مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2024-09-03

السياسات الإسرائيلية واحتمالات الحرب الشاملة في الشرق الأوسط

لا شك أن إسرائيل تحارب وتناور بأكثر من أسلوب واستراتيجية عسكرية و أمنية و استخباراتية  خاصة منذ بداية الحرب على غزة، مستغلة ما أنتجه  التركيز الغربي على تغيير المعالم الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط من خلال الثورات العربية و مواجهة ما يسمى بمحور الممانعة الذي تقوده طهران، حيث أنتج هذا التوجه شكلا جديدا للتحالفات الدولية والاقليمية في المنطقة وغير الكثير من مفردات الصراع المحموم والموجه من قبل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

د محمد عصام لعروسي

  إن اعتماد إسرائيل على سياسة الاغتيالات و أخرها اغتيال فؤاد شكر قيادي حزب الله في الضاحية الجنوبية و إسماعيل هنية قائد المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، يكشف عن رغبة إسرائيل في تحقيق النصر العسكري ولو من بوابة تصفية القيادات السياسية لقوى المقاومة، بعدما فشلت في تحقيق نصر عسكري و استراتيجي يمكنها من الضغط على حماس لاسترجاع الأسرى والمختطفين الاسرائيليين، وفتح جبهة المواجهة مع طهران بعدما قامت بالعديد من الضربات النوعية كتلك على السفارة الايرانية في دمشق والتي لم ترد عليها طهران بالرد المناسب. فهل تحقق سياسة الاغتيالات الاسرائيلية ما فشلت فيه الألة العسكرية؟ وماهي تداعيات هذه السياسات على الداخل الاسرائيلي و الفلسطيني واللبناني؟ وهل استطاعت إسرائيل بمساعدة أمريكا كسر شوكة إيران وإنهاء محور المقاومة؟ وهل يمكن توقع حرب شاملة و قواعد جديدة للاشتباك بين الأطراف المتصارعة في المنطقة تفضي في النهاية الى بناء محاور اقليمية جديدة؟

أولا: سياسة الاغتيالات الاسرائيلية تعويض عن الهزيمة العسكرية
يُظهر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وقبله اغتيال فؤاد شكر أحد كبار قادة حزب الله في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أصبح أكثر جرأة على تصعيد الحرب بعد زيارته الأخيرة  للولايات المتحدة الأمريكية، وأن إدارة الرئيس جو بايدن أصبحت أكثر انصياعا للطرف الاسرائيلي وتراجعا في ممارسة نفوذها عليه لتجنب التصعيد، أو أكثر خضوعًا للعبته الهادفة إلى إطالة أمد هذه الحرب لأطول فترة مُمكنة، وتأجيج مخاطرها الإقليمية. وفي جميع الحالات يبدو أن الانشغال الامريكي بالانتخابات الرئاسية فرصة مناسبة لنتنياهو لمحاولة عكس مسار الحرب.

من جهة ثانية، أن انخراط إسرائيل للتوصل إلى صفقة مع حركة حماس لوقف إطلاق النار في غزة، وموافقتها على المُقترح الذي عرضه الرئيس جو بايدن، لم يكونا سوى مناورة جديدة لنتنياهو لخداع الجميع، ذلك أن اسماعيل هنية الذي كان يعتبر «وجه الدبلوماسية الدولية للحركة» )في حين أن في غزة، فيحيى السنوار، هو رئيس مكتبها السياسي وقيادي بارز في ذراعها العسكري “كتائب القسام”(. كان يُمثل قوة دافعة لإبرام صفقة لتبادل الأسرى والرهائن وإنهاء الحرب، تُشير إلى أن أحد الأهداف الرئيسية لاغتياله تقويض الفرص المُمكنة للتوصل إلى مثل هذه الصفقة في المستقبل المنظور.
من الراجح أن تهرب نتنياهو من استحقاق الصفقة في الوقت الراهن، وهو بسبب أن شركاءه الأكثر تطرفًا في الحكومة لا يُريدون لهذه الحرب أن تنتهي من دون أن تُحقق فيها إسرائيل نصرًا واضحًا. كما يُراهن نتنياهو على عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل من السنة الجارية. ويعتقد أن مثل هذه العودة ستُطلق اليد الأميركية لإسرائيل لإنجاز ما عجزت عن تحقيقه في الحرب مع إدارة بايدن.

بالتأكيد أن تحقيق أهداف الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية، أصبح قاب قوسين أو أدنى، حيث تضاعفت متاعب وحدات الاسلحة والفيالق والمجموعات العاملة في قطاع غزة والتي لم تجد سوى قتل المدنيين بديلا عن النصر العسكري والقضاء على حركة حماس و تحويل قطاع غزة الى أرض مسيطر عليها بالكامل من قبل إسرائيل. وهذا ما دفع نتنياهو أيضا الى قتل الزعامات في حركة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وهو ما يعني محاولة استرضاء أطياف عديدة من الشعب الاسرائيلي، والتي تعتبر قتل القيادات في حماس وحزب الله جزءا من الحرب المقدسة حسب التعبير الثوراتي، في انتظار عودة الرهائن كما وعد بذلك نتانياهو.

ثانيا: هل إيران المستهدف الأول من قبل إسرائيل؟
بعد عملية اغتيال هنية، تناسلت العديد من الأسئلة حول المستهدف من العملية وهناك من ذهب الى كون إيران هي الهدف الاستراتيجي لإسرائيل، وخاصة أن عملية الاغتيال تمت في العاصمة طهران، وفي يوم تنصيب الرئيس الايراني الجديد و أن هنية كان في ضيافة طهران وتحت حراسة وأنظار الحرس الثوري، مما يجعل من عملية الاغتيال لغزا يجب حله وهو ما دفع بعض التحليلات الى احتمال تورط  الإيرانيون في مقتله و هي فرضية طرحها تحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي»، في إشارة إلى انخراط أفراد من الشعب بالمساعدة في عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بالعاصمة طهران، وهو ما ضاعف من منسوب الاستياء الشعبي من النظام الايراني في طهران.
من الناحية الأمنية والاستخباراتية، يبدو أنه من غير المفهوم أن غارة جوية انطلقت من خارج حدود إيران، كان من الممكن أن تتم من دون أن يتم اكتشافها في يوم تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان”. ولهذا يمكن اعتبار أن “توقيت ومكان” اغتيال هنية يشكل إحراجا كبيرا لطهران، و توجه رسالة مفادها أنه لا أحد في البلاد في مأمن من الضربات الاسرائيلية، وهذا ما قد يعني “من شبه المؤكد أنه كان هناك مساعدة من إيرانيين داخل إيران”.

هذه العملية وان تمت في غفلة من المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الايرانية، فإنها تشكل اختراقا قويا لمحور طهران، ورسالة قوية من إسرائيل أن قيادات حركات المقاومة  و وكلاء ايران في المنطقة هم في متناول القيادات الاسرائيلية التي تستطيع قتل القيادات السياسية لهذه الحركات في المكان والزمان اللذان تحددهما تل ابيب.
يبدو من خلال التصريحات الايرانية الرسمية، مدى التحفظ الايراني لتوجيه رد انتقامي عاجل، خصوصا أن العديد من الدول المؤثرة في المحيط الدولي، طالبت إيران بضبط النفس وعدم التصعيد العسكري.  وفي غالب الأحيان سوف تقوم طهران بالاجتماع مع ممثلين عن حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكذلك حركة الحوثي اليمنية وجماعة حزب الله اللبنانية وفصائل مسلحة عراقية في طهران، حيث سيجرى تقييما كاملا لإيجاد أفضل وأكثر الطرق فاعلية للرد على “إسرائيل.

كل التوقعات تشير أن الرد الايراني سوف لن يتعدى خطابات التهديد بالتصعيد أو القيام بشبه مناورات أو ضربات يائسة، وهو ما قد يكشف عن توجه القيادة الايرانية الجديدة بقيادة الرئيس الايراني الجديد الذي يطمح الى فتح مرحلة جديدة مع الغرب أساسها الحوار وتجاوز منطق التصعيد، وإن كان من غير المستبعد أن تقوم طهران بدعم وكلاءها في المنطقة للقيام بعمليات نوعية انتقامية جزئية ضد إسرائيل  باستخدام أسلحة متنوعةCombined Arms، وهو ما يوضح أن طهران غير راغبة في المواجهة المباشرة مع إسرائيل في الوقت الحالي. كما أن ما يسمى بقوات الاسناد من حزب الله و جماعة الحوثي وعيرها لا تشكل محورا وتحالفا قائم الذات، بل أكثر من ذلك تحتاج هذه الجبهة من الجماعات غير النظامية التي تتخذ من أسلوب النزعة القتالية غير منتظمة باستخدام الحرب اللاتماثلية، الى مساعدة محور الممانعة بقيادة طهران، بينما تأخر الرد الإيراني على الاغتيالات الاخيرة في لبنان و في طهران، يجعل من ظهر هذه الحركات مكشوفا وفي أشد الاحتياج الى المزيد من الدعم المادي واللوجستي والمعنوي، في وقت تحاول إسرائيل فرض نوع من التوازن في المنطقة واستغلال الزمن الانتخابي في واشنطن والمرجلة الانتقالية في إيران، لتجاوز خيباتها في الحرب العسكرية المباشرة بدون استراتيجية ناجحة.

ثالثا: الموقف الأمريكي الايجابي من سياسة الاغتيالات الاسرائيلية
دفعت التطورات الأخيرة والمتسارعة باغتيال إسرائيل إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران بعد ساعات فقط من اغتيالها فؤاد شكر، ثاني أهم قادة حزب الله في بيروت، إلى توريط واشنطن في مسلسل التصعيد ورفض التقارب لإنجاح المفاوضات، وقد يعتقد البعض أنه قرار إسرائيلي محسوب للتصعيد على الجبهات الثلاث في وقت واحد: حماس وحزب الله وإيران.
في الحقيقة لا تمانع  واشنطن سياسة الاغتيالات الاسرائيلية كما تعودت على ذلك من قبل، خاصة أن هناك شبه اتفاق بين صانعي القرار في الدوائر الأميركية المختلفة على عدم إدانة السلوك الإسرائيلي، والاكتفاء بالتحذير من مخاطر اتساع النزاع لحرب إقليمية لا يريدها أحد داخل واشنطن، مع قرب حلول موعد الانتخابات الرئاسية، و لهذا تحاول إدارة الرئيس جو بايدن تحقيق التوازن بين هدفين متعارضين هما: تكرار مقولة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” والحاجة للتعبير عن غضبها من السياسات الإسرائيلية، وما قد يسفر عنها من تصعيد إقليمي لا ترحب به الولايات المتحدة.

بدون شك أن السياسة الامريكية الحالية لن  تجعل تل أبيب أكثر أمنا، ولن تحتوي الحرب على غزة، أو تساعد في استقرار المنطقة، ومن المرجح أن تكون تداعيات هذه السياسة “الفاشلة” جد بليغة لعقود قادمة.   من جهة أخرى، تحاول إسرائيل مفاجأة واشنطن بعملية كبيرة ذات تداعيات بعيدة المدى على المنطقة بأسرها كعملية اغتيال هنية، مما يتير العديد من  التساؤلات الجدية حول طبيعة العلاقة الخاصة بين واشنطن وتل أبيب، وما  وإذا ما كان نتنياهو يستغل كون بايدن بمثابة “بطة عرجاء” حاليا، حسب وصفه. وهذا ما يؤدي الى تصاعد المخاوف في واشنطن ليس فقط من فشلها في احتواء الحرب أو منع التصعيد، بل من إمكانية أن تُجَر في نهاية المطاف إلى صراع أوسع في المنطقة، خاصة مع إيران.
والسؤال الأهم المطروح في واشنطن يتعلق بكيفية استجابتها لهذه الأزمة الأخيرة. ووفقا لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، لم يتم إبلاغ الولايات المتحدة بالعملية مسبقا، مما يمثل إحراجا كبيرا للإدارة ومن المرجح أن يزيد من توتر العلاقة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإدارة بايدن.

رابعا: السياسات الاسرائيلية و المسارات المحتملة
مهما اختلفت الدوافع الامريكية و التوتر المؤقت مع إسرائيل بشأن طريقة إدارة الحرب في غزة، تظل واشنطن الشريك والحليف الاستراتيجي لإسرائيل والضامن الأكبر لوجودها واستمرارها في قلب المنطقة العربية التي لا تتقاسم معها نفس القيم والمبادئ والأيديولوجيا والعقيدة، خاصة مع اختيار إسرائيل سياسة الدمار التخريب و الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وعلاقات متوترة وغير مستقرة مع دول الطوق العربي. إن استمرار سياسة العنف الاسرائيلي والقتل الممنهج سوف ينعكس على مسارات الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهذا يدفع الى الاعتقاد الى أن مستويات المواجهة قد ترسم خريطة متموجة من التوازنات المخترقة بين الفينة والاخرى على مختلف الاصعدة:

على مستوى قوى المقاومة: قد يكون اغتيال اسماعيل هنية، أكبر تطور شهدته مراحل الصراع والحرب في غزة، كما أن تعيين يحيى السنوار كرئيس المكتب السياسي الجديد لحماس، له دلالات قوية، أهمها التحول الى ازدواجية الرجل السياسي والميداني الذي يجمع الشقين معا، بعدما كان هنية يدير المفاوضات والعمل السياسي من خلال إقامته في الدوحة بقطر. ويتوقع استمرار حركة حماس في تدبير المواجهة باستخدام أساليب الحرب اللامتناظرة أو غير النظامية.
و قد تساهم السياسة الاسرائيلية في زيادة العنف والتطرف في المنطقة بشكل كبير، وربما ظهور تنظيمات أشد تطرفا تهدد استقرار و أمن المنطقة.

على مستوى جبهات الاسناد: قد تشهد المرحلة المقبلة عمليات جزئية في العمق الاسرائيلي من قبل جزب الله اللبناني و كذا ضربات مماثلة من قبل الحوثيين في الممرات والمعابر البحرية في البحر الاحمر ضد السفن الاسرائيلية والامريكية وباستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ القصيرة المدى، لكن في الحقيقة، فان اغتيال قيادات وكلاء إيران أفقدت محور الممانعة أهميته كما أصبحت مصداقية طهران موضع تساؤل و خصوصا بعد الفشل في توجيه رد انتقامي مؤثر لإسرائيل.

على مستوى سياسة المحاور الاقليمية: قد لا نبالغ إذا قلنا أن سياسة التقاطبات لن تتغير بشكل واضح بسبب يرجع الى هيمنة مفهومي التوازن الاقليمي و كذا سياسة الردع التي تنهجها إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة الامريكية، على مفردات اللعبة السياسية بالشرق الأوسط. في هذا الصدد تحاول واشنطن عدم التفريط في دعم إسرائيل لكن مع منع التصعيد لتتحول المنطقة الى حرب شاملة، لا تخدم من جهة مصالح واشنطن، و محدودية  تل أبيب على شنها على اعتبار الفشل العسكري في الحرب في غزة والحاجة للمساعدة الغربية، وارتفاع أصوات المعارضة الداخلية في إسرائيل.

ختاما، لا يتوقع تغيير كبير في هيمنة واشنطن على صناعة القرار في الشرق الأوسط وإن اختلفت مع إسرائيل في كيفية تدبير الحرب في غزة، لكن الدعم الدبلوماسي والعسكري والاستراتيجي سوف يتواصل، في ظل الانكماش والتلكؤ الروسي و سياسة النأي بالتفس الصينية التي تكتفي بتتبع الأحداث دون إسهام في تغيير ميكانيزمات التوازن الذي مازال يميل لواشنطن وإسرائيل مع إضعاف كبير لمحور طهران.  
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-10-02 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره