استطلاع الرأى
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
- ممتاز
- جيد جداً
- جيد

تُعرف الحملة العسكرية التي وقعت بين عامي 1915 و1916 في شبه جزيرة جاليبولي، والمعروفة أيضًا باسم Gelibolu Yarımadasıبالتركية، و Chersonesus Thracica في المصادر الكلاسيكية، بعدة تسميات تختلف باختلاف السياق الجغرافي أو السياسي أو القومي.
اللواء الركن /م خالد علي السميطي
فحملة جاليبولي هو الاسم الأشمل والأكثر استخدامًا في الأدبيات التاريخية لوصف العملية العسكرية التي تُعد إحدى أبرز معارك الحرب العالمية الأولى، حيث خاضها الحلفاء ضد الدولة العثمانية بهدف السيطرة على مضيق الدردنيل وفتح الطريق نحو إسطنبول.
أما مصطلح “حملة الدردنيل”، فارتبط في المصادر البريطانية بالبعد البحري للعملية، خاصة في مرحلتها الأولى التي اعتمدت على القصف البحري المكثف، بينما ارتبط مصطلح “معركة الآنزاك” بإنزال الفيلق الأسترالي والنيوزيلندي(ANZAC) على الشواطئ الشمالية لشبه الجزيرة، وهو مصطلح اكتسب مكانة رمزية في الذاكرة الوطنية لأستراليا ونيوزيلندا، حيث يُخلَّد سنويًا في يوم الآنزاك تقديراً لتضحيات الجنود.
ورغم تعدد هذه التسميات، فإنها جميعًا تشير إلى حملة عسكرية واحدة، عُرفت بدمويتها وتعقيدها الاستراتيجي.
الموقف والدوافع الاستراتيجية
بحلول مطلع عام 1915، كانت الحرب العالمية الأولى قد دخلت مرحلة جمود عسكري على الجبهة الغربية، حيث فشلت قوات الحلفاء والمحور في تحقيق اختراق حاسم.
وفي أواخر عام 1914، انضمت الدولة العثمانية إلى الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا-المجر، وهو ما فتح جبهات جديدة في الشرق الأوسط والبحر الأسود.
وقد منح موقع الدولة العثمانية، بسيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل، أهمية استراتيجية فائقة للتحكم بخطوط الإمداد بين البحر المتوسط والبحر الأسود.
كانت السيطرة على هذه المضائق ستتيح للحلفاء ليس فقط عزل العثمانيين، بل أيضاً فتح ممر بحري إلى روسيا التي كانت تعاني من حصار وضغط عسكري شديد على الجبهة الشرقية.
ومن هنا، قرر المخططون البريطانيون فتح جبهة جديدة في الشرق لتحقيق هدفين استراتيجيين رئيسيين: إخراج الدولة العثمانية من الحرب عبر السيطرة على القسطنطينية، وفتح طريق إمداد إلى روسيا لتخفيف الضغط عنها وتعزيز قدرتها على الاستمرار في القتال.
افتراضات التخطيط الخاطئة
صمم البريطانيون خطتهم للدردنيل على سلسلة من الافتراضات الخاطئة، فقد افترض القادة السياسيون والمخططون العسكريون أن الأتراك يفتقرون إلى الصلابة والانضباط العسكري، وأن الجيش العثماني سينهار سريعًا أمام قصف بحري مكثف.
وكان ونستون تشرشل، بصفته اللورد الأول للأميراليةFirst Lord of the Admiralty والمسؤول السياسي عن البحرية الملكية، مقتنعًا بأن القوة البحرية وحدها تكفي لاختراق الدفاعات الساحلية والوصول إلى إسطنبول دون الحاجة إلى تدخل بري.
أما اللورد هربرت هوراشيو كتشنر، وزير الدولة للحرب، فقد اعتقد أنه بمجرد وصول الأسطول إلى القسطنطينية، ستُجبر تركيا على الاستسلام، وستلتحق دول البلقان بالحلفاء ضد النمسا-المجر؛ ما يزيد الضغط على ألمانيا.
ذهب كتشنر أبعد من ذلك حين افترض أن الجيش العثماني سينسحب من تراقيا بمجرد ظهور الأسطول البريطاني أمام العاصمة. فقد كانت هذه المنطقة تمثل العمق الدفاعي المباشر للقسطنطينية، وتشكل بحكم تضاريسها وطرقها الحيوية الحاجز البري الأول أمام أي هجوم أوروبي على العاصمة. كما أن سيطرة الحلفاء عليها كانت ستفتح الباب أمام استمالة بلغاريا واليونان للانضمام إلى التحالف، فضلاً عن أنها تمثل الممر البري الذي يربط الأناضول بالبلقان. غير أن هذه التقديرات، التي اتسمت بالثقة المفرطة والتصورات غير الواقعية، سرعان ما ثبت خطؤها مع اندلاع القتال الفعلي.
سير القتال
بدأت الحملة فعلياً في 1 نوفمبر 1914 عندما قصف الأسطول البريطاني الحصون الموجودة عند مدخل الدردنيل. لكن هذا القصف كان ذا أثر عكسي؛ إذ لم يحقق سوى تنبيه العثمانيين إلى نوايا البريطانيين، فشرعوا في تعزيز دفاعاتهم بتحصينات ساحلية جديدة وزرع حقول ألغام وإعادة تنظيم المدفعية.
وفي 18 مارس 1915، حاول الأسطول البريطاني والفرنسي اختراق المضيق بعملية كبرى، إلا أن الألغام والنيران الساحلية العثمانية نجحت في إغراق ثلاث بوارج وإيقاف الهجوم البحري بالكامل. شكّل هذا الفشل نقطة تحول، دفعت الحلفاء إلى تعديل خطتهم من هجوم بحري مباشر إلى إنزال بري واسع. لكن عنصر المفاجأة كان قد فُقد، وأصبح العثمانيون أكثر استعداداً لمواجهة أي توغل.
تلخصت خطة الحلفاء في تنفيذ إنزال بحري واسع على شواطئ شبه الجزيرة، شاركت فيه قوات بريطانية وفرنسية ونيوزيلندية وأسترالية(ANZAC)، حيث جرى توزيع الإنزالات على عدة مواقع رئيسية بحيث يتم إنزال القوات البريطانية في كيب هيليس، الرأس الجنوبي لشبه الجزيرة، بينما يتم إنزال قوات الآنزاك الأسترالية والنيوزيلندية في أري بورنوAri Burnu، الذي كان عبارة عن رأس ساحلي صغير في شمالCape Helles، على أن تتم عدة عمليات فرنسية على الشاطئ الآسيوي بهدف تشتيت القوات العثمانية.
بدأت عمليات الإنزال في شهر أبريل من عام 1915، وقد كان للتضاريس الصعبة أثرها السلبي على المهاجمين، حيث واجهوا منحدرات وعرة ومرتفعات مثل ساري بايرSari Bair، وهي سلسلة جبلية وعرة، التي شكلت الهدف الاستراتيجي للحملة.
استغلت القوات العثمانية المدافعة، تحت قيادة مصطفى كمال (أتاتورك لاحقًا)، المرتفعات العالية لصد الهجمات، وفشل الحلفاء في السيطرة على التلال المفصلية مثل مرتفعات شونوك بايرChunuk Bair، إحدى القمم والمرتفعات المهمة في سلسلة ساري بايرSari Bair، وهي السلسلة الجبلية أو المرتفعات الوسطى. وقد كانت هدفًا رئيسيًا للقوات الأسترالية والنيوزيلندية(ANZAC) خلال معارك أغسطس 1915، حيث سعت للسيطرة عليها باعتبارها موقعًا استراتيجيًا يطل على شبه الجزيرة ومضيق الدردنيل. لكن المعارك هناك كانت شديدة القسوة وأسفرت عن خسائر كبيرة دون نجاح حاسم للحلفاء.
وحدث الأمر نفسه في تلة 971، وهي أعلى نقطة في سلسلة مرتفعات ساري باير بارتفاع يقارب 305 أمتار، حيث حاولت قوات الحلفاء خلال الهجوم التقدم لاحتلالها بهدف السيطرة على موقع استراتيجي مشرف يطل على طرق شبه الجزيرة ومضيق الدردنيل، إلا أن طبيعة التضاريس الوعرة والمقاومة العثمانية الشرسة حالت دون نجاحهم، ووجد المهاجمون أنفسهم محصورين في جيوب ساحلية ضيقة، اضطروا فيها إلى خوض حرب خنادق قاسية فاقمتها الظروف البيئية المروعة من نقص المياه وسوء التغذية وانتشار الأوبئة، لتبقى التلة تحت سيطرة العثمانيين حتى نهاية الحملة.
على مدى الأشهر التالية، وسعيا لكسر الجمود الذي استمر منذ إنزال أبريل، عجزت هجمات الحلفاء المتكررة في كيب هيليس والإنزال لاحقا في سوفلا باي Suvla Bay ، خليج واقع شمال مواقع إنزال الآنزاك في أغسطس 1915 عن تحقيق أي تقدم، واستمر تمسك العثمانيين بمواقعهم، كما استمرت حالة الجمود واستمرٍ استنزاف الطرفين. ومع حلول الشتاء القاسي في أواخر 1915، ازدادت الأوضاع سوءًا بفعل الأمطار الغزيرة والبرد والفيضانات. حينها أدركت القيادة البريطانية أن الحملة وصلت إلى طريق مسدود، فبدأت التخطيط لانسحاب تدريجي. وفي ديسمبر 1915 ويناير 1916، نُفذت عملية انسحاب محكمة من مواقع الآنزاك وكيب هيليس دون خسائر تُذكر.
ورغم نجاحها التكتيكي، مثلت هذه العملية اعترافاً صريحاً بفشل استراتيجي ذريع. فقد تكبد الجانبان أكثر من نصف مليون قتيل وجريح، فيما خرج العثمانيون بنصر دفاعي تاريخي عزز ثقتهم ورسخ مكانة مصطفى كمال كقائد بارز في التاريخ الحديث.
الدروس المستفادة
أفرزت حملة جاليبولي (أو حملة الدردنيل) جملةً من الدروس العسكرية والسياسية التي ظلت حاضرة في الأدبيات الاستراتيجية حتى اليوم. فقد أظهرت أولاً خطورة الافتراضات غير الواقعية في صياغة الخطط العسكرية، إذ بُنيت العملية على الثقة المفرطة بالتفوق البحري والاستهانة بقدرات العثمانيين.
أصبحت جاليبولي منذ ذلك الحين رمزًا لفشل التخطيط الاستراتيجي المبني على الأوهام، ودليلاً على أن الحروب لا تُكسب بالتفوق العددي أو التكنولوجي وحده، بل بمدى واقعية التقديرات، ومرونة القيادة، والقدرة على توظيف الأرض والموارد لصالح العمليات.
كما أبرزت الحملة أهمية التضاريس والعامل الجغرافي، حيث منحت المرتفعات والتحصينات الطبيعية المدافعين ميزة تفوق حاسمة.
ومن بين الدروس الجوهرية كذلك قيمة القيادة الميدانية الفعّالة، وهو ما تجسد في شخصية مصطفى كمال الذي استطاع توظيف الموارد المحدودة بكفاءة عالية.
أما على الجانب المقابل، فقد أظهرت الحملة نتائج ضعف التنسيق بين قادة الحلفاء وتعدد مراكز القرار، فيما اتسم التخطيط الميداني بالإفراط في العمومية، فلم يُترك مجال كافٍ للمرونة الميدانية؛ ما جعل الوحدات العثمانية تتفوق بالتحرك السريع وبالتالي افشال أغلب الهجمات في السواحل.
إلى جانب ذلك، أكدت “جاليبولي” على دور العوامل اللوجستية والصحية في مسار الحروب، حيث عانى الجنود من نقص الإمدادات وسوء التغذية وانتشار الأوبئة أكثر مما عانوا من نيران العدو.
سياسيًا، بينت الحملة أن فتح جبهة جديدة لا يضمن بالضرورة اختراقاً استراتيجياً إذا لم تُصاحبها موارد كافية وتخطيط متماسك، وهو ما انعكس سلبًا على سمعة القيادات البريطانية، خاصة ونستون تشرشل الذي اضطر إلى الاستقالة من منصبه في الأميرالية.
استفاد الحلفاء من الأخطاء الاستراتيجية والميدانية التي ارتكبوها في حملة جاليبولي، حيث أدركوا أن التفوق البحري والجوي وحده غير كافٍ لاختراق دفاعات العدو. لذلك اعتمدوا في إنزال نورماندي عام 1944 على المزج بين القصف الجوي الكثيف والتفوق البحري المطلق، مع تنسيق دقيق لعمليات الإنزال البري، ما منح القوات المهاجمة القدرة على تثبيت موطئ قدم على الشاطئ.
كما استفادوا من الأخطاء الاستراتيجية والميدانية التي ارتكبوها في حملة جاليبولي فيما يتعلق باللوجستيات، فقد عالجوا مشكلة الإمدادات عبر إنشاء الموانئ الاصطناعية(Mulberry Harbors) التي ضمنت تدفقًا مستمرًا للذخائر والمواد والجنود، بعكس ما حدث في جاليبولي حيث افتقر الجنود إلى الإمدادات والمياه ووقعوا ضحية بيئة قاسية.
وفي مجال القيادة والسيطرة، استفاد الحلفاء كذلك من الأخطاء الاستراتيجية والميدانية التي ارتكبوها في جاليبولي بسبب الإخلال بمبدأ وحدة القيادة فتعددت القيادات وتضاربت الصلاحيات بين البريطانيين والفرنسيين والآنزاك، وبسبب غياب التنسيق الكافي بين القوات البحرية والبرية ما أدى إلى توقفت البوارج عن الدعم في لحظات حرجة، أدى ذلك كله التي إلى بطء اتخاذ القرار وإضاعة عنصر المفاجأة الهام للمهاجمين.
تعلم الحلفاء الدرس جيدا في عملية أوفرلورد (غزو النورماندي) حينما قاموا بتأسيس هيكل قيادة موحدٍ تحت إشراف الجنرال أيزنهاور، ما سمح بتنسيق محكم بين القوات الأمريكية والبريطانية والكندية، وقد اختبروا هيكل القيادة الموحدة قبل ذلك في عملية هسكي (غزو صقلية عام 1943) التي أثبتت إمكانية نجاح التخطيط المشترك إضافة إلى فوائد عديدة استمرت لاحقا في النورماندي.
في المقابل، كانت “جاليبولي” تعاني من تضارب بين القادة السياسيين والعسكريين وضعف التنسيق بين مختلف وحدات الحلفاء.
وأخيرا، استفاد الحلفاء من الأخطاء التي ارتكبوها في حملة جاليبولي فيما يخص تقدير قدرات العدو والتضاريس، حيث لم يستهينوا بالقوات الألمانية ولا بالعوامل الجغرافية.
بل درسوا شواطئ نورماندي بدقة، بما في ذلك حركة المد والجزر، والعوائق الطبيعية، والتحصينات الألمانية، لتفادي تكرار سوء التقدير الذي كان سببًا رئيسًا في فشل جاليبولي.
ختاما، تُعد حملة جاليبولي بمثابة فصل مأساوي في تاريخ الحرب العالمية الأولى، يجسّد بوضوح الفجوة الخطيرة بين التخطيط النظري والواقع الميداني. فقد كشفت هذه الحملة عن مخاطر الاعتماد على افتراضات غير واقعية، والاستهانة بقدرات الخصم، وإهمال العوامل الجغرافية واللوجستية. وعلى الرغم من الخسائر الفادحة والفشل الاستراتيجي الذي مني به الحلفاء، فإن الدروس المستفادة من جاليبولي كانت عميقة ومؤثرة، حيث أعادت تشكيل المفاهيم العسكرية الحديثة في مجالات التخطيط والقيادة والتنسيق بين القوات المختلفة.
كما أصبحت هذه الحملة رمزًا للصمود والعزيمة في الذاكرة التركية، ونقطة تحوّل في مسيرة مصطفى كمال العسكرية التي مهّدت لولادة جمهورية تركيا الحديثة.
وهكذا، بقيت جاليبولي شاهدًا على أن النصر في الحرب لا يُكتسب بالتفوق المادي وحده، بل بالتخطيط الدقيق، والقيادة الحكيمة.
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
لا يوجد تعليقات