضوح، كيف أنها تخطط لأن تكون قوة إقليمية معاصرة، يكون لها رأي في تقرير مصير المنطقة، ولهذا فإنها حاضرة بشكل استفزازي في مختلف أزمات وقضايا المنطقة، بدءاً من العراق ومروراً بسوريا ولبنان، ونهاية باليمن، وتواصل تمددها الإقليمي، وتتحرك نحو باب المندب، وتتواجد عسكرياً في إريتريا، وتقيم علاقات مع العديد من الدول الإفريقية.
 
 
ثالثاً: الاعتبارات الجيوسياسية: لا شك أن قرب إيران الجغرافي للمنطقة العربية، ومشاركة حدودها مع العديد من الدول العربية، كان له أثره البالغ في العلاقات السياسية بين الجانبين، وأسهم بدرجة كبيرة في تشكيل وعي كل طرف بالآخر، وإدراك مدى تأثيره. فإيران ترى المنطقة العربية واحداً من مدارات المدى الحيوي لمصالحها وتعزيز نفوذها في المنطقة، فيما تنظر الدول العربية إلى إيران نظرة إيجابية، من منطلق أنها جار وتتعامل معه وفقاً لمبادئ حسن الجوار، لهذا تعرب عن قلقها دوماً من أي ممارسات تنتهك هذه المبادئ.
 
 
وفي الوقت الذي كان يمكن للعامل الجغرافي أن يكون أحد مقومات تعزيز العلاقات بين الجانبين، فإن ممارسات إيران جعلت منه أحد أسباب الصراع، خاصة في ظل سعيها إلى السيطرة على بعض الأراضي العربية، وتكرار ادعاءاتها بتبعية مناطق أخرى، بل إنها استغلت حدودها مع بعض الدول العربية (العراق) في تعزيز نفوذها وتواجدها فيه عبر دعم سياسي وعسكري لفصيل بعينه، كمنطلق لتعزيز النفوذ في العالم العربي.
 
 
رابعاً: العامل المذهبي والديني: يعتبر أحد محددات العلاقات العربية-الإيرانية، لكن كما سبقت الإشارة، فإنه متغير تابع، يتم توظيفه ضمن مشروع إيران للهيمنة، وفي إطار رؤيتها لتعزيز دورها الإقليمي في المنطقة. في هذا السياق يمكن فهم لماذا تصر إيران على استخدام هذه الورقة كإحدى أدوات سياستها تجاه المنطقة العربية، وذلك من خلال تشكيل أذرع لها في بعض الدول العربية، كما هي الحال في العراق واليمن ولبنان، وتقديم الدعم السياسي والمادي لهذه الأذرع، من أجل الدفاع عن مصالحها في تلك الدول وبالتالي تعزيز نفوذها هناك، وأيضاً لتوظيف ذلك كإحدى أوراق الضغط والمساومة مع القوى الخارجية، على اعتبار أنها تستطيع من خلال هذه الأذرع أن تكون طرفاً في أي تسوية، كما يحدث حالياً في اليمن، إذ كثيراً ما تشير تصريحات من المسئولين الإيرانيين إلى أنه بمقدور طهران أن تكون طرفاً في تسوية الأزمة اليمنية، وذلك اعتماداً على قدرتها على التأثير في الحوثيين.
 
 
جدلية “السياسي” و “الديني”
من يتابع الخطاب الإيراني خلال الآونة الأخيرة يتصور أن صراع طهران مع العالم العربي ذو أبعاد مذهبية وطائفية، وأنها تتحرك بمنطق الدفاع عمن تعتبرهم “مظلومين” في العالم العربي، كما جاء في الخطاب الذي وجهه المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيد على خامنئي في شهر مايو الماضي 2015، بمناسبة ذكرى وفاة الخميني، والذي أشار فيه إلى أن إيران ستواصل دفاعها عن المظلومين في العالم العربي، في البحرين ولبنان واليمن، وهي الدول التي تشهد تواجداً ملحوظاً للشيعة. ولكن هذا أمر غير حقيقي، فالصراع بين الجانبين سياسي واستراتيجي واقتصادي، وليس مذهبياً دينياً، إنه صراع يرتبط برؤية إيران لدورها الإقليمي في المنطقة من ناحية، وبأحلامها الإمبراطورية وسعيها لتوسيع دائرة نفوذها من ناحية ثانية. لهذا فإن من يعتقدون أن الصراع بين الجانبين مذهبي وديني ليسوا مخطئين وحسب، بل وأيضاً يخدمون أهداف إيران التي تحاول إعطاء بعد ديني ومذهبي لخلافاتها مع الدول العربية، كما أن الترويج لهذا الرأي ينطوي على تداعيات كارثية، على أمن واستقرار المنطقة بأسرها، لأنه يطلق العنان للخلافات الطائفية والمذهبية.
 
 
في سياق تكييف الصراعات العربية الإيرانية أيضاً، ثمة محاولات من جانب بعض مراكز البحوث الغربية لتشبيه هذه الصراعات بالحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في العصور الوسطى، في تأكيدٍ أنها ذات خلفية دينية، وأنها ستأخذ وقتها، وتنتهي، وستبدأ المنطقة بعدها مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار، وهذه أيضاً رؤى غير واقعية، وتستهدف تعميق صراعات المنطقة، واستنزاف قدراتها في حروب عبثية، لا طائل من ورائها، باللعب على وتر المذهبية والطائفية. فالحقيقة المؤكدة أن الخلافات العربية-الإيرانية هي خلافات سياسية وليست دينية مذهبية، ناتجة بالأساس عن رغبة إيران في السيطرة وفرض رؤيتها على دول المنطقة، وتدخلها السافر والصريح في شؤون أكثر من دولة عربية، وسعيها إلى محاولة استقطاب الشيعة في الدول العربية إلى صفها، من أجل أن تصبح القوة المهيمنة في منطقة الخليج واللاعب الأساسي في الشرق الأوسط. 
 
 
إيران توظف الورقة المذهبية لأهداف سياسية بحتة، بعيداً عما تروجه بأنها هي صوت المستضعفين، وليس أدل على ذلك من أنها في الوقت الذي تقف فيه مع الأقليات خارج حدودها، فإنها تضطهد الأقليات العرقية والمذهبية والدينية بالداخل الإيراني، كما أن محاولات إيران إضفاء طابع ديني على خلافاتها مع العرب أمر يجافي الحقيقة، فالعرب خليط من السنة والشيعة والمسيحيين واليهود والصابئة والزرادشت والوثنيين واللادينيين، ولم يلاحَظ أن أحداً من العرب تعاطف مع إيران أو انضم إليها في فترات الصراع الحديث مع إيران منذ أيام الشاه وإلى اليوم، بمن فيهم الشيعة أنفسهم، الذين يرفضون التدخلات الإيرانية في المنطقة، بل إن بعض الشيعة العرب يرون أنّ “ولاية الفقيه” تمثّل البعد القومي الفارسي الاستعلائي، ويعارضون أي توظيف للعامل المذهبي من جانب إيران، لأنه مؤسس على أهداف سياسية مصلحية بحتة، كما سبقت الإشارة.
 
 
قضايا وملفات شائكة
كما سبقت الإشارة، فإن الصراع بين العرب وإيران هو صراع سياسي استراتيجي، وليس مذهبياً، فالقضايا الخلافية بين الجانبين، محورها السياسة والاقتصاد والاستراتيجية والأمن، برغم محاولات طهران إضفاء طابع ديني مذهبي عليها في بعض الأحيان، وفيما يلي تحليل لأهم القضايا والملفات الشائكة بين الجانبين، والتي تكشف طبيعة هذا الصراع: 
 
 
1ـ قضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة: فعلى الرغم من أن الوثائق التاريخية والقانونية تثبت أن هذه الجزر تتبع السيادة الإماراتية، فإن إيران تحاول تغيير ملامح هذه الجزر، من خلال تهجير المواطنين قسراً، والاستيلاء على أملاكهم ومصادر رزقهم عنوةً، واستقدام المستوطنين لتغيير ديموغرافية الجزر، لطمس الهوية العربية عن هذه الجزر، كما ترفض أي مقترحات إماراتية أو عربية لحل هذه القضية بالطرق السلمية والقانونية. 
لهذا يمكن القول إن أهمية قضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) لا تعود فقط إلى الموقع الاستراتيجي الذي تحتله هذه الجزر الثلاث فحسب، بل لأن التعامل الإيراني مع هذه القضية يعد مؤشراً على الرؤية الاستراتيجية الإيرانية لأمن منطقة الخليج العربي واستقرارها، ومدى جدية طهران في الالتزام بأي ترتيبات أمنية إقليمية تضمن تحقيق الاستقرار في المنطقة، كما أن إدارة طهران لهذه الأزمة تعد مؤشراً إضافياً يعتد به على مسار العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي.
 
 
تمسك إيران باحتلال هذه الجزر يرجع إلى ما تمثله من أهمية استراتيجية، حيث تقع الجزر على امتداد طريق ضيق يعبر الخليج العربي نحو مضيق هرمز ومنه إلى خليج عمان، كما أن معظم صادرات دول الخليج العربية النفطية ووارداته غير النفطية تمر عبر هذا الطريق الضيق، كما أن هناك عدداً من حقول النفط والغاز تقع على مقربة من الجزر الثلاث وتزيد من أهميتها الاستراتيجية، ومجمل هذه العوامل يمنح الجزر الثلاث أهمية استراتيجية متعاظمة حيث توفر لأي قوة تسيطر عليها قدرة حماية الملاحة البحرية والسيطرة على الحقول البحرية في هذه المنطقة أو مهاجمتها. 
 
 
وفي الوقت الذي تحرص فيه دولة الإمارات العربية المتحدة على إيجاد تسوية للمشكلة من خلال الوسائل السلمية، سواء المفاوضات المباشرة، أو اللجوء إلى “محكمة العدل الدولية”، فإن إيران ترفض أي جهود للحل السياسي والقانوني لهذه القضية، بل وأكثر من ذلك فإن النظام الإيراني كثيراً ما يلجأ إلى توظيف هذه القضية من أجل كسب الدعم الداخلي عبر إثارة الروح القومية، والزج بها في لعبة الصراعات السياسية الداخلية، وهو ما يفسر عدم تجاوب طهران مع أي مقترح إماراتي، ورفضها المتكرر القبول بصيغ التحكيم الدولي مع أن هذه الصيغة تعتبر من أفضل ما أنتجته العلاقات الدولية من ثمار لنزع فتيل الأزمات وتحقيق الأمن والاستقرار بين الدول. وأصبح واضحاً أن إيران تستخدم قضية الجزر الثلاث المحتلة في دعم التماسك الداخلي، بحيث يلاحظ أنه كلما زادت الضغوط الداخلية على النظام وتفاقمت المشكلات الاقتصادية والمجتمعية، لجأ النظام إلى دغدغة المشاعر القومية والشعبية من خلال الحديث عن “وحدة الأراضي الإيرانية” ووجود “مؤامرة خارجية».
 
