استطلاع الرأى
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
- ممتاز
- جيد جداً
- جيد
لا شك أن الانتخابات الأوروبية بداية من انتخابات البرلمان الأوروبي والانتخابات التشريعية الفرنسية والبريطانية على وجه الخصوص، شكلت لحظة تاريخية فاصلة وزمن انتخابي فارق، كشف عن عودة الشعبوية و أفكار اليمين المتطرف الذي حقق نتائج جيدة على مستوى البرلمان الأوروبي وفي الانتخابات التشريعية الفرنسية، مما جعل منه قوة سياسية ضاربة تفرض نفسها بقوة في صدارة التيارات الحزبية الممثلة في المؤسسات الدستورية للاتحاد الأوروبي وكذا في البرلمانات والمجالس المحلية للدول الأوروبية.
د محمد عصام لعروسي
هذا الانتصار لليمين المتطرف، أسال الكثير من المداد حول خطر الرسائل التي تحملها الأحزاب اليمينية المتطرفة، من محاربة الهجرة والمهاجرين وكراهية الأجانب والتمييز العنصري والعرقي والديني وتمجيد القوميات الغربية. لكن لم يتأخر الجواب طويلا حيث أفرزت الانتخابات البريطانية والفرنسية عودة قوية لتحالف اليسار )حزب المحافظين في بريطانيا والجبهة الشعبية الجديدة لليسار(، الأمر الذي خلف ارتياحا كبيرا في الأوساط الأوروبية والعالمية ويمثل كابحا لطموحات اليمين المتطرف الذي بات يحقق نسبا تصاعدية في كل الاستحقاقات الانتخابية التي يشارك فيها خلال العقد الأخير.
أولا: أحزاب يمينية متطرفة تتصدر المشهد في انتخابات البرلمان الأوروبي
احتفلت رئيسة المفوضية الأوروبية ومرشحة حزب الشعب الأوروبي الألمانية أورسولا فون ديرلاين، حيث فازت مجموعتها السياسية في الانتخابات الأوروبية، كما تسبب صعود اليمين المتطرف الذى فاز في فرنسا في تقدم انتخابي كبير وغير مسبوق، وكذلك الحال بالنسبة للنمسا وأصبح القوة السياسية الثانية في ألمانيا.
وفى إيطاليا، حققت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلونى، فوزا واضحا في الانتخابات الأوروبية، حيث اعتبرت هذه الانتخابات بمثابة الاستفتاء على ميلونى إذ تصدر حزب إخوة إيطاليا (فراتيلى دي إيطاليا) اليمينى المتطرف بزعامتها، نتائج الانتخابات الأوروبية في إيطاليا بما لا يقل عن %27 من الأصوات. أيضا في النمسا، حصل «حزب الحرية» اليمينى المتطرف على %27 من الأصوات، وعزز الهولنديون الذين كانوا أول من أدلوا بأصواتهم، موقف حزب خيرت فيلدرز اليمينى المتطرف.
وفى إسبانيا، أظهرت النتائج الرسمية حصول الحزب الشعبي اليمينى، التشكيل الرئيس للمعارضة الإسبانية، على 22 مقعدا في البرلمان الأوروبي مقابل 20 للاشتراكيين بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، وحقق حزب فوكس اليمينى المتطرف تقدما بحصوله على 6 مقاعد في البرلمان. أما فى بولندا، فقد تقدم الحزب الوسطى المؤيد لأوروبا بزعامة رئيس الوزراء دونالد توسك على حزب القانون والعدالة القومي الشعبوي، لكن الأخير حافظ على نصيب كبير من الأصوات، كما أن اليمين المتطرف المتمثل فى حزب كونفيديراجا لم يحصل على أقل من 6 مقاعد في البرلمان الأوروبي.
ثانيا: الانتخابات البرلمانية وأسباب وصعود اليمين المتطرف
شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة تحقيق الأحزاب المنتمية لليمين المتطرف مكاسب تاريخية في دول رئيسية بالقارة العجوز، مما أثار تساؤلات بشأن أسباب صعودها وتداعيات ذلك على التوجهات السياسية للاتحاد الأوروبي. ورغم أن التوقعات تشير إلى استمرار سيطرة أحزاب الوسط والأحزاب الليبرالية على غالبية المقاعد في المؤسسة التشريعية الأوروبية، إلا أن التقدم الذي حققته أحزاب اليمين يُنذر بـتحولات جوهرية، في مقاربة التكتل الأوروبي لعدد من الملفات داخليا وخارجيا.
استطاعت الأحزاب المنتمية لليمين المتطرف تحقيق مكاسب في انتخابات البرلمان الأوروبي، مما وجه ضربة قوية إلى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتس. ومني حزب ماكرون بخسارة مريرة ضد التجمع الوطني اليميني المتطرف ما دفعه لإعلان حل الجمعية الوطنية والدعوة لعقد انتخابات برلمانية مبكرة، في حين أن حزب المستشار الألماني سجل أسوأ نتيجة له على الإطلاق، أمام المحافظين وحزب البديل من أجل ألمانيا المتشدد. إن سقوط فرنسا وألمانيا في مخالب اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، ترهن سياسات الاتحاد الأوروبي برغم من عدم حصول اليمين الراديكالي على أغلبية مريحة في مقابل استمرار الأحزاب الليبرالية المعتدلة في المؤسسة التشريعية الأوروبية، لكن على الأقل يستطيع هذا التيار المتطرف عرقلة السياسات العمومية خاصة تلك المتعلقة بالهجرة وسياسات اللجوء وإدماج المهاجرين في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأوروبي.
ويرجع توجه أوروبا نحو أقصى اليمين عموما الى فشل الأحزاب التقليدية وحكومات دول رئيسية بالاتحاد في حل المشاكل والقضايا الداخلية العالقة، وتحديدا المواضيع الاجتماعية والاقتصادية، مثل البطالة والصحة والتعليم، والتي أخذت حيزا أكبر من باقي الملفات الأوروبية المشتركة، باستثناء قضية تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا التي لاقت انتقادات شديدة، خاصة في ألمانيا.
كما أن خطابات الأحزاب اليمينية المعارضة تقاطعت في معظم دول الاتحاد بالتركيز على فشل الحكومات والأحزاب التقليدية، وتقديم نفسها كبديل جديد قادر على مواجهة كل هذه المشاكل، فضلا عن تجديد مواقفها المعادية للمهاجرين. وبشكل عام، ظلت كتلتا الديمقراطيين المسيحيين والاشتراكيين القوى المهيمنة، في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، بينما جاءت مكاسب اليمين المتطرف على حساب حزب الخضر الذي يتوقع أن يخسر نحو 20 مقعدا ويتراجع إلى المركز السادس في البرلمان الأوروبي. وكان الصعود القوي لهذه الأحزاب، مدفوعا أساسا بمعاناة العديد من الناخبين من أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة، إلى جانب المخاوف المرتبطة بالهجرة وتكلفة التحول نحو الطاقة المتجددة، والشعور بالانزعاج من التوترات الجيوسياسية المتزايدة، بما في ذلك انعكاسات الحرب في أوكرانيا على القارة الأوروبية.
ثالثا: فوز حزب العمال في بريطانيا: عودة الروح الأوروبية
في الانتخابات التشريعية التي جرت في 2 يوليوز 2024، منح البريطانيون حزب العمال أغلبية مطلقة بحوالي 409 مقاعد من أصل 650، في حين مُني المحافظون بخسارة أكثر من 241 مقعدا، في واحدة من كبرى نتائج «العمال» منذ العام 1997 عندما فاز رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بـ417 مقعدا. وبذلك، طوت المملكة المتحدة بشكل رسمي صفحة حزب المحافظين بعد 14 سنة من الحكم تخللتها لحظات تاريخية بارزة لعل أهمها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، والأحداث المثيرة للجدل التي ترقى إلى «الفضائح» في عهد رئيسي الوزراء السابقين بوريس جونسون وليز تراس، وصولا إلى ريشي سوناك الذي عاش معه البريطانيون أسوأ أزمة تضخم منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم حالة الاستقطاب العالية التي شهدتها بريطانيا خلال الحملة الانتخابية، فإن نسبة المشاركة ناهزت %59، وهي أقل مما سجلته انتخابات 2019 التي شارك فيها قرابة %67.3 من الناخبين، وأقل من انتخابات 2017 التي شارك فيها %68.8 من الناخبين. وهذا ما يعني في المجمل ارتفاع نسبة العزوف السياسي وعدم رضا الشعب البريطاني عن السياسات العامة لحكومات المحافظين التي أفلست في تقديم فرص اقتصادية جديدة ووجدت عراقيل جمة في تحقيق التعافي الاقتصادي والاجتماعي بعد جائحة كورونا.
وبينما عانت البلاد تدهوراً كبيراً في الأوضاع الاقتصادية والسياسية تحت قيادة حزب المحافظين ورئيسه المنتهية ولايته ريشي سوناك، شكّل التحول الكبير لبريطانيا نحو يسار الوسط استثناءً بين الدول الأوروبية التي تشهد صعود اليمين المتطرف. يأتي هذا التحول قبل 4 أشهر من انتخابات صعبة في الولايات المتحدة الأمريكية بين الرئيس الحالي جو بايدن والسابق دونالد ترمب، ما دفع ستارمر إلى تجنب الحديث بشأن مسألة العلاقات مع الولايات المتحدة قبل انتخابه، بينما خفف وزير خارجيته ديفيد لامي، من حدة انتقاداته المعتادة لترمب، في خطوة دبلوماسية تتحسب لاحتمالية عودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض مجدداً. يراهن حزب العمال أيضا على استرجاع ناخبيه الذين فقدهم خلال التصويت على اتفاق البريكست وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما كان لهذا القرار من تبعات هامة على القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذا البلد.
في الحقيقة لم يقدم حزب العمال شيئا مختلفا عما عبر عنه للناخبين في عام 2019، لكن المحافظين فقدوا الأصوات لصالح حزب الإصلاح في بعض الأماكن والديمقراطيين الليبراليين في أماكن أخرى، وصوت البريطانيون على التغيير خاصة أن الأحزاب المحافظة فشلت في تقديم حلول ناجعة للاقتصاد الوطني، بينما ظلت السياسة الخارجية البريطانية تقريبا على حالها ولا يبدو في الفترة القصيرة القادمة أن تتغير معالم هذه السياسة، على سبيل المثال يتوقع أن يكون تأثير نتائج الانتخابات البريطانية ضعيف على الانتخابات الأميركية، وقد يعزز صعود الفصائل المحافظة في أوروبا من فرص ترمب في الفوز في الانتخابات الامريكية، حيث أن هناك تحول واسع في مشاعر الناخبين نحو السياسات اليمينية، ما قد يزيد من جاذبية ترمب بين الناخبين ذوي التفكير المماثل في الولايات المتحدة. كما قد لا يدعمون خطته في أوكرانيا، لعدم وضوحها، ولكن من المرجح قبول نهجه في التعامل مع إسرائيل وغزة، حيث تعهد بدعم حرب إسرائيل بشكل كامل وغير مشروط.
رابعا: اليسار الفرنسي يعصف بآمال اليمين المتطرف:
حقق تحالف اليسار الفرنسي انتصارا مفاجئا في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية دون أن يحصل على الأغلبية، وحصل على المركز الأول في عدد النواب بالجمعية العامة، وأسعد فوز تحالف اليسار الفرنسي المهاجرين وأغضب اليمين المتطرف الذي تراجع إلى المركز الثالث.ولم يكتف تحالف الأحزاب اليسارية الجديد بمقاومة فوز اليمين المتطرف بالمرتبة الأولى واجتياح الجمعية الوطنية، بل انتصر وتصدر ليصبح القوة السياسية الرائدة في البلاد. ومن دون أغلبية طالب تحالف اليسار تحت راية «الجبهة الشعبية الجديدة» بحقه في الحكم وأكد على تمسكه ببرنامجه الانتخابي دون تراجع عن أي من نقاطه.
إن فوز اليسار لم يكن متوقعا من قبل أشد المتفائلين، حيث مالت كفة التوقعات إلى اليمين المتطرف الذي تقدم في الانتخابات الأوروبية وكذلك في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في فرنسا. وبالتالي، كل التقديرات كانت تشير إلى حصوله على أغلبية نسبية. ويبقى من المؤكد أن اليسار حقق نتيجة تعاكس السياق العام الأوروبي بتقدم اليمين المتطرف في إيطاليا، النمسا وهولندا وحتى في ألمانيا. ما قام به اليسار كان أمرا استثنائيا، إذ أنه وحّد الأحزاب الأربعة (الاشتراكية والشيوعية والخضر وفرنسا الأبية). ونظر إليه الفرنسيون بتقدير وتعبير عن المسؤولية عندما أعلن بسرعة كبيرة عن سحب مرشحيه الذين جاءوا في المركز الثالث في الجولة الأولى لصالح المعسكر الرئاسي وذلك لعرقلة تقدم حزب الجبهة الوطنية.
في ظل ضبابية المشهد السياسي في فرنسا وصعوبة التحالفات الحزبية من الناحية العددية والسياسية، فان الانتصار لقيم الجمهورية والخوف من التطرف والانغلاق والعنصرية، دفعت الفرنسيين للتعبير عن إرادة التغيير، بعد فشل السياسات اليمينية في العديد من الملفات الداخلية، وفقدان فرنسا في عهد الرئيس ماكرون الكثير من بريقها ونفوذها على مستوى السياسة الخارجية وخاصة دورها كقوة كبرى في الاتحاد الأوروبي وفي القارة الإفريقية. وبعيدا عن المزايدات السياسية، فان انتظارات المواطن الفرنسي تتجاوز سقف الصراعات الايديولوجية، حيث تنتظر الحكومة المقبلة كيفما سيكون شكل التحالف المقبل، العديد من الرهانات أهمها تقوية الاقتصاد، والعدالة الاجتماعية وتأمين الخدمات الضرورية، وسياسات للهجرة واللجوء تتمسك بالبواعث الانسانية وتتعاطى مع هذه القضية بانفتاح أكبر بدل نشر الكراهية ونبذ أسس التعايش السلمي في المجتمع الفرنسي.
ختاما وبرغم صعود تيارات اليمين المتطرف في العديد من الدول الغربية وانتشار الخطابات الشعبوية التي تترجم الواقع البئيس للممارسة السياسية لهذه التيارات، فإن فوز اليسار في بريطانيا وفرنسا وقبل ذلك في إسبانيا، يحقق دون شك نوعا من التوازن السياسي والاجتماعي في أوروبا، ويعيد نسبيا الأمل في العمل السياسي ويسترجع ثقة الجماهير الشعبية في خطابات اليسار، بعدما أبعد عن السلطة في الفترة السابقة، كما يمنح الأمل مجددا للمهاجرين الى أوروبا والذين يطمحون في الاندماج بدل سياسات الاقصاء والترحيل.
مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟
لا يوجد تعليقات