استطلاع الرأى
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
- ممتاز
- جيد جداً
- جيد
رغم أن مراقبين يرون أنها بلغت أميال الأخيرة؛ خاصة مع التوجهات الحالية للإدارة الأمريكية والتقارب بينها وبين القيادة الروسية، إلا أن «الأزمة الأوكرانية» لا تزال تمثل واحدة من أهم النزاعات وأكثرها تأثيراً في القرن الحادي والعشرين؛ لمساهمتها في إعادة تشكيل العديد من المفاهيم العسكرية التي كانت سائدة في الحروب التقليدية.
لا تقتصر هذه الحرب على كونها مجردَ صراع مسلح بين دولتين، بل حقلَ تجارب ومختبراً حقيقياً للاستراتيجيات العسكرية المتغيرة، يرجع هذا لتداخل عناصر الحرب التقليدية مع الاستخدام المكثف للأنظمة المسيرة، والذكاء الاصطناعي وحرب المعلومات، إضافة إلى اعتماد غير مسبوق على المرتزقة والتدخلات الخارجية؛ الأمر الذي أدى لبروز مجموعة من الدروس العسكرية المهمة، ليس فقط لأطراف النزاع، ولكن لكافة الجهات العسكرية المتابعة لتطورات هذه الحرب عن كثب.
وبعد مرور ثلاثة أعوام على الحرب، يمكن استخلاص عدة دروس من خلال تحليل مسارها، تأتي أهمية تحقيق التفوق الجوي في ساحة المعركة، ودور التكنولوجيا والاستخبارات في تعزيز القدرة القتالية، والتحديات اللوجستية التي تؤثر على استدامة العمليات العسكرية، في مقدمة تلك الدروس، فضلاً عن تحول الأدوار القتالية للمرتزقة وتأثيرها على مسار الحرب، سيتم استعراض هذه الدروس بقصد الاستفادة منها في التخطيط العسكري المستقبلي في تقييم وإعادة تشكيل استراتيجيات القتال في النزاعات المحتملة في المستقبل.
التفوق الجوي شرط أساسي
أكدت الحرب في أوكرانياً، منذ اندلاعها وحتى اليوم، أن التفوق في المجال الجوي يمثل عاملاً حاسماً لتحقيق النجاح العسكري على الأرض، فيما لا تزال القوة الجوية تلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار العمليات البرية.
فما زالت هذه الحرب تؤكد أن امتلاك تفوق جوي فعّال يُمَكِّن القوات البرية من التحرك بحرية وأمان. ومع ذلك، كشفت هذه الحرب أيضاً عن صعوبة تحقيق هذا التفوق في بيئة مشبعة بأنظمة الدفاع الجوي المتطورة.
فعند التأمل في استخدام الأنظمة الصاروخية الدقيقة مثل «هيمارس»، نجد أنها نجحت في إثبات فعاليتها في دعم الهجمات الأوكرانية، لكنها لم تكن كافية لتحقيق اختراقات استراتيجية كبيرة نظراً لعدم تمكن أوكرانيا من تحقيق السيطرة على الأجواء.
وقد أدى الاعتماد المتبادل على أنظمة الدفاع الجوي من قبل الجانبين إلى حالة يمكن وصفها بـ«توازن جوي سلبي»، أو ما يسميه بعض المحللين «حرب الخنادق الجوية»، حيث لم يتمكن أي طرف من فرض هيمنة جوية مطلق؛ ما أدى إلى الحد من قدرة القوات البرية على تحقيق تقدم حاسم.
ومما يجدر التطرق إليه، أن الحرب الحالية أظهرت أهمية المزج بين الهجوم والدفاع لتحقيق التفوق الجوي، فتحقيق التفوق الجوي لا يمكن أن يعتمد على الدفاع وحده، بل يتطلب مزجًا بين القدرات الهجومية والدفاعية.