 
وفي حين تدعو الدبلوماسية الإماراتية دوماً إلى حل سلمي سواء من خلال المفاوضات المباشرة أو اللجوء إلى “محكمة العدل الدولية”، إلا أن إيران ترفض الذهاب إلى “محكمة العدل الدولية” وفي الوقت نفسه لا تساعد على إنجاح أي مفاوضات ثنائية بمواقفها المتصلبة، فضلاً عن سعيها إلى فرض الأمر الواقع في الجزر المحتلة وتبنّي سياسات استفزازية بشأنها تتعارض بشكل مطلق مع خطابها الذي يتحدث عن حسن الجوار والعلاقات التعاونية بين ضفتي الخليج، وهي بذلك تكشف عن تناقضها أمام الشعوب العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي ترفع فيه شعارات الدفاع عن الأرض العربية المحتلة في فلسطين، فإنها تصرّ على احتلال أرض لدولة عربية مسلمة وجارة، وترفض الاحتكام إلى الآليات السلمية المتعارف عليها في العالم المتحضر للتعامل مع مثل هذه المشكلات. وليس أدل على هذا الموقف الإيراني المتشدد والمتناقض، رفض طهران لبيان القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ في مارس 2015، فقد انتقدت وزارة الخارجية الإيرانية «إعلان شرم الشيخ»، الذي أكد سيادة دولة الإمارات العربية المتحدة على جزرها الثلاث، حيث اعتبرت المتحدثة باسم الخارجية الإيرانية، مرضية أفخم، هذا البيان بأنه تدخل في الشأن الإيراني، وأكدت أن «هذه الجزر جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية»، ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية عن «أفخم» قولها إن «تكرار المواقف التدخلية تجاه سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الجزر الإيرانية الثلاث.. لم ولن يؤثر على الحقائق القانونية والتاريخية حول هذه الجزر»، وأضافت أن «جميع الإجراءات المتخذة فيها، تجري في إطار حقوق السيادة للجمهورية الإسلامية الإيرانية». كما هاجمت «أفخم» البيان الذي صدر عن المجلس الوزاري الخليجي، في شهر يونيو 2016 والذي جدّد «تأكيد مواقف دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الثابتة الرافضة لاستمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، واتهمت هذا البيان بـ»تكرار المزاعم الفارغة « حول «استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث» على حد زعمها.
 
 
ولا شك في أن تعامل إيران مع قضية الجزر الإماراتية الثلاث يعد مؤشراً على سياساتها إزاء منطقة الخليج والعالم العربي بوجه عام، وهي سياسة تتسم بالتناقض والازدواجية، حيث تتحدث إيران عن التعاون الإقليمي، في حين يفتقر سلوكها السياسي والإعلامي إلى أبسط قواعد حسن الجوار بين الدول، وينزلق خطاب العديد من مؤسساتها الإعلامية ومسؤوليها إلى فخ التجريح والألفاظ الانفعالية غير المنضبطة في حق مسؤولين إماراتيين وخليجيين بما لا يتماشى مطلقاً مع لغة الحوار العقلاني وأدبياته المتعارف عليها في العلاقات الدولية، خصوصاً أن الجانب الإيراني ذاته يشير دوماً إلى دول مجلس التعاون باعتبارها “دولاً صديقة”. 
 
 
-2 الخلافات الحدودية مع بعض الدول العربية: الواقع أن الجزر الإماراتية الثلاث ليست الحالة الوحيدة التي تكشف الأطماع الإيرانية في المنطقة العربية، بل ثمة أحلام أيضاً للسيطرة بدأت تتبلور خلال الشهور الماضية، عبرت عنها تصريحات المسئولين الإيرانيين، بالسيطرة على أربع عواصم عربية، وضمها إلى إمبراطوريتهم، الذين يعتبرون بغداد عاصمتها المركزية.
 
 
ضمن هذا السياق يمكن فهم لماذا تصر إيران على أن حدودها مع العراق والبحرين والكويت والسعودية ليست نهائية، فالدعاوى الإيرانية بعائدية البحرين لها تتكرر بين الحين والآخر، حيث لم يتوقف العقل السياسي الإيراني من ترديد أسطورة عائدية البحرين إلى الدولة الإيرانية، حتى جاءت ثورة 1979 التي أعادت إحياء المزاعم البهلوية مجدداً، فأصبحت مملكة البحرين تحتل سلم أولويات السياسة الإقليمية لولاية الفقيه، وواحدة من بين أبرز القضايا الملحة في ذاكرة الحكام الجدد من رجال الدين، وصلت ذروتها في البيانات المستفزة في العام 2009، يوم صرح رئيس مكتب المساءلة في مكتب المرشد الأعلى والمتحدث السابق باسم «مجلس الشورى الإيراني» علي أكبر ناطق نوري، بأن البحرين كانت «المحافظة الرابعة عشر لإيران حتى العام 1970».وكثيراً ما نددت الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي بالتصريحات الإيرانية تجاه البحرين، مطالبين إيران بضرورة التنصل منها وإيقافها، معتبرين أنها «تتضمن تزييفاً للحقائق التاريخية الثابتة، وتشكّل تعدياً سافراً على دولة ذات سيادة مستقلة وعلى هويتها وعروبتها».
 
 
وظلت مشكلة ترسيم الحدود بين العراق وإيران، ولاسيما في الممر المائي «شط العرب»، مصدر التوتر الرئيسي بين البلدين، والسبب الرئيسي وراء الكثير من الخلافات والتصادمات التي بلغت ذروتها في حرب دامية ضروس بين البلدين تواصلت لثمانية أعوام (1980-1988). وبرغم أن المعاهدات التاريخية التي ورثها العراق عن الدولة العثمانية قد منحت له الحق في السيادة على هذا الممر المائي، ظلت إيران تطالب بتقاسم السيادة على مياه الشط بينما كان العراق يجد في الشط منفذه الأساسي إلى الخليج، ولاسيما أنه يعاني ندرة منافذه إلى مياه الخليج العميقة التي تسهل استقبال وارداته ووصوله صادراته إلى الموانئ العالمية. ولهذا جاءت الإطاحة بنظام صدام حسين فرصة لإيران لتعزيز نفوذها في العراق، عبر دعم الشيعة هناك، وتمكينهم من السلطة، على أمل الحصول على دعمهم في حالت تمت إثارة هذه القضية مرة أخرى. 
 
 
في السياق ذاته، أصبحت إيران تتصرف بمنطق الدولة العظمى (الإمبراطورية)، تتحدث على لسان مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بأن «أمن اليمن بمنزلة أمن إيران والمنطقة». وقبل ذلك قال بعض القادة الإيرانيين إن إيران دولة عظمى في المنطقة وأمنها يصل إلى البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وإن إيران تسيطر على أربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، صنعاء، بغداد)، أو كما قال مستشار خامنئي بناء إمبراطورية جديدة مركزها أو عاصمتها بغداد، الأمر الذي يؤكد أن إيران لم تنس بعد أن إمبراطوريتها القديمة انهارت على يد العرب قبل 1400 عام.
 
 
 
عبر استخدام الورقة الدينية والمذهبية، من أجل تعزيز حضورها السياسي في المنطقة العربية، حيث تتبنى خطاباً يركز على ما تسميه «الأقليات المستضعفة»، في محاولة لاستقطاب الشيعة العرب لصفها، ويدرك المتابع للسياسة الإيرانية وتصريحات كبار المسؤولين، أنها تحاول تصوير الصّراع مع العرب على أنه صراعٌ ذو أبعاد طائفية ومذهبية، لمواصلة أهدافها التوسّعية في المنطقة من خلال الجمع بين إثارة المطالب المذهبية لدى الشيعة العرب، وتكوين أذرع تابعة لهم في العديد من الدول العربية على أساس مذهبي، وبدا هذا واضحاً في حالات عدة أولها مملكة البحرين، التي ظلت هدفاً دائماً للتدخل الإيراني، من خلال إثارة المواطنين الشيعة في البحرين، وتحريضهم على القيام بالتظاهرات والاعتصامات المسلحة، ومحاولة تعطيل عمل مؤسسات الدولة والاعتداء على المواطنين والمقيمين، وكان هذا التدخل الفج سبباً في توتر علاقات إيران ليس مع البحرين فقط، وإنما مع مجمل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أيضاً، التي أعلنت رفضها صراحة لهذه التدخلات الإيرانية، وقامت في العام 2011 بإرسال قوات من درع الجزيرة لإعادة الأمن والاستقرار إلى مملكة البحرين، من منطلق المسؤولية المشتركة لدول المجلس في المحافظة على الأمن والاستقرار التي هي مسؤولية جماعية باعتبار أن أمن دول مجلس التعاون كلٌّ لا يتجزأ.
 
 
وقد حظي هذا التحرك بدعم عربي عبر عنه الاجتماع الطارئ لمجلس «جامعة الدول العربية» على مستوى المندوبين الدائمين الذي عُقد في القاهرة حول الأحداث في مملكة البحرين، حيث أكد مجلس الجامعة العربية أموراً عدة على درجة كبيرة من الأهمية، أهمها الرفض التام لأي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين، كما أكد مجلس الجامعة شرعية دخول قوات «درع الجزيرة» إلى مملكة البحرين انطلاقاً من الاتفاقيات الأمنية والدفاعية الموقعة بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وهناك أيضاً حالة لبنان، حيث كان لإيران دور في تأسيس «حزب الله»، واستطاعت طهران بمساعدة الحزب في الظهور كممثل للشيعة في لبنان، ووفرت له الدعم المادي والعسكري بحيث تمكنت من تكوين قوة شيعية في المنطقة، وفق نظرة المحيط العربي لإيران. 
 
 
 
ونتيجة لهذا فإن الحزب يدين بالولاء الكامل لإيران، بل إنه شكّل فيما بعد نموذجاً ناجحاً أغراها بمحاولة تكراره في دول عربية أخرى كالعراق حيثُ «حزب الله» العراقي، وفي اليمن حيثُ «أنصار الله». وتتميز العلاقة بين حزب الله وإيران بتداخل البعدين السياسي والديني فيها، فاللبنانيون الشيعة الذين يمثلون كوادر حزب الله تربطهم بالمرجعيات الدينية الإيرانية روابط روحية عميقة، ويعتبر مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامئني أكبر مرجعية دينية بالنسبة لهم، ويسمى أمين عام حزب الله حسن نصر الله الوكيل الشرعي لآية الله خامئني. وعلى الرغم من أن حزب الله كلف إيران الكثير من الجهد والمال، غير أنها استفادت منه الكثير، سواء لجهة خدمة المشروع الإيراني الإقليمي، وهو مشروع شيعي في الأساس يحلم باستعادة إمبراطوريتها أو على الأقل الهيمنة الإقليمية. كما يمثل حزب الله ورقة رابحة بيد إيران يستطيع أن يستخدمها وقتما شاء في الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة. والحالة الثالثة هي العراق، حيث كان التدخل الإيراني، وخاصة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، أحد أسباب الخلافات الإيرانية مع الدول العربية، لأن هذا التدخل ارتبط بممارسات دعمت موقع الشيعة وتغليبها على السنّة، بحيث تحول العراق بعد سقوط نظامه إلى ساحة لإيران مارست من خلالها المواجهة مع الولايات المتحدة، وعملت بقوة على دعم قيام نظام موال لها، من خلال شبكة علاقات وتحالفات معقدة واسعة، بحيث لا تستعيد بأي شكل من الأشكال تجربة النظام السابق. ويكفي أن نذكر أن العراق وقع مع إيران أكثر من مئة وسبعين اتفاقية في المجالات كافة لندرك ما بلغته العلاقة بين البلدين. وكان واضحاً أن إيران اعتمدت على العامل المذهبي والديني في تعزيز نفوذها في العراق، حيث تحظى الأحزاب الشيعية بدعم هائل سياسياً ومالياً ولوجستياً، من إيران في مقابل “هيمنة النفوذ الإيراني” على قرار هذه الحركات، ووضع العراق في سياق حسابات إيران الاستراتيجية” في التعامل مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى. كما أن “المؤسسات السياسية أو الدينية في إيران تقدم دعماً مالياً ودينياً لقوى شيعية في العديد من الدول العربية والإسلامية، في حين تتعامل هذه القوى مع إيران بصفتها حاضنة قم، ومركز التشيع في العالم اليوم”.
 
 
لكن هذا الدعم، وإن بدأ ظاهرياً من منطلقات مذهبية ودينية، إلا أنه يهدف بالأساس إلى تحقيق مصالح سياسية واستراتيجية لإيران، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن العراق كان دوماً أحد مصادر التهديد الأمني والاستراتيجي لإيران قبل الإطاحة بنظام صدام حسين، بل إنه كان منافساً إقليمياً واستراتيجياً لإيران، فالعراق يمثل أهمية استراتيجية وسياسية اقتصادية لإيران، فموقعه الجيوسياسي والحساس من جسم الأمة العربية ودوره في خلق التوازن الإقليمي دفع إيران إلى تعزيز نفوذها وتواجدها فيه، كي تحيده، باعتباره قوة للأمن القومي العربي، بمعنى آخر فإن إيران تستهدف من وراء نفوذها الراهن في العراق إخراج العراق من الناحية الاستراتيجية والتعريف التقليدي من كونه قوة لتحقيق التعادل مع القوى الإقليمية إلى قوة مساندة لإيران.
 
 
هكذا استطاعت إيران أن تحقق نفوذاً سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً، واسعاً في العراق بحيث باتت هي الطرف الأقوى الذي ترغب الولايات المتحدة في الحوار معه بشأن مستقبل العراق، ومستقبل قواتها وجنودها فيه. كما ساهم الغياب العربي عن المعادلة العراقية والاعتماد الكلي على خطط واشنطن لمستقبل العراق ولمواجهة إيران، لمثل هذا التزايد في نفوذ إيران، بحيث باتت دول الجوار العربي الأكثر تأثيراً في ما يجري في العراق. وتبقى الحالة الأحدث للتدخل الإيراني في الدول العربية في اليمن، حيث يأتي دعم إيران للحوثيين من منطق مصلحي وسياسي واستراتيجي بحت، صحيح أن الحوثيين يدينون بالمذهب الشيعي، ويرتبطون بعلاقات تاريخية مع المرجعية الشيعية في قم، إلا أن إيران سعت إلى توظيفهم في الصراع السياسي في اليمن، حيث تعتبر إيران الورقة الحوثية أداة في يدها وتعتبرها جزءاً جوهرياً لحركتها وصراعها الإقليمي والدولي، على أساس أن اليمن هي امتداد لمشروع إيران الإقليمي.
 
 
ولقد ساعد دعم إيران للحركة الحوثية على عرقلة تنفيذ بنود مبادرة التسوية الخليجية، والتي تم من خلالها حلحلة الأزمة اليمنية، وظهرت ملامح التدخل الإيراني مبكراً في الشأن اليمني لإفشال المبادرة الخليجية في اليمن عن طريق إخراج تظاهرات ضد الحكومة ودعوتها سابقاً لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وغيرها من المحاولات الرامية لإفشال حكومة الوفاق الوطني وضرب التسوية السياسية وتخريب المبادرة الخليجية. كما ساعدت إيران في تحول جماعة الحوثي إلى قوة مؤثرة على الساحة اليمنية سياسياً وعسكرياً، في ضوء استغلال الفراغ الذي تركه نظام علي عبدالله صالح للسيطرة الكاملة على محافظة صعدة وأجزاء من محافظتي حجة والجوف، حتى احتلال العاصمة والسيطرة على الحديدة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد ليشمل اعتبار ما حدث في اليمن بعد استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014 بأنه امتداد طبيعي واستلهام للثورة “الإسلامية” في إيران. ولا شك في أن سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن بقوة السلاح يعتبَر خروجاً على بنود المبادرة الخليجية التي طرحتها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في نوفمبر 2011، عقب اندلاع مظاهرات الشباب، وقد وقع عليها الرئيس السابق علي عبدالله صالح لنقل السلطة إلى نائبه آنذاك عبد ربه منصور هادي.
 
 
بواعث التدخل الإيراني في اليمن عديدة، سواء لجهة الاستفادة من الموقع الاستراتيجي المتميز الذي يتمتع به اليمن، حيث يمثل البوابة الجنوبية للوطن العربي عموماً والجزيرة العربية والخليج بشكل خاص. وتنبع أهمية اليمن من وجوده على أهم ممرات الطاقة والتجارة العالمية مثل مضيق باب المندب، الذي يمر خلاله ما يقارب من 3.2 مليون برميل نفط يومياً، أي تنبع الأهمية الاستراتيجية بحكم وجودها على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ مما يضفي بعداً مهماً على هذا الموقع، وبالتالي فإن وجود إيران في هذا المكان الاستراتيجي يعزز من حضورها الإقليمي، ويساعدها على السيطرة على المداخل والمخارج الرئيسية لتجارة النفط الدولية، في ضوء إدراك إيران أهمية تحديث قواتها البحرية والاستراتيجية. كما أن التواجد الإيراني في اليمن (عبر الحوثيين) يضمن لطهران أحد أوراق الضغط والمساومة، التي يمكن أن توظفها في دائرة منافستها وصراعها المستتر مع دول الخليج العربية، وتحديداً المملكة العربية السعودية، في توليد مضايقات ومشكلات لهذه الدول، خاصة مع وجود التجمعات الحوثية والشيعية في شمال اليمن بالقرب من السعودية، وما يمثله ذلك من مشكلات أمنية عديدة للمملكة وعرقلة أي محاولات أو جهود خليجية من أجل إعادة الاستقرار في اليمن، علاوة على أن اليمن تمثل العمق الديموغرافي والجغرافي لدول ومجتمعات دول الخليج العربية. 
 
 
كما سعت إيران إلى إعادة رسم الخريطة السياسية في اليمن على اعتبار أن اليمن دولة استراتيجية من وجهة النظر الإيرانية؛ لتكون خريطة طائفية مثلما هي الحال في لبنان والعراق، علاوة على استنساخ نموذج حزب الله جديد في اليمن من خلال جماعة الحوثيين أو أنصار الله، لكن جاءت عملية عاصفة الحزم التي شنتها قوات التحالف العربي ضد الحوثيين في مارس 2015، لتحبط هذه المخططات الإيرانية.
 
 
-4 السيطرة على الممرات والمضايق المائية: ففي إطار سعيها للهيمنة والسيطرة، تولي إيران اهتماماً استثنائياً بتعزيز تواجدها في الممرات والمضايق المائية المائية في المنطقة(هرمز-باب المندب- خليج عدن)، وتشير التحركات والتصريحات الرسمية للقادة الإيرانيين، إلى أن إيران تسعى للانفراد بمصير مضيق هرمز دون سواها، برغم الأحقية التاريخية لسلطنة عمان في ذلك وممارستها لهذا الحق، وهي تسعى من خلال ذلك لجلب ميزة أخرى تضاف إلى الميزات الجيوسياسية والجيوستراتيجية للموقع البحري أو المائي لإيران، الممتد من بحيرة قزوين شمالاً، مروراً بشط العرب شرقاً، وبالخليج العربي إلى بحر العرب والمحيط الهندي جنوباً، قد توظفها توظيفاً اقتصاديّاً وسياسياً في الضغط على جيرانها الخليجيين، بحيث تستعيض عن تلك المناطق بسواحلها على بحر عمان والمحيط الهندي في تأدية مهام ذلك الجزء المستغنى عنه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق لأغلب دول الخليج، التي ليس لديها سوى إطلالة بحرية واحدة على الخليج، كالكويت والبحرين وقطر ومعها العراق. 
 
 
وبالتالي، تستهدف إيران من خلال تدخلها في اليمن ودعمها للحوثيين وغيرهم إيجاد موضع قدم في المناطق المتاخمة لمضيق باب المندب ليعزز، إلى جانب سيطرتها على مضيق هرمز، من تحكمها في ممرات الملاحة الدولية في الخليج العربي والبحر الأحمر بصورة تزيد من مكانتها التفاوضية بشأن برنامجها النووي، ليصبح بذلك النفوذ الإيراني محاصراً للمنطقة بشكل عام شمالاً بنفوذها في لبنان وسوريا والعراق وجنوباً بنفوذها في اليمن؛ وهو ما يعني اكتساب المشروع الإيراني في المنطقة أرضاً جديدة، قد تعيد رسم خريطة التوازنات الإقليمية في المنطقة.
 
 
وتسعى إيران من ناحية أخرى، وفقاً لبعض التقارير الغربية، إلى وضع استراتيجية عسكرية تمتد إلى عام 2025 وتهدف إلى نشر قواتها البحرية من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر إلى مضيق ملقا. ففي هذه الحالة تكون إيران قادرة على تهديد حركة نقل النفط البحرية من خلال سيطرتها على مضيق هرمز من ناحية، ووجود حلفائها من الحوثيين على مضيق باب المندب من ناحية أخرى؛ وهو ما يضيف لها أوراق ضغط في علاقاتها الإقليمية والدولية.
 
 عملية “عاصفة الحزم” ومأزق إيران الاستراتيجي
جاءت عملية “عاصفة الحزم” التي تشارك فيها دول خليجية وعربية لدعم الشرعية الدستورية في اليمن، والتي انطلقت في السادس والعشرين من شهر مارس 2015، ضد الحوثيين، تحركاً استباقياً لوقف التمدد الإيراني في اليمن، وتحويله إلى مصدر لتهديد دول الجوار وخاصة السعودية، فلا شك أن تمدد إيران في اليمن عبر “الحوثيين”، كان يمكن أن يغير من معادلة التيارات الشيعية في منطقة الخليج ككل، فبروز الشيعة بهذه القوة في اليمن يجعل دول الخليج العربي كله في مرمى أهداف “الحركة الحوثية”، كما يمثل تصاعد سيطرتهم دافعاً لإذكاء النعرات الطائفية، وعمليات التقسيم التي آلت إليها العديد من دول المنطقة. فإذا كان بروز الشيعة في العراق غير ملامح المنطقة بشكل عام، فسيكون بروز الشيعة بهذه القوة في اليمن نقطة فاصلة أخرى، وستكون دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، في مرمى أهداف الحركة الحوثية التي لا تتحرك إلا بتوجيهات وأوامر من إيران.
 
 
لهذا فإن عملية عاصفة الحزم جاءت في موعدها تماماً سواء لجهة الحفاظ على وحدة اليمن واستقراره، ومساندة حكومته الشرعية، أو لوقف الانتهاكات التي تقوم بها جماعة الحوثي التي اتخذت من السلاح لغة للعنف والإرهاب في الاستيلاء على المؤسسات الوطنية اليمنية، وتهديد الأمن الاستراتيجي للمنطقة وتحقيق أجندات وأهداف قوى إقليمية، أو لجهة العودة إلى المسار السياسي المعترف به دولياً ومكوناته الأساسية، وعلى رأسها المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية ومخرجات الحوار وما يتفق عليه الشعب اليمني. ولا شك في أن عملية عاصفة الحزم، التي حظيت بتقدير إقليمي ودولي واسع، شكلت مأزقاً لإيران، في وقت تدخل فيه مفاوضاتها مع مجموعة(5+1) مرحلة حاسمة، ولهذا أعادت النظر في خطابها مرة أخرى، والتركيز على الدبلوماسية والحل السياسي، لأنها تدرك أن أي تصعيد ليس من مصلحتها، وسيكون على حسابها. 
 
 
خطر الطموحات النووية الإيرانية 
يعتبر المشروع النووي الإيراني أحد الملفات الأكثر حساسية في العلاقات الإيرانية-العربية خاصة مع الدول الخليجية، خاصة أن تطور هذا المشروع أثار الشكوك حول سياسة إيران تجاه العالم العربي، خاصة في ظل تصريحات المسئولين الإيرانيين حول هذا المشروع باعتباره رمز لنجاحات إيران، وقوتها في المنطقة.
 
 
والواقع أن إيران تسعى من خلال امتلاك برنامج نووي عسكري إلى حماية دورها الإقليمي، وتوسيع هذا الدور لتكون الطرف المهيمن والمسيطر والقائد في المنطقة، إذ لا يمكن فصل المشروع النووي الإيراني عن مشروع الهيمنة الإيرانية، والذي يأتي ضمن تصور مُتكامل للسياسة الخارجية الإيرانية على الأصعدة الإقليمية والدولية، حيثُ ترتكز السياسة الخارجية الإيرانية على الاستحواذ على مكانة مُتميزة على الساحة الإقليمية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن القيادة الإيرانية تعمل في إطار هذا التصور على القيام بأدوار مُتعددة تبدأ بالمشاركة في ترتيبات أمن الخليج، وتحقيق الاستقرار في منطقة شمال غرب آسيا، ولذلك، فإن امتلاكها للسلاح النووي يمكن أن يُقدم لها أداة بالغة الأهمية لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، لذا قررت إيران أن يكون لها ترسانة خاصة بها من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية وأنظمة إطلاق وتوجيه الصواريخ الباليستية والجوالة لحماية أمنها القومي.
 
 
ولعل هذا يفسر المخاوف الخليجية والعربية بوجه عام من المشروع النووي الإيراني، خاصة أن النظام الإيراني ينظر إلى هذا المشروع ضمن مشروع أوسع يستهدف قيادة النظام الإقليمي في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، إذ إن السعي الإيراني لامتلاك السلاح النووي يصب في اتجاه تعميق الخلل القائم في توازنات القوى في منطقة الخليج ويُهدد الاستقرار في المنطقة، ويزيد من معضلة التوصل إلى صيغة متفق عليها للأمن الإقليمي في ظل غموض النوايا الإيرانية واستمرار الخلاف حول بعض القضايا المتعلقة بالترتيبات الأمنية، وتزايد التصريحات المُتشددة من داخل منظومة صُنع القرار الإيراني والاستمرار باستخدام لفظ (الخليج الفارسي) والتشبث به كمسمى للاستحقاق التاريخي للخليج من جانب إيران استكمالاً لمفهوم الدور الإقليمي لإيران بما يُعمق من الخلافات ويوسع الهوة بينها وبين جيرانها من دول مجلس التعاون. 
 
 
من الواضح أن المشروع النووي، لا ينفصل عن مشروع الهيمنة الإيراني، أي إنه أداة لتعزيز نفوذها ودورها، لأن إيران فعلياً لا تحتاج إلى الطاقة النووية بصورة ملحة كما تدعي، فإيران تملك ثاني أو ثالث أكبر احتياطي للنفط في العالم، وثاني أكبر الاحتياطيات من الغاز الطبيعي، أي إن لدى إيران ما يكفي من الموارد المحلية لأكثر من 400 عام، وحسب دراسات عدة، قام بها أكاديميون إيرانيون، فإن تكلفة إنتاج وتوزيع الطاقة النووية سترتفع بنسبة 27% من تكلفة إنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية التي تولدها محطات النفط والغاز، أو الطاقة الكهرومائية، من دون ذكر مشاريع الطاقة الشمسية. كما أن الأمر الأكثر خطورة والذي يمثل قلقاً لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من المشروع النووي الإيراني، هو أن محطات الطاقة النووية في إيران كلها تقع ضمن منطقة زلزالية تعتبر الأكثر نشاطاً في العالم، وإذا وقع زلزال مدمر لا قدر الله، فإنه سيحدث ضرراً كبيراً للبيئة في المنطقة، وتبقى المشكلة حينها بلا حل. 
وقد مثلت القمة الأمريكية-الخليجية في منتجع كامب ديفيد الرئاسي في شهر مايو 2015 مناسبة لمناقشة هذه المخاوف، وجاء البيان الختامي الذي صدر عن هذه القمة معبراً عن هذه المخاوف، فقد أكد على تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن الخليج عسكرياً، والتصدي الجماعي لأنشطة إيران التي تزعزع استقرار المنطقة، كما شدد على ضرورة التثبت من البرنامج النووي الإيراني، وأنه مخصص لأغراض سلمية. 
 
 
إيران وأزمات الدول العربية
حينما اندلعت أحداث ما سمي «الربيع العربي»، حاولت إيران توظيفها لصالحها، واعتبرتها أنها امتداد للثورة الإيرانية، أو «صحوة إسلامية» في المنطقة، كما أطلق عليها المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي. ولكن هذا التفسير لم يكن مقبولاً لدى الشعوب العربية التي شهدت احتجاجات وتوترات داخلية. كما أن الموقف الإيراني المتناقض من هذه الأحداث كشف انتهازية إيران، وأكد أن المصلحة هي التي تحركها.
 
 
خاتمــــــة
في ضوء ما سبق، يمكن الخروج بعدة ملاحظات، أولها أن التوتر في العلاقات العربية-الإيرانية هو سياسي واستراتيجي، ولا يمكن فصله عن الميراث التاريخي للعلاقات بين الجانبين، فضلاً عن الخلافات حول القضايا السابق الإشارة إليها. ثانيها أن رؤية إيران لدورها الإقليمي، ومساعيها نحو الهيمنة والسيطرة، كانت عاملاً رئيسياً في تزايد حدة الصراع بين إيران ومحيطها العربي. ثالثها في الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى إلباس بعد مذهبي وديني لصراعها مع العالم العربي، وتصوير نفسها على أنها تحمل لواء الدفاع عن الشيعة، لتحقيق أهدافها السياسية في السيطرة والاستحواذ والهيمنة، فإنه لا ينبغي الانجرار وراء هذه النظرة الضيقة التي تخفي وراءها أهداف مصلحية وسياسية بحتة، بل ينبغي العمل على كشف زيف هذه الرؤية الإيرانية التي تتسم بالازدواجية والتناقض، فالعرب يتمسكون في علاقتهم بإيران بمبادئ حسن الجوار، ويحترمون سيادتها ولا يتدخلون في شؤونها، بل ويعترفون بأنها دولة جارة ودولة مهمة في المنطقة، وعلى إيران إذا أرادت أن تتعايش مع محيطها العربي، أن تتبنى النظرة نفسها، وأن توقف تدخلاتها في الشئون العربية، وأن تسعى إلى حل الأزمات العالقة مع بعض الدول العربية بالطرق السلمية والقانونية، وأن تتوقف عن توظيف العامل الديني والمذهبي من أجل التمدد في المنطقة، وأن تعلي من قيم التعاون البناء مع دول المنطقة، حتى يعم الأمن والاستقرار على الصعيد الإقليمي.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-04-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره