مجلة عسكرية و استراتيجية
تصدر عن مديرية التوجيه المعنوي في القيادة العامة للقوات المسلحة
الإمارات العربية المتحدة
تأسست في اغسطس 1971

2023-07-11

أزمة الطاقة العالمية ومستقبل الوصول إلى الحياد الكربوني

تفاقمت أزمة الطاقة العالمية بصورة كبيرة خلال عام 2022 عقب الأزمة الروسية الأوكرانية، والتي أثَّرت بالسلب على سلاسل التوريد الخاصة بموارد الطاقة التقليدية، خاصة إلى أوروبا، الأمر الذي أثار المخاوف بشأن مُستقبل الوصول إلى الحياد الكربوني في ظل سعي بعض الدول إلى تعزيز الإنتاج المحلي لموارد الطاقة التقليدية، ومع ذلك بدأت بعض الدول في البحث عن بدائل لموارد الطاقة التقليدية بالتحول نحو استخدام موارد الطاقة النظيفة، ومن ثَمَّ تسعى هذه الورقة للإجابة عن تساؤل رئيس وهو: إلى أي مدى يُمكن لأزمة الطاقة العالمية التأثير على مستقبل الوصول إلى الحياد الكربوني العالمي؟
 
 بقلم: أ.  رانيـا سليمان سعد الدين
 
الأزمة الروسية الأوكرانية وأثرها على أزمة الطاقة العالمية
تفاقمت أزمة الطاقة مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير 2022؛ حيث ترتَّب عليها حدوث تقلبات سعرية كبيرة في أسواق الطاقة العالمية، وكانت الدول الأوروبية هي الأكثر تضرُّرًا من تلك الأزمة لاعتمادها الرئيس على روسيا في استيراد الغاز الطبيعي والفحم، الأمر الذي أثَّر بالسلب على حركة التجارة العالمية في مجال الطاقة. 
 
وفي هذا الإطار، ارتفعت أسعار موارد الطاقة غير المُتجددة إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث كان لارتفاع أسعار الفحم والغاز الطبيعي تأثير سلبي على تكلفة استخدام الكهرباء في جميع أنحاء العالم بنسبة تصل إلى 90%، الأمر الذي دفع الدول الأوروبية إلى اتخاذ قرار باستيراد (50 مليار م3) إضافية من الغاز الطبيعي المُسال في عام 2022 مقارنة بعام 2021، ورغم انخفاض حدة ذلك التأثير بعد انخفاض الطلب الصيني نتيجة تطبيق السياسات الخاصة بمواجهة انتشار فيروس كورونا في البلاد، فإن ارتفاع الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال قد أدى إلى نقص تلبية احتياجات المستوردين الآخرين في آسيا. 
 
ونتيجة لذلك، بدأت بعض الدول في التوجُّه نحو الطاقة المتجددة لتلبية احتياجاتها المستمرة من موارد الطاقة، الأمر الذي دفع وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى توقُّع مضاعفة نمو استخدام الطاقة المتجددة في السنوات الخمس المُقبلة، مُتجاوزًا استخدام الفحم باعتباره أكبر مصدر لتوليد الكهرباء في الوقت الحالي.
 
وفي السياق ذاته، تُشير التقديرات إلى أن أزمة الطاقة العالمية الحالية قد تكون نقطة تحول محورية تجاه تسريع تحقيق الحياد الكربوني عالميًّا، خصوصًا في ظل التوقعات بارتفاع الاستثمارات في مجال إنتاج الغازات منخفضة الانبعاث بشكل حاد خلال السنوات القليلة القادمة، وبالأخص الهيدروجين الأخضر الذي ستتخطى مستويات إنتاجه السنوية في منطقة المحيط الهادئ نحو 30 مليون طن بحلول عام 2030، أي ما يعادل أكثر من (100 مليار م3) من الغاز الطبيعي. 
 
أزمة الطاقة العالمية والتحول نحو الطاقة المتجددة
في ضوء توجُّه دول العالم نحو استخدام موارد الطاقة المُتجددة في ظل ارتفاع أسعار موارد الطاقة التقليدية من نفط وغاز طبيعي جرّاء الأزمة الروسية الأوكرانية، تُشير التقديرات إلى أنه من المتوقَّع أن ينمو إنتاج الكهرباء عالميًّا بالاعتماد على موارد الطاقة المُتجددة بمقدار 2400 جيجاوات خلال الفترة من 2022 إلى 2027، بزيادة قدرها 30٪ مقارنة بتوقُّعات عام 2021، ومن ثمَّ تُشكِّل الطاقة المتجددة ما يزيد على 90% من الإنتاج العالمي للكهرباء خلال فترة التوقُّعات. 
 
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن المملكة المتحدة تُعَد من أكثر دول العالم سعيًا نحو تحقيق الالتزام بسياسة صفر انبعاثات بحلول عام 2050؛ حيث بدأت في السعي لخفض الانبعاثات بنسبة 50% على المدى المتوسط، من خلال إنتاج 50 جيجاوات من الكهرباء اعتمادًا على طاقة الرياح، و10 جيجاوات اعتمادًا على الهيدروجين الأخضر، بما يُمهد لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بقيمة تتراوح بين 20 و30 مليون طن سنويًّا بحلول عام 2030. 
 
وبعيدًا عن أوروبا، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال قانون خفض التضخم الأمريكي -الذي تم التصديق عليه في أغسطس 2022- على تعزيز قدراتها الإنتاجية اعتمادًا على الطاقة النظيفة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بقيمة تمويل تصل إلى 391 مليار دولار أمريكي، بما يُضاعف قدرة الإنتاج بمعدل 2.5 ضعف القدرات الإنتاجية الحالية، الأمر الذي من المرجَّح أن ينعكس في رفع قيمة مبيعات السيارات الكهربائية إلى 7 أضعاف بحلول عام 2030. 
 
هذا وتعمل اليابان من خلال برنامج التحول الأخضر الياباني (GX) على توفير دفعة تمويلية كبيرة للاستثمار في التكنولوجيا الخاصة بالطاقة النووية والطاقة منخفضة الانبعاثات، وهو الأمر ذاته الذي تتطلَّع كوريا الجنوبية إلى تحقيقه من خلال تعزيز دور كل من الطاقة النووية والمتجددة في إنتاج مزيج الطاقة لديها، كما بدأت الهند في إحراز تقدم واضح في هذا السياق عبر سعيها لتحقيق هدف الوصول إلى إنتاج 500 جيجاوات من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة في تلبية ما يقرب من ثُلثي الطلب المتزايد على الكهرباء في البلاد. 
 
ورغم الجهود التي تبذلها دول العالم لا تزال الصين هي اللاعب المهيمن في مجال الطاقة المتجددة؛ حيث تُهيمن على أكثر من 80% من الإمدادات العالمية اللازمة لصناعة الألواح الشمسية، كما تتوقَّع الوكالة الدولية للطاقة أن ترتفع تلك النسبة إلى 95% بحلول عام 2025، وبالتالي فقد تستحوذ الصين على ما يقرب من نصف إضافات الطاقة المتجددة العالمية خلال الفترة من 2022 - 2027.
 
تحديات التحول نحو الطاقة المتجددة (تحقيق الحياد الكربوني)
بالرغم من التوقُّعات الإيجابية سالفة الذكر بشأن تسارع وتيرة التحول نحو استخدام مصادر الطاقة المتجددة عالميًّا وتحقيق الحياد الكربوني، فإنه لا تزال هناك مجموعة من التحديات التي قد تؤثِّر على تحقُّق تلك التوقعات، ومن أبرزها:
مُعاناة الاقتصادات الناشئة والنامية من ضعف السياسات التنظيمية الخاصة باستخدام الطاقة المتجددة، وعدم وجود بنية تحتية مؤهلة، فضلًا عن الافتقار إلى التمويل المُيسر للاستثمار في المشروعات الجديدة للطاقة.
 
قد يؤدي التراجع الاقتصادي العالمي وارتفاع معدلات التضخم العالمية، إلى إعاقة الاستثمارات اللازمة لتسريع تطوير التكنولوجيا الجديدة في مجال استخدام الطاقة المتجددة. 
 
ارتفاع تكلفة بعض مصادر الطاقة المتجددة في ظل زيادة الطلب العالمي عليها في ضوء المساعي الأوروبية لوقف الاعتماد على الغاز الروسي. 
 
في حال عدم القُدرة على تسريع الاستثمارات في الطاقة النظيفة، سيكون هناك حاجة إلى زيادة الاستثمار في النفط والغاز لتجنُّب المزيد من التقلبات في أسعار الوقود، الأمر الذي قد يؤثِّر بالسلب على المخططات العالمية للوصول إلى الحياد الكربوني. 
وفي ضوء تلك التحديات، قد تلجأ دول العالم إلى تقديم الدعم المالي للشركات والأسر لضمان انخفاض أسعار الطاقة واستقرارها، ورغم ذلك فإن هذا الخيار يعد مكلفًا للغاية، خصوصًا في ظل التضخم العالمي المتسارع، والذي قد يؤدي بدوره إلى مزيد من الضغوط على قطاع الطاقة. 
 
مستقبل الوصول إلى الحياد الكربوني
في ضوء ما تم تناوله من تداعيات للأزمة الروسية الأوكرانية على أزمة الطاقة العالمية، والسياسات التي اتبعتها بعض الدول تجاه توفير بدائل لموارد الطاقة التقليدية، وذلك من خلال التحول نحو الطاقة المتجددة، تُشير التقديرات إلى وجود ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل الوصول إلى الحياد الكربوني:
 
السيناريو المتفائل: يفترض أن جميع دول العالم ستتمكَّن من الوفاء بتعهداتها المُعلنة فيما يتعلَّق بالحياد الكربوني؛ وذلك نتيجة تحولها نحو موارد الطاقة المتجددة، وصولًا إلى الأهداف طويلة الأجل المتمثلة في تحقيق صافي صفر انبعاثات بحلول عام 2050. 
السيناريو المعتدل: يرى أنه بمجرد عودة أسواق الطاقة للعمل بشكل طبيعي ستنمو مصادر الطاقة المتجددة بشكل كبير؛ مما سيدفع دول العالم إلى تخفيض الطلب على المصادر غير المُتجددة للطاقة، ومع ذلك ستستمر بعض المناطق في استخدام تلك المصادر، وعلى رأسها الهند وجنوب شرق آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. 
 
السيناريو المتشائم: يُشير إلى أنه في حال تسارع وتيرة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بشكل كبير ستزداد الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة؛ حيث ستسعى الاقتصادات المتقدمة إلى تقليل استخدامها للنفط والغاز الطبيعي وتفضيل مصادر الطاقة المتجددة، في حين سيزيد الطلب على الغاز الطبيعي في الاقتصادات الناشئة، وهو ما قد يؤثِّر بالسلب على تحقيق الحياد الكربوني العالمي، لذا يجب التعامل بحذر مع تسارع وتيرة التحول نحو الطاقة المتجددة لمنع حدوث ذلك السيناريو. 
 
وفي ضوء ما سبق، نجد أنه رغم التحديات التي تواجه تحول العالم نحو الطاقة المتجددة، فإنه يُمكن القول بأن دول العالم تسير حاليًّا في طريقها لتحقيق السيناريو المعتدل؛ حيث إنه رغم استمرار بعض الدول في الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة، فإن بعض الدول الكبرى -الأكثر إنتاجًا للغازات المُسببة للاحتباس الحراري- قد بدأت في استبدال مصادر الطاقة المتجددة بأخرى غير متجددة؛ وذلك من خلال تخفيض استخدام الفحم بالتزامُن مع تناقُص الطلب على النفط والغاز الطبيعي، وذلك في الوقت الذي ترتفع فيه مبيعات السيارات الكهربائية، الأمر الذي يُرجِّح انخفاض مستويات الطلب على مصادر الطاقة التقليدية بحلول منتصف عام 2030. 
 
وجدير بالذكر أن مؤشر أداء تغير المناخ لعام 2023 (Climate Change Performance Index 2023)، والصادر في نوفمبر 2022، قد أشار إلى مدى التزام دول العالم باستخدام مصادر الطاقة النظيفة في ظل أزمة الطاقة العالمية الحالية، واللافت في المؤشر هو استمرار فراغ المرتبة الأولى والثانية والثالثة فيه؛ إذ لم تتمكن أي دولة من دول العالم من تحقيق المعايير المطلوبة، ويوضِّح الشكل التالي أفضل 5 دول عالميًّا في مؤشر أداء تغير المناخ 2023 بدءًا من المرتبة الرابعة عالميًّا:
ومن الشكل السابق، نجد أن الدنمارك والسويد ما زالتا محتفظتين بالمرتبة ذاتها من العام الماضي، في حين ارتفعت تشيلي 3 مرتبات، والمغرب مرتبة واحدة، والهند مرتبتين مقارنةً بنتائج مؤشر العام السابق 2022. 
 
وختامًا، في ضوء ما سبق نجد أن الأزمة الروسية الأوكرانية وما ترتب عنها من تفاقُم أزمة الطاقة العالمية قد شكَّلت دفعة جيدة لدول العالم للتحول نحو استخدام مصادر الطاقة المتجددة، وتسريع وتيرة الوصول إلى الحياد الكربوني، ولتحقيق ذلك سيتعين على الحكومات التركيز بشكل أكبر على الأهداف والسياسات الخاصة بتعزيز الاستثمار في مجال الطاقة النظيفة، وهو ما يستدعي وضع نموذج جديد لأمن الطاقة يضمن الكفاءة في استخدام الطاقة مع تقليل الانبعاثات والتكلفة، وذلك بالتزامُن مع السعي إلى حل أزمة سلاسل إمداد الطاقة العالمية، وبالتالي يُمكن لدول العالم الصمود أمام أزمة الطاقة العالمية وتغير المناخ معًا بما لا يُخل بالجدول الزمني المُحدد لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. 
 


اضف تعليق

Your comment was successfully added!

تعليقات الزوار

لا يوجد تعليقات

اغلاق

تصفح مجلة درع الوطن

2024-05-01 العدد الحالي
الأعداد السابقة
2016-12-04
2014-06-01
2016-12-04
2017-06-12
2014-06-09
2014-03-16
2014-11-02
2016-07-13
.

استطلاع الرأى

مارأيك في تصميم موقع درع الوطن الجديد ؟

  • ممتاز
  • جيد جداً
  • جيد
عدد التصويت 1647

مواقيت الصلاه

  • ابو ظبي
  • دبي
  • الشارقه
  • عجمان
  • ام القيوين
  • راس الخيمة
  • الفجيره