مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2025-03-02

كلاوزفيتز يجيب التاريخ العسكري .. توثيق للأحداث أم وسيلة واقعية لفهم الحروب؟

رؤى عميقة حول طبيعة الحرب واستراتيجياتها، يقدمها كارل فون كلاوزفيتز المنظِّر الألماني الشهير في كتابه «عن الحرب» On Warوالذي يعدّ أحد أهم منتجات الفكر العسكري في العالم، ومرجعاً أساسياً لفهم الأحداث العسكرية الكبرى في سياقاتها السياسية والاجتماعية، ودليلًا مفيداً للمعنيين بتدريس علم الحرب لتقديمه تأطيراً نظرياً لفهم العلاقة بين الحرب والسياسة.

إعداد: اللواء م خالد علي السميطي
وحالياً، يعتبر الكتاب مرجعاً لا غنى عنه في الكليات والمعاهد العسكرية، خاصة في الدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا التي اعتمدته في مختلف مستويات التعليم والتدريب كمرجع لبناء استراتيجيات متقدمة وتعزيز القدرات الفكرية لطلابها العسكريين.
في كتابه، يؤكد كلاوزفيتز أن الحرب ليست إلا امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى؛ ما يساعد في اتخاذ قرارات مدروسة قائمة على تحليل متكامل للتهديدات والأهداف، ويحث القادةَ العسكريين والطلابَ على اتباع منهجية فكرية مرتكزة على التفكير الاستراتيجي والتحليل النقدي.

وكعادة اتباع المدرسة البراجماتية في البحث عن إجابة للسؤال المعتاد: هل نقوم بالأمور بالطريقة الصحيحة أم هناك خطأ ما؟ بلغة أخرى، كعادتهم في تحيّن الفرص لإجراء مراجعات وتحليل للوضع القائم للتأكد من مدى ملائمة المناهج المتبعة لمستجدات العصر ومطابقتها للأهداف التعليمية، وللبحث عن مجالات التطوير ثم رفع التوصيات ووضع الحلول للتغلب على سلبيات الوضع الحالي إن وجدت.
في هذا السياق، نشر في عدد شتاء 2024 - 25 منParameters (مجلة دورية) لكلية الحربة التابعة للجيش الأمريكي دراسةً قدمت تحليلاً للطريقة التي تتم بها دراسة التاريخ العسكري في الولايات المتحدة، واستكشاف الفوائد والتحديات التي تواجه هذا المجال الأكاديمي.
كان الهدف من الدراسة عرض جوانب من الوضع القائم تستدعي التطوير وتحفيز نقاشٍ حول تحسين دراسة التاريخ العسكري، وتعزيز فائدتها للجيش والمجتمع الأكاديمي على حد سواء، مع التأكيد على أهمية الحياد والتحليل الدقيق لتجنب التأثيرات الثقافية أو المؤسسية التي قد تضعف الهدف الأساسي لهذه الدراسات.

وهنا، نقارن بين «مدرسة كلاوزفيتز الفكرية» التي تركز على التاريخ كأداة لتطوير التفكير الاستراتيجي والتحليل النقدي، وبين واقع دراسة تاريخ الحرب في المدرسة الأمريكية المعاصرة التي تواجه تحديات في الجمع بين العلم الأكاديمي والتطبيق العملي وتسليط الضوء على الفجوات الموجودة بين المؤرخين الأكاديميين والعسكريين، ثم البحث في كيفية تحسين دراسة التاريخ العسكري لتلبية احتياجات الحاضر والمستقبل مع الحفاظ على الحيادية والموضوعية.

أداة حيوية للفهم
يرى المفكر الألماني أن دراسة التاريخ العسكري ليست مجرد توثيقٍ للأحداث، بل هي وسيلة لفهم المبادئ الأساسية للحرب والتعلم منها لتحسين القرارات الاستراتيجية والتكتيكية، وتعد دراسة التاريخ أداة حيوية لتطوير التفكير الاستراتيجي. شدد كلاوزفيتز على أهمية التعامل معه بتعقل وذكاء ونقد لتجنب التعميم بلا مسوغ أو وكذلك لتجنب الاستنتاجات المضللة.
كما يؤكد على أهمية التعلم من التجارب السابق، مشدداً على أن دراسة التاريخ تساعد القادة العسكريين على التعرف على أنماط الصراعات، وكيفية مواجهة التحديات، وتجنب الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي، الأمر الذي يعتبر من أهم الفوائد المتوخاة من دراسة التاريخ.
أما الأمثلة التاريخية فيراها مفيدة جداً لتوضيح الأفكار النظرية المعقدة، حيث يمكن للقادة الاستفادة من حالات معينة لفهم تطبيق المبادئ العسكرية في الواقع.

وفي هذا الصدد، يقول كلاوزفيتز: «إن دراسة التاريخ العسكري تُظهر لنا أفعال القادة العظام والنتائج التي حققوها، لكنها لا تمنحنا قواعد صارمة يمكن تطبيقها مباشرة. على القائد أن يستخلص المبادئ بنفسه وأن يفهم الظروف المتغيرة لكل حالة؛ لأن التاريخ يوفر أمثلة، ولا يوفر وصفات جاهزة».
 يدل هذا القول على أهمية استخدام التاريخ كمصدر للإلهام، لا أن يؤدي إلى جمود أو تصلب في الفكر، فهو يدعو إلى استخدام التاريخ لفهم طبيعة الحرب بشكل أعمق، بما في ذلك العوامل السياسية والاجتماعية والنفسية التي تؤثر على الصراعات. فالتاريخ عبارة عن وسيلة لتحليل الحرب، وينبغي عدم التقيّد الحرفي بالتاريخ، ومن المهم التأكيد على أن كل حرب فريدة من نوعها وأن الظروف تتغير باستمرار، مما يتطلب مرونة في التفكير.

التاريخ في أمريكا.. تحليل مفصل
قدم مايكل فيرغسون في مقاله «The American Way of Studying War: What Is It Good For?»، تحليلاً مفصلاً للوضع القائم لتدريس التاريخ في الولايات المتحدة العصر الحالي، الذي يواجه تغيرات كبيرة والتحول من التركيز التقليدي على المعارك والعمليات إلى تناول الجوانب الاجتماعية والثقافية للحرب.
ويُعرف هذا الاتجاه بـ «التاريخ العسكري الجديد»، ويهدف إلى فهم أوسع للأبعاد المختلفة للحروب بما يتجاوز الجوانب التكتيكية والعملياتية.
ظهر هذا الاتجاه في منتصف القرن العشرين وتمحور حول تجاوز النهج التقليدي للتاريخ العسكري الذي كان يركز بشكل أساسي على وصف المعارك، والتكتيكات، والاستراتيجيات، وأفعال القادة العسكريين.

بدلاً من ذلك، يسعى هذا النهج إلى استكشاف الأبعاد الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية للحرب، مع التركيز على تأثير الحروب على المجتمعات، والمؤسسات العسكرية، والأفراد. كانت هناك عدة متغيرات ودوافع قد أدت لبروز هذا الاتجاه، منها تغير الأولويات الأكاديمية، فقد انتبه المؤرخون إلى أن الحروب ليست مجرد مواجهات عسكرية بل هي أحداث كبرى تؤثر في المجتمعات بأكملها.
دفع هذا الإدراك إلى البحث في كيفية تأثير الحروب على النسيج الاجتماعي والاقتصادي، وكيف شكلت الهويات الوطنية والثقافات.

ومع انتهاء الخدمة العسكرية الإلزامية في منتصف القرن العشرين في كثير من الدول الغربية، ركز الباحثون على طرح أسئلة حول الدوافع التي تجعل الأفراد يخدمون طوعًا في الجيوش الديمقراطية، وكيف أثرت الخدمة العسكرية على حياتهم كمحاربين ومدنيين بعد الحرب. شمل التاريخ العسكري الجديد دراسة موضوعات مثل تأثير الحرب على العلاقات بين الجنسين، والتغيرات في الأدوار الاجتماعية، والتوترات العرقية، وتأثير الحرب على الطبقات الاقتصادية المختلفة.
استفاد التاريخ العسكري الجديد من مناهج العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، لتوسيع نطاق الدراسة وتحليل تأثيرات الحروب من زوايا متعددة.
وبإجراء مقارنة بين النهجين، يتضح أن التاريخ العسكري التقليدي يركز على دراسة النجاحات والإخفاقات العسكرية فقط، بينما يسعى النهج الجديد إلى فهم العمليات العسكرية كجزء من سلسلة من التغيرات الاجتماعية والسياسية.

يشهد المشهد الأمريكي حالياً تحدياتٍ أكاديمية، فهناك انقسام بين المؤرخين الأكاديميين والمؤسسات العسكرية، حيث يُنتقد المؤرخون الأكاديميون أحياناً لابتعادهم عن احتياجات القادة العسكريين، بينما تُعتبر التواريخ الرسمية (بقصد بـالتواريخ الرسميةOfficial Histories: الكتب أو التقارير التأريخية التي تُنتَج أو تُشرف عليها المؤسسات الحكومية أو العسكرية لتوثيق الأحداث العسكرية أو السياسية الكبرى من منظور رسمي) التي تنتجها المؤسسات العسكرية مقيدة بأجندات سياسية ومعايير حكومية.

تكمن الفجوة في الاختلاف بين أهداف كل طرف وطريقة تعامله مع دراسة التاريخ العسكري. يرى المؤرخون العسكريون في ميل المؤرخين الأكاديميين للتركيز على الجوانب النظرية والتحليلية للتاريخ العسكري، مثل تأثير الحروب على المجتمع، السياسة، والثقافة، يرون في ذلك ابتعادا عن الواقع العملي، فذلك لا يقدم حلولًا مباشرة للتحديات التي تواجههم في التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات في ساحة المعركة.
هناك تحدٍ آخر يرجع للقيود المفروضة على التواريخ الرسمية، فالتي تنتجها المؤسسات العسكرية غالباً ما تكون موجهة لتوثيق الإنجازات والعمليات العسكرية بأسلوب يراعي المصالح المؤسسية والوطنية.

ويرى العسكريون أهمية تضمين وجهات نظر متعددة، مثل العدو والشعوب المحلية، لضمان تحليل شامل، بينما يميل الأكاديميون للانتقاء.
تخضع التواريخ لضغوط سياسية وقواعد نشر صارمة تهدف إلى حماية صورة المؤسسة العسكرية، مما قد يؤدي إلى تجاهل أو تحريف الجوانب السلبية، مثل الأخطاء التكتيكية أو القرارات السياسية المثيرة للجدل.

وفي هذا الصدد، تشير بعض التقارير إلى أن بعض التواريخ العسكرية الرسمية تُستغل لتخفيف حدة النقد الموجه للقرارات السياسية أو الاستراتيجيات العسكرية. ومن هذا ما بينته الدراسة حيث إن تواريخ الحروب الحديثة مثل حرب العراق واجهت تأخيرات وصعوبات في النشر بسبب الضغط السياسي أو عدم الرغبة في انتقاد قرارات القادة. نتيجة لذلك، قد تصبح هذه التواريخ غير موثوقة بشكل كامل للباحثين الذين يسعون إلى فهم شامل وموضوعي للحروب.

محصلة ذلك تتلخص في تأثر دراسة التاريخ العسكري بفعل ذلك الانقسام، فهناك ضعف في التعاون بين الأكاديميين العسكريين والمؤسسات الأكاديمية، مما يقلل من جودة الأبحاث التي يمكن أن تجمع بين النظرية والتطبيق. ومن جهة أخرى، يعيق هذا الوضع عملية التطوير المهني، فالعسكريون يفقدون فرصة التعلم من الأبحاث الأكاديمية العميقة، بينما يفقد المؤرخون المدنيون فرصة فهم الاحتياجات العملية للجيوش.   

توصيات الدراسة
لفتت الدراسة إلى ضرورة القيام ببعض الإصلاحات للارتقاء بالوضع وتطوير دراسة التاريخ في المؤسسة العسكرية نظراً للأهمية القصوى لمادة التاريخ التي لا ينكرها أحد.
ودعت إلى ضرورة العمل لتقليل الفجوة بين المؤرخين العسكريين والمدنيين من خلال التعاون الأكاديمي لتطوير رؤى أعمق وأكثر تنوعاً حول التاريخ العسكري.

كما حثت على إعادة النظر في الأهداف المؤسسية للتاريخ العسكري، بالتركيز على فهم الماضي بدلاً من استخدام التاريخ لتبرير السياسات الحالية أو الترويج لأجندات معينة، مما يتطلب دراسة نقدية للتقاليد العسكرية الأمريكية وتأثيرها على البحث التاريخي.
وأوصت بتوسيع نطاق البحث العسكري والدعوة إلى استكشاف الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للحرب، وليس فقط التركيز على التكتيكات والمعارك، لتوفير رؤية شاملة لتأثير الحروب

إضافة لذلك، أكدت الدراسة أهمية تعزيز الحيادية في كتابة التاريخ العسكري: والسعي لتحرير التاريخ العسكري من الضغوط السياسية والمؤسسية التي قد تؤدي إلى تحريف الحقائق أو تقديم روايات أحادية، كما أكدت أهمية تطوير برامج تعليمية للمؤرخين العسكريين ودعم البرامج التعليمية.
وحثت الدراسة على  توسيع مجال التعددية في المناهج التعليمية، ويكون ذلك بتضمين وجهات نظر كافة الأطراف في كتابة وتدريس التاريخ العسكري

كلاوزفيتز والواقع في أمريكا.. مقارنة هامة
بغض النظر عن التحديات التي تطرقت لها الدراسة والتي تواجه دراسة تاريخ الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تمثل وضعاً أمريكياًخاصة بفعل التجاذبات والاستقطابات السياسية، توجد هناك عدة نقاط مهمة لا بد من انتباه كافة الجهات المعنية بدراسة التاريخ في الدول الأخرى مثل المؤسسة العسكرية والجامعات والكليات.

ومن الجدير بالذكر أنّ رأيَ المفكر الألماني فيما يتعلق بأهمية دراسة تاريخ الحرب وفائدته الكبيرة للقادة على كافة المستويات، يمثل الرأيَ السائدَ –عالميا- والمخالفَ لمن يرى محدوديةَ فائدةِ ذلك، مثل الفيلسوف ديفيد هيوم، والفيلسوف وعالم الاجتماع المعروف هربرت سبنسر، صاحبِ نظرية «البقاء للأصلح»، والذي أُثر عنه وصفَه للأعمال التاريخية بأنها تصلح «للتسلية»، فقط ولا تقدم فائدة مباشرة لتحسين الفهم، إلا أن التيار السائد من المفكرين شرقاً وغربا، قديماً وحديثاً يؤيدون نظرة كلاوزفيتز للتاريخ.

نقاط مستخلصة
مما يمكن استنتاجه من المقارنة بني مدرسة كلاوزفيتز وواقع دراسة الحرب في أمريكا، هو أهمية اجراء مراجعة شاملة لمنهجية دراسة التاريخ في الكليات والمعاهد والمدراس ذات الصلة والبحث عن الفجوات ثم العمل على معالجتها، مع التأكيد على دراسة التاريخ لفهم الماضي بشكل نقدي والاحتراز من استخدامه كأداة لتبرير السياسات الحالية، إضافة لتأكيد تطوير المناهج لتشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للحروب، وليس فقط الجوانب التكتيكية.

ومما يستنتج أيضا، تشجيع تطوير الشراكات بين الجامعات والكليات والمؤسسات العسكرية لتطوير مناهج تدمج بين البحث الأكاديمي والتجربة العملية، واستغلال الشراكة من أجل تنظيم ورش ومؤتمرات تجمع المؤرخين والعسكريين لمناقشة القضايا المشتركة.
إضافة لذلك، يأتي الاهتمام ببرامج التدريب المتقدمة للمؤرخين العسكريين وتطوير مسار وظيفي خاص لهم، مع التركيز على تفعيل دور المؤرخ في العمليات والمهام المشتركة، وبناء منظومة تعليمية متكاملة للتاريخ العسكري تكون قادرة على تلبية احتياجات المؤسسات العسكرية والأكاديمية.

 الخلاصة
ختاماً، تتطلب دراسة التاريخ العسكري مراجعات عميقة لتحقيق التوازن بين التحليل الأكاديمي والتطبيق العملي، فيما ينبغي أن تتجاوز المناهج التعليمية التركيز التقليدي على الأحداث والمعارك لتشمل فهماً أوسع للجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية المرتبطة بالحروب.  
ولتحقيق ذلك، فإنه من الضروري تعزيز التعاون بين الأكاديميين والقادة العسكريين، واعتماد نهج نقدي لتحليل الماضي بعيداً عن التحيزات السياسية أو المؤسسية.
كما يجب تطوير برامج تعليمية تدمج بين الفكر النظري والخبرة العملية، مما يُسهم في خلق معرفة أكثر شمولية تدعم استراتيجيات المستقبل وتلبي احتياجات الميدان العسكري.
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2025-05-30 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره