2023-01-01
المؤسسة العسكرية الأمريكية
خطوط الصدع والتماس مع الدولة المدنية إلى أين ؟على عتبات عام جديد، وقبل أقل من عامين من إنتخابات رئاسية يخشى الكثيرون من تبعاتها، 2024، تبدو هناك علامات حائرة في سماوات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي المقدمة منها العلاقات بين المكونين المدني والعسكري.
والمعروف أن الآباء الأمريكيين المؤسسين، قد أرسوا قواعد ثابتة، تمنع تضارب الإختصاصات، وفي الوقت عينه، تجعل هناك رقابة متبادلة بين السلطات، وبحيث لا يجور أحدها على الأخر، ويما يسمح بإستمرار المسيرة الديمقراطية، التي وسمت الجمهورية الأمريكية، منذ بداياتها وحتى الساعة.
بقلم: إميل أمين
غير أن هذا المشهد تغير في العقدين الأخيرين، وبات هناك إلتباس واضح، بين المدنيين والعسكريين، وقد تداخلت الخطوط وتشابكت الخيوط، سيما بعد الحروب الأمريكية المعاصرة التي بدأت في أفغانستان، ثم العراق، وصولا بمعارك الحرب على الإرهاب، مبهمة المعنى والمبنى .
هل تغيرت رؤية الأمريكيين لقواتهم المسلحة، بادئ ذي بدء؟
الشاهد أنه يمكن أن يكون ذلك كذلك، والدليل أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ما يقرب من من مجمل سكان الولايات المتحدة يرتدون الزي العسكري في ساحات القتال، لكن مع دخول واشنطن حروباً متواصلة خلال العقدين الأخيرين، شارك %1 فقط في تلك الحروب، ما يعني أن هناك أزمة مجتمع مستعد لفعل أي شئ لجيشه، بإستثناء أن يشارك في الخدمة العسكرية.
تبدو أزمات القوات المسلحة الأمريكية متصاعدة في الأفق، وهذا ما أشار إليه بعض الكتاب الأمريكيين من أمثال، جيمس فالوز، والذي أعتبر أن جنود الإمبراطورية المنفلتة لا يزالون يخسرون، سيما بعد أن زادت نسبة الإنعزالية الخاصة بعسكر أمريكا، داخل المجتمع الأمريكي، ما أدى إلى إتساع الفجوة مع المدنيين، ثم أضحت النفقات العسكرية الجنونية وبدون رقابة شعبية أو سياسية، تطرح علامات إستفهام لجهة القوة الطاغية لجنرالات أمريكا، وهل يمكن لهذه القوة أن تدفعهم عند نقطة زمنية بعينها، إلى السقوط في فخ الغرور والإنقلاب على السلطة المدنية، لتدخل الولايات المتحدة في دوامة التفكك والتفسخ، وهو الأمر الذي تنبأ به عالم السياسة والإجتماع النرويجي الشهير، يوهان غالتونغ .
جاء الإنسحاب الأمريكي الفوضوي العام الماضي من أفغانستان، والذي ألقى فيه كبار قادة القوات المسلحة اللوم على الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، ليطرح تساؤلا كبيراً ومثيراً عن الجيش الأمريكي، والذي يعد نظرياً أفضل الجيوش تجهيزاً وتدريباً في العالم، إذ كيف له أن يتلقى خسائر من خصوم أقل منه جهوزية وقدرة قتالية؟
يذهب “جيم جورلي”، الضابط السابق في المخابرات العسكرية الأمريكية، إلى أن “الجيش الأمريكي قد فشل في تحقيق أي أهداف إستراتيجية في العراق على سبيل المثال”.
أما المؤرخ العسكري، “وليام ليند”، والذي ساهم في تطوير مفهوم “حروب الجيل الرابع”، خلال تسعينات القرن الماضي، فيحاجج بأنه : “في الآونة الأخيرة الشيئ الأكثر غرابة عن هزائم أمريكا في الصومال والعراق وافغانستان، هو الصمت التام بين ضباط الجيش الأمريكي، إذ لا يسمع صوت عسكري يدعو إلى تغيير جوهري مدروس، ولكن يطلب فحسب المزيد من المال”.
ولعله من المؤكد أن تياراً بعينه أصبح يخيم فوق سماوات العسكرية الأمريكية، شبهه البعض بأنه بمثابة،“قبيلة عسكرية”، والتعبير هنا للجنرال المتقاعد “تشارلز دونلاب”، ويشير معناه ومبناه، إلى أن أغلب الجنود المنضمين إلى الجيش الأمريكي يأتون من عائلات معروفة، وهذا الأمر صار تقليداً عائلياً يخالف المبادئ الديمقراطية .
لماذا يبدو الحديث عن العلاقة بين المدنيين والعسكريين في الداخل الأمريكي هذه الأيام مثار جدل، ويمثل قلق في النهار وأرق في الليل ؟
قطعا تبدو الحالة الذهنية للرئيس بايدن، والمتراجعة يوما تلو الأخر، وراء موجة تعاظم التساؤلات، وخشية من دور أوسع للقيادات العسكرية في صنع القرار السياسي الأمريكي .
يبدو عسكر أمريكا اليوم قريبون جدا من التحكم بطبيعة المعلومات المراد تعميمها، وممارسة سيطرة غير مرئية أحيانا على آليات صنع القرار السياسي، في السلطتين التنفيذية والتشريعية على السواء .
هنا من الواضح أن “تآكلا تجري به المقادير”، للسيطرة المدنية، على مقدرات الأمور في داخل الإمبراطورية الأمريكية المنفلتة، والتعبير للمؤرخ الأمريكي الشهير، بول كيندي .
وبالرجوع إلى عدة سنوات للخلف، نجد تعاظم دور القادة العسكريين الأمريكيين في رسم السياسة الخارجية للبلاد، واضحا وضوح الشمس، وحتى قبل وصول ترامب وبايدن إلى البيت الأبيض،ففي ولايته الثانية، بدا باراك أوباما، وكأنه محاصر من كبار رتب البنتاغون، وذلك عبر ما عرف بـ “ تقليص الخيارات المتاحة له، وخصوصا في إضطراره إلى قبول زيادة عديد القوات العسكرية في أفغانستان عام 2015، موحياً بأنه لم يكن يشاطر قادته في تلك الرؤية .
لأحقا، ثأر أوباما من المؤسسة العسكرية، بإقالته قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال ستانلي ماكريستال، على خلفية تصريحات مناوئة للبيت الأبيض أدلى بها إلى أحد الصحافيين .
ومع نهايات الفترة الرئاسية اليتيمة للرئيس دونالد ترامب، أظهر جنرالات وزارة الدفاع الأمريكية توجهات منبتة الصلة بالنظام الدستوري، والذي فيه يعد الرئيس الأمريكي، هو القائد الأعلى لكل القوات المسلحة الأمريكية، والتي يبلغ عدد أفرادها 2.2 مليون فرد، ويبلغ عدد أفراد الإحتياط منهم 850 ألف فرد .
لقد سجل البنتاغون قلقاً حقيقياً في الأسابيع الأخيرة من ديسمبر كانون أول 2020، سيما بعد أن أظهر ترامب رغبة في تغيير نتيجة الإنتخابات الرئاسية، والتي لا ينفك يقطع بأنه تم تزويرها، وهناك نحو 75 مليون أمريكي يؤيدونه في مزاعمه .
في ذلك الوقت وجه أثنان من القادة العسكريين الكبار خطاباً مفتوحاً إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، طالبا فيها بـ“خلع” الرئيس ترامب، وبخاصة إذا رفض مغادرة منصبه بعد خسارته الجولة الإنتخابية.
قبل ذلك وفي صيف الغضب الذي أحتدمت فيه المناوشات بين الأمريكيين وبعضهم البعض، جرت مشاورات داخل البنتاغون، كان هدفها التمرد على “ قانون التمرد ” حال طلب ترامب إستخدامه، لقمع الإحتجاجات الشعبية التي وصفها بأنها مدعومة من الجناح الراديكالي اليساري الأمريكي، وهو ما شاركه فيه مناصروه .
والثابت أن ما يشبه التمرد العسكري الأمريكي، بل والخيانة العظمى، قد جرت من قبل رئيس هيئة الأركان المشتركة، في نهاية أيام ترامب، لا سيما بدءاً من السادس من يناير، ذلك اليوم الحزين في تاريخ الديمقراطية الأمريكية.
كانت مخاوف الجنرال ميلي أن يعمد ترامب إلى إصدار قرارات رئاسية بإستخدام الأسلحة النووية ولهذا دعا إلى إجتماع سري في مكتبه لمراجعة سير العملية العسكرية، وفي حديثه إلى كبار المسؤولين العسكريين عن مركز القيادة العسكرية الوطنية، غرفة الحرب التابعة للبنتاغون، أمر ميلي بعدم تلقي أوامر من أي شخص ما لم يكن ميلي نفسه مرتبطا بالأمر .
عزز من مخاوف ميلي، وتمرده الخفي على السلطة المدنية التنفيذية متمثلة في الرئيس ترامب، المعلومات التي وصلت إلى الإستخبارات العسكرية، وفيها أن الصين تتهيأ لضربة نووية مضادة لخطة أمريكية تسعى إلى الهجوم عليها واستخدام ما يتوافر من أسلحة للولايات المتحدة بما فيها السلاح النووي .
في هذه الأجواء، وبحسب كتاب “ الخطر ”، لمؤلفه الكاتب والصحافي الأمريكي الأشهر، بوب وودوورد، أجرى الجنرال مايك ميلي مكالمتين هاتفيتين سريتين مع نظيره الصيني الجنرال “ لي زو تشنج ” الأولى كانت في 30 أكتوبر، قبيل الإنتخابات الرئاسية ، أما الثانية فكانت نهار 8 يناير، بهدف طمأنة الصينيين، وقد جرتا من وراء ظهر الرئيس الأمريكي، الأمر الذي أعتبره ترامب خيانة علنية وتمرداً واضحاً على ظهر السفينة الأمريكية .
يرى البعض أن هذا التصرف أظهر ضعفا واضحا في كيان القوات المسلحة الأمريكية تجاه الصين، وتغولا مؤكدا على مساحة السلطات المدنية في الداخل الأمريكي .
في مايو آيار الماضي، صرح السيناتور الجمهوري البارز، تيد كروز، ممثل ولاية تكساس بأنه “ تتمثل الفكرة الفضلى في الحصول على جيش مكون من جماعة اليقظين، أي من يدعون إلى التنبه للتمييز الإجتماعي والعرقي والجندري، إضافة إلى المجردين من رجولتهم ”.
فيما تاكر كارلسون، الشخصية الإعلامية التلفزيونية الشهيرة من قناة فوكس، فقد قال مؤخرا أن:“ الجيش الصيني أصبح أكثر رجولة ، بينما جيش الولايات المتحدة صار أكثر أنوثة ”.
ووصل الأمر ب “ بليك ماسترز ”، السياسي الجمهوري، الذي أخفق في الفوز بمقعده القديم في مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا، للتصريح بالقول: “ إن كبار جنرالاتنا قد أصبحوا من اليقظين، وقادتنا تستحق أفضل من ذلك”.
تبدو اليوم الولايات المتحدة عند نقطة غليان تاريخية، لجهة دور المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية،وهو ما ألمح إليه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، مارك أسبر، فقد أشار في يونيو حزيران من عام 2020 إلى الجهود الكبيرة التي بذلت لمنع البنتاغون من التدخل في الشأن السياسي، أي الإنتخابات الرئاسية الأمريكية ، وإبقاءها بعيدة عن التوجهات والتجاذبات .
هل دور البنتاغون مرشح للتفاعل أكثر خلال العامين القادمين؟
في مايو آيار من العام الماضي 2021 وجه 124 ضابط متقاعد وأدميرال بحر، رسالة مفتوحة للرئيس بايدن، وقد أطلقت المجموعة على نفسها إسم “ ضباط لخدمة أمريكا “، حذرت فيها من مخاطر عودة اليسار المتشدد إلى واجهة السياسة الداخلية، ما سيفرض تسييس القوات العسكرية، وفرض سياسات محرجة على بنية القوات المسلحة حول العنصرية .
هل من خلاصة ؟
أمريكا اليوم منقسمة بين تيارين :
الأول يرى أن الإدعاء بأن القوات العسكرية ينبغي أن تكون غير مسيسة هو أمر مضلل وغير ومجد .
الثاني يحمل تحذيرا قاسيا،مفاده أن “ تسييس القوات العسكرية الأمريكية يشكل وصفة كارثية .
هل الديمقراطية الأمريكية في خطر ؟ الجواب عند الرئيس الأمريكي الراحل إيزنهاور، فإل قراءة مكملة إن شاء الله .
لا يوجد تعليقات