من زاوية أخرى، شهدت هذه الحرب تحولاً ملحوظاً في أساليب القتال الجوي، حيث لم يعد التفوق في الأجواء يعتمد فقط على الطائرات الحربية المأهولة وأنظمة الدفاع الجوي التقليدية، بل برزت عناصر حاسمة في ساحات القتال مثل الطائرات المسيرة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وقد أدى هذا التطور إلى توسيع نطاق العمليات الجوية؛ ما جعلها تعتمد بشكل أكبر على السرعة، الدقة، والقدرة على التكيف مع بيئة المعركة المتغيرة، الأمر الذي انعكس على الاستراتيجيات العسكرية المتبعة في الحرب.
الطائرات المسيرة
قدّمت الحرب الروسية الأوكرانية نموذجاً واضحاً لكيفية دمج التكنولوجيا الحديثة في العمليات القتالية، الأمر الذي غير طبيعة المواجهات العسكرية فأصبح من الواضح أن التفوق في ساحة المعركة مرتبط بقدرة الجيوش على استخدام الأنظمة المسيّرة، والبرمجيات الذكية والأدوات التكنولوجية المتاحة تجاريًا، والذكاء الاصطناعي لتعزيز فعالية العمليات العسكرية وتحقيق مكاسب استراتيجية.
ولقد لعبت الطائرات المسيّرة دورًا محوريًا في مجريات الحرب، حيث استخدمتها أوكرانيا وروسيا لتنفيذ هجمات دقيقة، والاستطلاع، وإضعاف دفاعات العدو.
على الجانب الأوكراني، اعتمدت كييف على طائرات «بيرقدارTB2» التركية، التي أثبتت فعاليتها في ضرب القوافل العسكرية الروسية وتوجيه المدفعية، كما استخدمت طائرات مسيرة انتحارية لمهاجمة مواقع العدو دون الحاجة إلى إرسال قوات بشرية إلى مناطق الاشتباك. في المقابل، لجأ الروس لاستخدام طائرات «شاهد-136» الإيرانية، التي صُممت كطائرات انتحارية منخفضة التكلفة قادرة على استهداف البنية التحتية، مثل محطات الطاقة والجسور.
بالمقابل، اعتمدت موسكو على طائرات «أورلان-10» المزودة بأنظمة استطلاع وتشويش إلكتروني لتعطيل الاتصالات الأوكرانية؛ ما ساعد في الحد من قدرات كييف على تنسيق عملياتها العسكرية.
كما نفذت روسيا هجمات على البنية التحتية الأوكرانية، خصوصاً أنظمة الطاقة، في محاولة لتعطيل عمليات التزويد وإضعاف القدرات القتالية لكييف، فيما أدى استخدام الروس للمسيرات إلى استنزاف منظومات الدفاع الجوي الأوكرانية وإجبارها على استخدام صواريخ باهظة الثمن مثل «باتريوت» للتصدي لمسيرات منخفضة التكلفة، مما أحدث خللًا في التوازن الدفاعي الأوكراني.
وكان أحد أهم أدوار الطائرات المسيرة دور الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية، فغدت المسيرات مصدراً لتوفير بيانات آنية عن تحركات العدو.
وفي هذا المجال، اعتمدت القوات الأوكرانية على طائرات «بيرقدارTB2» آنفة الذكر كذلك لتنفيذ مهام استطلاعية مكثفة؛ ما مكنها من كشف تحركات القوات الروسية إضافة لمهام توجيه المدفعية والصواريخ. كذلك، استخدم الأوكرانيون طائراتDJI Mavic 3 التجارية المعدلة لأغراض استطلاعية، مما وفر معلومات استخباراتية دقيقة بكلفة زهيدة مقارنة بالأنظمة العسكرية التقليدية.
التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي
أصبح الذكاء الاصطناعي عنصراً رئيساً ساعد في تحسين العمليات القتالية، حيث ساهم في توفير تحليلات دقيقة للبيانات الجوية وتحديد الأهداف العسكرية بسرعة وفعالية دون تدخل بشري مباشر أو بتدخل محدود.
من المتوقع أن تشهد الحروب المستقبلية اعتمادًا متزايدًا على هذه التقنيات سيؤثر في تشكيل استراتيجيات القتال الجوي والقدرات العسكرية للدول.
فإلى جانب المسيّرات، استخدمت أوكرانيا برمجيات متطورة لتنسيق العمليات العسكرية وتحليل البيانات الاستخباراتية؛ ما مكنها من تعويض التفوق العددي الروسي نسبيا عبر تعزيز دقة الضربات العسكرية.
كان أحد البرامج«Kropyva»، وهو نظام خرائط رقمي يسمح للقادة العسكريين بتحديث مواقع العدو في الوقت الفعلي، وتحليل البيانات، وتوجيه الضربات بناءً على معلومات دقيقة.
كما استفادت أوكرانيا من أقمار «ستارلينك» الصناعية التي وفرت اتصالًا غير منقطع بوحداتها العسكرية، حتى في المناطق المعرضة لهجمات سيبرانية أو تشويش.
وتمكنت الطائرات المسيرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي من اتخاذ قرارات تكتيكية ذاتية أثناء القتال، مما ساعد في تنفيذ عمليات معقدة دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر.
كما استخدمت برمجيات مفتوحة المصدر، مثل«Delta»، التي مكنتهم من مزامنة بيانات المعركة بين الوحدات المختلفة وتحسين التنسيق العسكري. إضافة إلى ذلك، اعتمد الأوكرانيون على بيانات من شركات مثلPalantir وPlanet Labs التي قدمت صورًا دقيقة باستخدام الأقمار الصناعية.
إضافة لما تقدم، أصبح من الواضح أن الهجمات السيبرانية باتت جزءاً أساسياً من المعركة الحديثة، حيث نفذت أوكرانيا عمليات اختراق إلكتروني لتعطيل أنظمة الاتصالات الروسية، واستفادت أوكرانيا من دعم شركات تقنية عالمية مثلGoogle وMicrosoft لتعزيز دفاعاتها السيبرانية، بينما استخدمت روسيا قدراتها السيبرانية لاستهداف البنية التحتية الأوكرانية وشن هجمات على شبكات الطاقة والمعلومات الحيوية.
يدل هذا الأمر على وجوب النظر للحرب الحديثة بكونها مزيجاً من الذكاء الاصطناعي والقنية المتقدمة والأنظمة المسيرة في دلالة على تحول كبير في أساليب القتال التقليدية، حيث أصبح استخدامها عنصراً رئيساً في العمليات القتالية.
ومع استمرار تطور هذه التقنيات، من المتوقع أن تفرض نفسها بشكل كبير على المستقبل، حيث سيعتمد النجاح العسكري بشكل متزايد على قدرة الدول على توظيف التكنولوجيا الذكية في إدارة المعارك وتحقيق التفوق المعلوماتي والتكتيكي.
دور المرتزقة في النزاعات الحديثة
لعب المرتزقة دوراً حيوياً في هذه الحرب، خاصة من الجانب الروسي الذي اعتمد على مجموعة «فاغنر» بشكل مكثف. وقد استخدمت روسيا المرتزقة لتحقيق أهداف متعددة، منها تنفيذ عمليات هجومية مكثفة دون الالتزام بالقوانين الدولية.
اعتمدت «فاغنر» بشكل كبير على تجنيد السجناء كوحدات قتالية في معارك مثل معركة «باخموت»، والتي شهدت خسائر بشرية ضخمة بلغت حوالي 60% في بعض الوحدات، كما ساهمت المجموعة على إبقاء القادة والمختصين بعيداً عن خطوط القتال الأمامية.
من زاوية أخرى، أثرت «فاغنر» على هيكلة الجيش الروسي، وبناءً على نتائج تجربتها تم إنشاء وحدات «العاصفة Z»، التي استوحت تنظيمها وأساليبها من عمليات المرتزقة.
هذه الوحدات عبارة عن تشكيلات قتالية خاصة ظهرت كجزء من استراتيجية تعزيز الهجمات البرية في الخطوط الأمامية وتتكون من مزيج من الجنود المحترفين، وأفراد القوات الخاصة، بالإضافة إلى مجندين من السجون الروسية الذين عرضت عليهم فرصة العفو مقابل الانضمام إلى هذه الوحدات.
عرفت «العاصفةZ» بالاقتحامات المباشرة والعمليات الهجومية المعقدة، خاصة في البيئات الحضرية والمناطق المحصنة التي تتطلب تكتيكات عالية المخاطر في المناطق التي تشهد مقاومة أوكرانية شديدة. يُرجح أن وحدات «العاصفة Z» ساهمت في التغلب على النقص في عدد القوات النظامية.
بالمقابل، وعلى الجانب الأوكراني، أنشأت أوكرانيا «الفيلق الدولي» الذي ضم متطوعين أجانب لدعم العمليات الدفاعية.
يُظهر هذا أن الاعتماد على المرتزقة قد أصبح جزءاً من ديناميكيات الحروب الحديثة، لكنه يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية بسبب التجاوزات والانتهاكات التي ارتكبتها هذه المجموعات.
تحديات اللوجستيات والاستدامة
تُعَدّ اللوجستيات عنصراً حاسماً في العمليات العسكرية، حيث تؤثر بشكل مباشر على كفاءة واستدامة الجيوش في ميادين القتال، حيث أبرزت الحرب تحديات لوجستية معقدة أثرت على سير العمليات العسكرية لكلا الجانبين، سواء بالنسبة لأوكرانيا أو لروسيا.
فمنذ بداية الحرب، عانت القوات الأوكرانية من تحديات لوجستية كبيرة بسبب استهداف طرق التزويد من قبل الطائرات الروسية المسيرة، ما أدى إلى إعاقة عملية نقل الذخائر والإمدادات إلى الخطوط الأمامية وأثر سلبًا على قدرتها على الحفاظ على مواقعها وتعزيزها.
كما واجه الأوكرانيين تحد آخر وهو النقص في القوات المدربة، زاد هذا التحدي من حدة الضغوط على الوحدات القتالية القائمة واستلزم جهودا مكثفة لتدريب وتجهيز المزيد من الجنود لتعويض هذه الفجوة.
على الجانب الآخر، واجه الروس تحديات لوجستية مختلفة، من بينها نقص الوسائل المناسبة لنقل المواد إلى الخطوط الأمامية، فلجأت بعض الوحدات الروسية إلى استخدام وسائل نقل بديلة مثل الحمير والخيول لنقل الذخائر والمؤن، الأمر الذي عكس الضغط الكبير الذي تعرضت له عمليات التزويد الروسية، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها بالعربات العسكرية التقليدية.
كما لجأت القوات الروسية إلى وسائل غير تقليدية في النقل، حيث أظهرت صور من ساحة المعركة استخدام مركبات مرتجلة مثل أحواض الاستحمام المثبتة على دراجات نارية، إضافة إلى عربات الجولف والدراجات الفردية الكهربائية (السكوترات) لنقل الجنود والمعدات وفقا لتقرير نشرته «هافينغتون بوست» الإسبانية.
وتبرز هذه التحديات الحاجة الملحّة إلى تطوير أنظمة إمداد مرنة وسريعة الاستجابة، قادرة على التكيف مع ظروف الحرب المتغيرة. فمن الضروري تعزيز القدرات الإنتاجية المحلية لتوفير الذخائر والمعدات، وتقليل الاعتماد على الإمدادات الدولية؛ ما يضمن استدامة العمليات العسكرية على المدى الطويل. كما أن استخدام التكنولوجيا الحديثة في اللوجستيات، مثل الطائرات المسيرة والأنظمة الذاتية، يمكن أن يحسن من كفاءة عمليات النقل والإمداد، لا سيما في البيئات القتالية الصعبة.
ختاماً، لقد كشفت الحرب الروسية-الأوكرانية عن الطبيعة المتغيرة للحروب الحديثة، من التفوق الجوي إلى الدور المحوري للتكنولوجيا والاستخبارات، ومن تحديات اللوجستيات إلى أهمية الجانب المعنوي، وأصبحت الحروب تتطلب تكاملاً معقدًا بين القدرات التقليدية والحديثة.
تؤكد هذه الدروس أن التحضير للمستقبل يتطلب تبني الابتكار، الارتقاء بمستوى التدريب، والاستثمار في التكنولوجيا واللوجستيات لضمان التفوق الاستراتيجي في النزاعات القادمة.
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
لا يوجد تعليقات