مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2025-02-04

بوليروكلمة السر في غزو نورماندي

الحرب العالمية الثانية تبوح بأسرارها

على ممر العصور، يمثل الإمداد العنصر الحاسم في كل الحروب، ويعد «كلة السر» في تحقيق أهدافها، ولعل عمليةOVERLORD، التي انطلقت في 6 يونيو 1944 الذي يوافق يوم الإنزال في نورماندي(D-Day) تمثل أكبر دليل على هذه الحقيقة.
فلقد كانت هذه العملية؛ التي تعد أكبرَ عمليةٍ برمائيةٍ عرفها التاريخ، نقطة تحول حاسمة في الحرب العالمية الثانية؛ لأنها فتحت جبهة غربية واسعة ضد ألمانيا النازية ومثلت بداية تحرير أوروبا الغربية وإنهاء الحرب العالمية الثانية.

وهنا نلقي الضوء على هذه العملية وإبراز أهم التحديات التي واجهت التخطيط لها، إضافة إلى مراحل تنفيذها، واستخلاص بعض الدروس للمستقبل.
بداية، تم التخطيط للعملية على نطاق غير مسبوق من الناحية اللوجستية، شمل تنسيقاً هائلاً بين القوات الأمريكية والبريطانية وباقي الدول المشاركة في التحالف من جهة، وبين القوات البرية والجوية والبحرية من جهة أخرى، حيث تم نقل مئات الآلاف من الجنود والمعدات عبر القنال الإنجليزي.

كانت عمليةOVERLORD بمثابة مهمة مذهلة لم تتم تجربة مثلها من قبل، وكانت مصحوبة عملية مضنية للتحضير وبناء وتجهيز وتحريك القوات للإبرار، وكانت مدعومة بخطة الخداع الشهيرة بعملية  BODYGAURD.
كان الدور الحاسم الذي لعبه عنصر الإمداد مرتَكزاً أساسياً لنجاح الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة في عملية« OVERLORD »، فقد عكس التفوق المادي للحلفاء والفارق الهائل في القدرات اللوجستية بين قوات الحلفاء والمحور.
فالحلفاء لم يحققوا النصر عبر التفوق العسكري المباشر فقط، بل بفضل الأعداد الضخمة للإمدادات التي تضمنت الأسلحة، والذخائر، والمواد الغذائية، والمعدات اللازمة لإدامة الحرب.
وهذا ما يحيلنا إلى حقيقة مفادها أن الحروب الحديثة ليست فقط مواجهات بين الجنود في الميدان، بل هي أيضاً «حرب مواد» أو كما أسماها الألمانMaterialschlacht ، أي معركة الإمدادات. أطلق على الخطة اللوجستية لتجهيز وتحريك وتوصيل المواد والقوات اسم« BOLERO».
وهنا، يبرز التنسيق بين التخطيط الاستراتيجي والتخطيط اللوجستي وتزامنهما ليكون في مقدمة الدروس التي تقدمها العملية.

فقد أدرك الرئيس الأمريكي روزفلت والقيادة العسكرية العليا أن النجاح في العمليات يعتمد على تكامل التخطيط الاستراتيجي واللوجستي. وأدركوا أنه دون توفير الإمدادات والقوات في الوقت المناسب وبالكميات المطلوبة، لن يكون للاستراتيجيات العسكرية أي جدوى. لذلك، أكد الرئيس بنفسه على ضرورة تزامن التخطيط في كلا المجالين لضمان تنفيذ العمليات بكفاءة وفعالية.
كان الهدف الرئيسي لعمليات الإمداد في خطةBOLERO هو حشد القوة في المملكة المتحدة وإنشاء قاعدة آمنة قريبة من العدو يمكن من خلالها توفير ودعم العمليات البرية والجوية بسهولة. وكان من ضمن الأسباب التي رجحت اختيار مواقع عمليةOVERLORD اعتبارها موطئ قدم للجبهة الغربية لجهود الحلفاء، وتأسيس خط الإمداد من الجزر البريطانية إلى القوات في أوروبا والذي سيكون ضروريًا للحفاظ على الزخم للأمام نحو برلين. في المستوى الاستراتيجي، ترجحت وجهة نظر آيزنهاور بضرورة تركيز الجهود للاستعداد لتنفيذ العملية البرمائية في أوروبا عوضاً عن تشتيت الجهود في مواقع متفرقة من العالم واضاعة الوقت.

لم يكن هذا الأمر سهلا، فقد تعرضت خطةBOLERO للخطر بعد إقرارها مباشرةً، بسبب رغبة روزفلت في إرسال القوات والإمدادات إلى أستراليا قبل تنفيذ عملية  OVERLORD  لعدة أسباب تتعلق بالأوضاع العسكرية في منطقة المحيط الهادئ، أهمها لمجابهة التهديد الياباني وسعي اليابانيين للتوسع فأصبحت أستراليا، القاعدة اللوجستية والاستراتيجية المهمة للحفاظ على خطوط التجارة والاتصال في المحيط الهادئ، مهددةً بالغزو الياباني، كان ذلك ضمن استراتيجية الدفاع عن المحيط الهادئ إضافة لرغبة روزفلت لتحقيق التوازن بين الجبهتين الأوربية والآسيوية.

وبعد ما حصل في بيرل هاربور، كان آيزنهاور واقعا تحت ضغط من الشعب الأمريكي لإعطاء الأولوية للرد على اليابانيين. لكنه تراجع عن رغبته تلك بعد أن تم إقناعه بأن التركيز على أوروبا من خلال عمليةOVERLORD هو مفتاح إنهاء الحرب بسرعة، فتراجع عن قراره لضمان بقاء بناء القوات والإمدادات ضمن جدول خطةBOLERO. تطلب التخطيط لإيصال أكثر من 1.6 مليون من جنود المشاة وأكثر من 5.5 مليون طن من المواد والمعدات الحربية جهدا هائلا من كل واستغرقت تلك الجهود عامين كاملين قبل وصول القوات إلى الرمال وكان يُنقل إلى بريطانيا شهريا ما يقارب 750,000 طن من الإمدادات.
كان من أولى التحديات التي واجهت العملية مسألة تتعلق بالجهة المسؤولة عن القيادة اللوجستية، فقبل إعادة هيكلة القيادة في عام 1943، برز صراع بين قيادة خدمات التزويدThe Service of Supply (SOS)  التابعة لرئاسة الأركان في وزارة الحرب آنذاك، وبين قيادة المسرح في أوروبا التي كانت ترغب في تولي تلك المسؤولية. لم يتم حل المشكلة إلا بعد تولي آيزنهاور قيادة المسرح وتفطنه لأهمية تحقيق السيطرة المركزية على الجانب اللوجستي والإداري، فقام بإعادة تعريف العلاقات القيادية وإعطاءSOS مسؤولية الإشراف على التخطيط الإداري واللوجستي للمسرح. فالحاجة إلى إعادة بناء هيكل القيادة كانت ماسة، لذلك سعى آيزنهاور لبناء منظومة قيادية يمكنها التفاعل بسهولة أكبر مع القيادة البريطانية ما أدى إلى تسهيل مناقشة الخدمات اللوجستية المعقدة لصالح العمليات.

تزامن مع التخطيط لعمليةBOLERO التخطيطُ لعمليةSLEDGEHAMMER ، وهي كانت خطة طوارئ لتنفيذ غزو طارئ في حالة اضطرار الحلفاء للتحرك في وقت أبكر مما كان متوقعاً.
ومنذ بداية التخطيط، توالت وتتابعت التعقيدات والتحديات التي كان لزاما على المخططين معالجتها. كان من ضمنها تعقيداتٌ بسبب القيود المفروضة على المعروض من العمالة البريطانية التي كانت محدودة نتيجة لتجنيد العديد من الرجال في القوات المسلحة. إضافة إلى ذلك، كانت البنية التحتية البريطانية مثقلة بالأعباء، حيث لم تكن موانئ البلاد وسككها الحديدية مهيأة للتعامل مع حجم المعدات العسكرية والجنود القادمين من الولايات المتحدة. كما تفاقمت الصعوبات بسبب النقص الحاد في الشحن البحري، نتيجة لهجمات الغواصات الألمانية التي كانت تستهدف السفن التجارية والعسكرية، ما أعاق نقل المعدات والإمدادات.
هذه العوامل مجتمعة فرضت على المخططين تكييف خططهم واتخاذ تدابير مبتكرة لضمان تنفيذ العملية بنجاح. ثم كانت هناك مسألة توقيت العملية التي كانت أحد النقاط الشائكة التي أثارت عدة أفكار متضاربة إلى أن تم الفصل فيها بصدور «مذكرة مارشالMarshall Memorandum» ، وضحت هذه الوثيقة الأهداف والتوقيت والقوة القتالية والمزايا الاستراتيجية لإطلاق العمليات في شمال غرب أوروبا.

كان التحدي الكبير الذي واجه المخططين هو النقص في سفن الإنزال الضرورية لنقل القوات والمعدات عبر القناة الإنجليزية. وكانت هذه الندرة عاملاً حاسماً في اعتبار العملية غير واقعية في ذلك الوقت. كان السبب الرئيس هو محدودية مركبات الإنزال المتوفرة، إلى جانب القيود الأخرى على الموارد. تم حل المشكلة من خلال عدة إجراءات مثل التوجيه بزيادة إنتاج المصانع، التنسيق بين الحلفاء (تعاونت الولايات المتحدة وبريطانيا لضمان تقاسم الموارد، وقامتا بتجميع أساطيلهما لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة ما أتاح استخدام 4000 مركبة إنزال في يوم الإنزال)، وهناك اجراء آخر تم اللجوء إليه وهو التأخيرات الاستراتيجية حيث تم تأجيل عمليةROUNDUP  (عملية غزو أوروبا عن طريق شمال فرنسا- التي أصبحت فيما بعد أساسا لعمليةOVERLORD) لصالح عملية  TORCH (حملة شمال إفريقيا)،  أتاح هذا الإجراء وقتا لتحسين الإنتاج وتخصيص الموارد. تجدر الإشارة هنا إلى أنه المدة الزمنية التي أتيحت لمخططي عمليةTORCH لم تزد على مئة يوم. إن ندرة موارد الشحن اللازمة لنقل القوات والمعدات والمواد من الولايات المتحدة إلى بريطانيا نشأت كذلك بسبب المتطلبات المتعددة الأوجه المفروضة على أساطيل الشحن التابعة للحلفاء، والتي كانت مكلفة في الوقت نفسه بالحفاظ على خطوط الإمداد لكل من بريطانيا وروسيا. فإضافة للتوجيه المتعلق بتسريع التصنيع، تم اتخاذ إجراءات أخرى مثل مراجعة الأولويات حيث تم إعطاء الأولوية للقوات والإمدادات الأساسية على الشحنات غير الحرجة، وتبني أنظمة القوافلConvoy Systems التي ساهمت في تقليل الخسائر الناجمة عن الغواصات الألمانية، وتم التركيز على مبدأ الشحن في اتجاهين وتكليف السفن العائدة إلى الولايات المتحدة بحمل المواد الخام والمواد لتعزيز كفاءة الشحن في الاتجاهين، مما يزيد من فائدة السفينة.

كان من أهم الدروس المستفادة من عمليةTORCH، أهمية توفر قوائم دقيقة للمواد. تم التخطيط لهذه العملية بحيث أن تتم الاستفادة من المواد المخزنة أساسا لعمليةBOLERO، لكن تبين أنه لم يتم إجراء توثيق دقيق لقوائم المخزونات حيث تم نقل الإمدادات إلى مواقع التخزين بسرعة لتجنب الازدحام وتكديس المواد في مواقع الإنزال وخشية استهدافها، فلم يتوفر الوقت الكافي لإعداد قائمة المواد المستلمة من قوائم المواد التي تم طلبها. ونتيجة لذلك، حصلت الازدواجية في الطلبات التي يحاول كافة مخططو الإمداد تجنبها وتمت إعادة طلب المواد اللازمة لعمليةTORCH وشحنها من الولايات المتحدة. بلغت الكمية المطلوبة من الإمدادات 260 ألف طن من المواد. ثم تنبه الجنرال آيزنهاور إلى خطورة الأمر فعيّن جنرالًا من طاقمه لتركيز كل اهتمامه بشكل مباشر على القضايا اللوجستية والإمدادات.
شكلت عمليةOVERLORD تحديًا هائلًا لقدرات التصنيع الحربي لجميع الأطراف المشاركة في الحرب العالمية الثانية. تطلبت العملية كميات ضخمة من السفن، المركبات، الطائرات، الذخائر، والإمدادات اللوجستية لدعم القوات المقاتلة، ما جعل التصنيع الحربي أحد الركائز الأساسية لنجاح الحلفاء في العملية.

بالنسبة للحلفاء، تم إنتاج آلاف من المركبات البرمائية، وسفن الإنزال، والمعدات العسكرية التي عبرت القنال الإنجليزي، في حين بذلت ألمانيا جهودًا هائلة لتعزيز خطوط الدفاع الساحلية ومواجهة هذا التحدي. أدت هذه المتطلبات إلى تحول الحرب إلى “حرب إمداد”، حيث أصبح التفوق في القدرة على تصنيع ونقل المعدات العسكرية عاملاً حاسمًا. ساهم هذا التحول في إنهاك القوى الصناعية الألمانية، بينما استفاد الحلفاء من مواردهم الهائلة وتنسيقهم الصناعي، مما أدى في النهاية إلى كسر التفوق الألماني وتقريب نهاية الحرب.

من التحديات المهمة التي واجهت المخططين أثناء التخطيط لمرحلة التنفيذ، كيفية الحصول على أرصفة سليمة للتفريغ وتنزيل القوات والمعدات. تمت دراسة احتمال قيام الألمان بتخريب الأرصفة الموجودة أو تدميرها أثناء الإنزال. فتقرر القيام ببناء موانئ اصطناعية بدلا من الاعتماد على الموانئ الموجودة في نورماندي والتي ستكون عرضة للضرر والتخريب، عرفت تلك الموانئ باسم «موانئ مولبيري(Mulberry Harbors)» كحل مبتكر للتغلب على هذا التحدي. تم تصميم هذه الموانئ لتوفير وسيلة فعّالة لتفريغ الإمدادات والمعدات الثقيلة مباشرة على الشواطئ الفرنسية، مما ساهم بشكل كبير في تعزيز العمليات اللوجستية. ساعدت هذه الموانئ الاصطناعية في إنجاح عمليات إنزال القوات والمعدات والمواد ما جعلها أحد العناصر الحاسمة لنجاح العملية.

لم يكن لعمليتيOVERLORD وBOLERO أن تنجحا لولا نجاح خطة الخداع التي زامنت التخطيط لغزو نورماندي لأجل خداع الألمان عن موقع الإنزال الحقيقي. كانت خطة الخداعBODYGUARD إحدى أهم العوامل التي ساهمت في نجاح الإنزال في نورماندي. تم تصميم الخطة لتضليل القيادة الألمانية عن توقيت وموقع الغزو، حيث ركزت على توجيه اهتمام الألمان إلى مناطق أخرى، مثل النرويج وجنوب فرنسا، بدلاً من شواطئ نورماندي، الهدف الحقيقي. تضمنت الخطة استخدام تقنيات متقدمة للخداع، مثل العمليات الاستخباراتية المزيفة، وتزييف تحركات القوات، وبث رسائل مضللة عبر وسائل الاتصال. ساهم هذا التمويه الاستراتيجي في تقليل استعداد القوات الألمانية في نورماندي، مما أتاح للحلفاء تنفيذ إنزالهم الناجح في يونيو 1944 وتحقيق نقطة تحول حاسمة في مسار الحرب.
وختاماً، وبغض النظر عن نوع العمليات الحالية والمستقبلية، لن تتغير حقيقة أن الحرب هي حرب إمدادات في المقام الأول. فعنصر الإمداد هو الذي يوفر عامل إمكانية التنفيذ والواقعية، فلا فائدة من أي خطة غير مستندة على خطة إمداد قابلة للتنفيذ.

 وهنا يأتي مؤشر إمكانية التنفيذ(logistic feasibility)، وهذا يفسر لجوء الحلفاء إلى التأجيل أو إرجاء تنفيذ بعض العمليات متى ما فقد هذا المؤشر.
وتؤكد عمليةBOLERO على أهمية التدريب والتمارين المشتركة والتعارف بين الأركانية خاصة لدى العمل مع الحلفاء. وهناك نقطة مهمة تتعلق بنظام تحديد الأولويات، فنادرا ما تكون كافة الموارد متوفرة لتلبية كافة المتطلبات، تؤكد هذه النقطة على ضرورة اشتراك مخططي الإمداد مع مخططي العمليات خاصةً في المستوى الاستراتيجي لتحديد الأولويات. تجدر الإشارة إلى أن تحديد أولويات الجهد اللوجستي هو عامل مشترك بين كافة المخططين وعلى كافة المستويات شاملة المستويين العملياتي والتعبوي. من الدروس المهمة، أهمية عدم تجاهل ضرورة تزامن التخطيط اللوجستي مع التخطيط الاستراتيجي لضمان توفر المواد في الوقت المطلوب وعدم إعاقة تنفيذ العمليات، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تقليل المخاطر المرتبطة بتجنب الوصول لنقاط الذروة ونقص الإمدادات أو التأخير في التنفيذ وتعزيز فرص النجاح. وتأتي ختاماً أهمية دقة المعلومات وتجنب الازدواجية في الطلبات، وفي عصرنا تساهم أنظمة إدارة البيانات اللوجستية وأنظمة تتبع المواد على الحد من هذه النقطة المؤدية إلى حصول هدر في الموارد والقدرات.


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره